فارس بلا جواد، الفرسان، عصر الأئمة، هارون الرشيد، أبو حنيفة النعمان، إمام الدعاة، الزيني بركات، الملك فاروق، جمهورية زفتى، عمر بن عبد العزيز، عمرو بن العاص، رأفت الهجان، صديق العمر، قاسم أمين، أم كلثوم .. أمثلة لمسلسلات ارتبطت بتشكيل وجدان أجيال عدة حول التاريخ المصري والعربي.
تتنوع هذه المسلسلات التاريخية ما بين مسلسلات تاريخية دينية مثل مسلسل "عمر بن عبد العزيز" أو تاريخية اجتماعية مثل "ألف ليلة وليلة"، أو مسلسلات تاريخية سياسية مثل "رأفت الهجان" و"جمهورية زفتى" و"الملك فاروق" و"الطارق"، أو مسلسلات تاريخية تتناول السيرة الذاتية للمشاهير مثل "أسمهان" أو "السندريللا" و"أم كلثوم" و"قاسم أمين" و"مشرفة.. رجل لهذا الزمان".
دوماً ما تحصل المسلسلات التاريخية على نسب مشاهدة عالية بسبب طبيعة إنتاجها الضخم وموضوعاتها الجاذبة للجماهير، وبسبب طبيعة الشعب المصري المُحِب والمعتز بتاريخه وحضارته وتراثه.
مؤخراً تصاعدت حدة الجدل حول مسلسل "الملك"، وهو المسلسل الذي تم إيقافه بسبب عدم الدقة في اختيار الملابس والممثلين المناسبين للحقبة التاريخية التي تناولها المسلسل. فالمسلسللم يراعي، حسب منتقديه، الدقة التاريخية في التفاصيل الفنية مثل ملامح الممثلين أو الملابس والديكورات والاكسسوارات، وهو ما يخل بمصداقية ومراعاة البعد التاريخي للعمل. وقد دار النقاش بداية من طرح برومو المسلسل وبعض الصور له. وتعرضت الدعاية الخاصة به لانتقادات قوية من زوايا عدة على غرار عدم مراعاة الصفات التشريحية لبطل المسلسل الذي جسد شخصية الملك أحمس، فكان يجب أن تكون ملامحه تحمل الطابع المصري. بالإضافة إلى أن بطلة العمل شعرها أصفر اللون وتم تبرير ذلك بأنها من الهكسوس ولكن لم يعرف عن الهكسوس أن شعرهم أصفر اللون. كما أن الزى الذي كانت ترتديه، وهو "العباءة السوداء"، لم تكن المرأة في مصر القديمة ترتديه[1].فضلاً عن ذلك، وجّه عدد من الأثريين انتقادات جمة للمسلسل كما انتقدته الجماهير. ومن هنا قررت الشركة المنتجة للمسلسل إيقافه وتشكيل لجنة عاجلة من مجموعة من المتخصصين فى التاريخ والآثار وعلوم الاجتماع وذلك لمشاهدة المسلسل ومراجعة السيناريو كاملاً وإبداء الرأي بموضوعية ومهنية[2].
وقد زاد النقد حول برومو المسلسل، خاصة أنه قد تم الإعلان عنه بعد حفل موكب المومياوات الملكية مباشرةً، وهو الحدث الذي تابعه الملايين في مصر والعالم. هذا الحفل الذي صور الرحلة الذهبية الملكية لنقل إثنين وعشرين مومياء ملكية من المتحف المصري في ميدان التحرير إلى متحف الحضارة المصرية بالفسطاط.
واقعة مسلسل الملك أثارت مجموعة من الإشكاليات. إذ يدفع موضوع المسلسل ووقف عرضه إلى الحديث حول ما إذا كان الفن لابد أن ينقل الواقع بحذافيره كما هو أم لا؟، وإلى أى حد يمكن للفنان أن يمتلك الحرية لأن يبتكر أحداثاً جديدة أو شخصيات جديدة قد تكون ملائمة للسياق الدرامي مع عدم صدقها؟، ولماذا هذا الجدل الكبير حول المسلسلات التاريخية؟.
بداية، يمكن القول إن هناك إشكالية في المسلسلات التاريخية والتراثية تكمن في أن صناع التراث كثيراً ما يلجأون إلى الموروث الفني عن الحدث التاريخي نفسه بدون الرجوع إلى الوثائق الرئيسية أو المؤرخين. ومن هنا قد يحدث تغيير في بعض الأحداث والوقائع التاريخية. ولكن ما هو الحد المسموح لتغيير الواقع وما هى المساحة الإبداعية التي يمكن أن تُترك للمبدع؟.
في الدراما التلفزيونية، هناك بعد متخيل وبعد حقيقي. لكن الإشكالية هنا هى ما إذا كان البعد المتخيل مُزيِّفاً للواقع والحقيقة. فهذا يرتبط بمدى تأثير الفنون على الجماهير. ولأن المسلسلات لها تأثير كبير على الجماهير فإن ذلك يعني أنه إذا تم نقل معلومات خاطئة لها فإنها قد تتعرض للتضليل. وبالطبع، فإن مدى إمكانية تضليل الجماهير يرتبط بمدى تأثير الدراما التلفزيونية على الوعى.
تأثير الدراما التلفزيونية على وعى الجماهير
للتلفزيون تأثير بمثابة السحر. كل ما يُعرض على التلفزيون مؤثر سواء كان مسلسلات أو أفلام أو برامج أو إعلانات. وبالنظر إلى المسلسلات، يتضح أنها لا تخاطب الصفوة الثقافية في المجتمع أو فئة دون فئة ولكنها تخاطب الجميع المتعلم وغير المتعلم، المثقف وغير المثقف، الغني والفقير، الكبير والصغير.
من هنا، يمكن القول إن التلفزيون جهاز إعلامي شديد التأثير موجود في البيوت المصرية كافة وهو الوسيلة الإعلامية التثقيفية محدودة التكلفة. وللتلفزيون سحر كبير ويمتلك عناصر الجذب والإبهار التي تتسم بها الدراما التلفزيونية مثل القصة الإنسانية الاجتماعية والحبكة الدرامية والأداء الجيد للممثلين والمؤثرات الصوتية والألوان.ولا يمكن إغفال أن الشباب يمضون وقتاً طويلاً أمام الشاشات فيكون بمثابة مجالاً هاماً أمامهم للترفيه وقضاء وقت الفراغ[3].
وتشير بعض الدراسات التي قامت باستطلاع رأى لمجموعة من الأميين وغير الأميين أنهم يستقون جانباً كبيراً من معلوماتهم من المسلسلات التلفزيونية[4].وللتلفزيون تأثير أكبر على السيدات، حيث تكشف الدراسات أيضاً اهتمام النساء بمشاهدة المسلسلات سواء أميات أو غير أميات. وتشير الدراسات أيضاً إلى أن التلفزيون قد انتشر بين الطبقات الفقيرة، وبالرغم من أنه يُنظر إليه كوسيلة للتسلية والترفيه، فمن الممكن استخدام إمكانياته لتحقيق أهداف إعلامية وسياسية وتعليمية.
من جهة أخرى تؤثر المسلسلات على قطاع كبير من الشباب الذي يمكن أن لا يشاهد المسلسلات على التلفاز ولكن عبر وسائط جديدة مثل Netflix وWatch it وشاهد. فعبر الإنترنت يمكن للشباب أن يتابع الجديد المعروض على التلفزيون.
وبلا شك، تسهم المسلسلات التلفزيونية في تشكيل الوعى، وهو ما يبدو جلياً في التأثير الذي فرضته مسلسلات "رأفت الهجان" أو "دموع في عيون وقحة" أو "السقوط في بئر سبع" أو "الحفار" أو "حرب الجواسيس". فكلها مسلسلات ساهمت في رفع الحس الوطني وترسيخ قيم الانتماء والهوية المصرية. وقد تناولت هذه المسلسلات أحداثاً تاريخية حقيقية من خلال تجسيد عملية حربية مثلاً على غرار "الحفار" أو قصة حقيقية من ملفات المخابرات المصرية مثل "رأفت الهجان". كانت هذه المسلسلات لتجسيد الواقع وساهمت في تأريخ مراحل مهمة من الحياة السياسية المصرية. وقد حققت نجاحاً كبيراً لأنها مارست دوراً في نقل ما حدث على الشاشة وقد كانت مسلسلات مقنعة لأنها خاطبت عقل ووجدان المشاهد، حتى لو كانت هناك بعض التغييرات عن الواقع، فإنها تبقى في نطاق ضيق لا يؤثر في الأحداث الهامة، حيث تهدف مثلاً إلى إضفاء الطابع الدرامي مثل إضافة قصة حب أو علاقة صداقة أو اختيار جانب واحد من حياة البطل والتركيز عليه، لكن لم تكن هناك أخطاء جمة تُشعِر المشاهد بأن هذا المسلسل غير تاريخي ومُزيِّف للواقع.
الواقع مادة للمسلسلات التلفزيونية
في المسلسلات التاريخية، هناك خلط بين الواقعي والمتخيل. ففي بداية الأفلام والمسلسلات التلفزيونية التاريخية، تكتب عبارة أن هذه الأحداث تعبر تماماً عن خيال المبدعين ولا تمت للواقع بصلة، أو أن هناك تشابهاً مع أحداث واقعية ولكن الأسماء والأماكن وبعض الأحداث غير حقيقية.
وتستدعي المسلسلات التاريخية لحظة تاريخية معينة في وقت آخر وشبيهة بهذا الواقع وتأخذ منها عبرة أو درساً. وأحياناً يتم استدعاء لحظة تاريخية قديمة للترميز للواقع الحالي لأن الواقع لا يختلف عن الماضي. فلا يمكن إغفال الرمزية في المسلسلات التاريخية لأن كثيراً ما يربط المشاهد تلقائياً بين الأحداث التاريخية والواقع.
من زاوية أخرى، يقوم المبدع بتأطير جانب معين من حدث تاريخي أو لحظة تاريخية معينة أو شخصيات محددة، فلا يمكن أن يقوم المبدع برصد الحدث التاريخي بكافة تفاصيله ولكنه يختار زاوية محددة تعبر عن منظوره عن الحدث التاريخي نفسه.
الدراما التلفزيونية.. بين حرية الإبداع والتوثيق السليم
في كتابه "عن الحرية" يتطرق الفيلسوف جون ستيوارت ميل إلى قضية الحرية الفردية والتي تشمل حرية الرأي والفكر. رأى ميل أنه لابد من إطلاق الحريات الفردية، إلا إذا كانت هذه الحريات تمثل تهديداً للمجتمع. وقد اختلف قراء كتابات ميل في فهمهم لمعنى الخط الفاصل الذي إذا تعداه الفرد يمثل تهديداً للمجتمع. واتسع نطاق الاختلاف حول ما الذي يمكن أن يمثل الخطر الحقيقي الذي يهدد المجتمع، وهو ما يطرح تساؤلا هاماً مفاده: هل عرض الحقائق المزيفة على الشاشة يمثل خطراً حقيقياً أم لا؟، وهل يستطيع المشاهد أن يميز بين الغث والثمين أم أن هناك ضرورة لوجود مؤسسات لتنظيم ما يشاهده المتفرجون لأن ذلك يمكن أن يزيف وعى الجماهير؟.
رأى الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو أن الجماهير لا تستطيع في كثير من الأحيان التحرر من المنتج المعروض عليها، وقد تناول ذلك من خلال الإشارة إلى مفهوم "صناعة الثقافة"، أى أن هناك مؤسسات وأجهزة تصنع الأفكار. ويعتبر أدورنو أن الجماهير هى في الحقيقة ضحية لصناعة الثقافة في ظل الحداثة، وذلك لأنهم يستسلمون للتلفزيون وما يُعرض على الشاشة. وبمشاهدة التلفزيونيصبح الفرد سلبياً متأثراً مكبلاً بالشاشة. وتصبح المنتجات الثقافية بمثابة سلعاً تُستهلك فقط. هنا يتم القضاء على الفردية والقدرة النقدية التحليلية للفرد لأنه يصبح أسيراً لهذه الصناعة الثقافية[5]. وفي كتابهما "صناعة الثقافة: التنوير كخداع للجماهير" يشير ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو إلى أن المؤسسات تتحكم في المنتج الإعلامي وتتحكم في وعي الجماهير وهو ما يمكنه أن يسهم في خداعها.وفي رأيه فإن التلفزيون والراديو أداتان أيديولوجيتان في يد هذه المؤسسات[6]. ويرتبط ذلك بالجدل حول المسلسلات التاريخية، فبناءً على هذه الأطروحات لا يمتلك الجمهور الوعي الكافي للتمييز بين الجيد والردىء.
الأعمال الدرامية والحفاظ على الذوق العام
تثير قضية مسلسل "الملك" إشكالية أخرى، وهى دور الدولة في حماية الذوق العام. وقد نشر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام مؤخراً عدداً من المحاذير الخاصة بالمسلسلات مثلضرورة الرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص في كل مجال في حالة تضمين المسلسل أفكاراً ونصوصاً دينية أو علمية أو تاريخية حتى لا تصبح الدراما مصدراً لتكريس أخطاء معرفية.وقال الكاتب الصحفي كرم جبر رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، أن المجلس سيُفعِّل لائحة الجزاءات في حق جميع المخالفين دون استثناء.ونصّت لائحة الجزاءات على عقوبات مخالفة المعايير والأكواد التي وضعها المجلس، والتي تبدأ بلفت الانتباء والإنذار مروراً بتوقيع غرامة، وتنتهي بمنع البث، وكان المجلس قد طلب حذف بعض المشاهد المخالفة في أعوام سابقة[7].
من هنا جاء وقف مسلسل الملك، وهو ما يعيد إلى الأذهان موقف نقيب الموسيقيين من أغاني المهرجانات العام الماضي. فقد أدلى الفنان هاني شاكر بمجموعة من التصريحات لمنع أغاني المهرجانات. وهذا الخطاب يمكن تسميته بخطاب حماية الذوق العام أو خطاب المنع. وقد لاقت أغاني المهرجانات هجوماً عنيفاً من جانب نقابة الموسيقيين التي أصدرت قراراً بمنعها بدعوة أنها تهدد الثقافة والفن المصري، وتمس الذوق العام بالسلب. وقد قال شاكر أن هناك ضرورة لحماية المجتمع من القيم السلبية والتجاوز الأخلاقي[8]. لذا ترى الدولة أهمية الحفاظ على المستوى الفني والتراث المصري والتأريخ السليم لمواجهة كل ما يمكن أن يزيف التاريخ أو يسيىء للواقع.
في النهاية، يمكن القول إن التلفزيون يؤثر على وعى الجماهير بصورة كبيرة. ويقول عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في كتابه "التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول"أن التلفزيون شديد التأثير على الجماهير ويمكن أن يتم استخدام البرامج والدراما التلفزيونية في تزييف وعيها. فيقوم التلفزيون بتأطير جانب معين من الواقع وقد ينقل واقعاً غير حقيقي[9]. من هنا عندما تتم مشاهدة المسلسلات، وخاصة المسلسلات التاريخية، لابد من إدراك أنه رغم أنها مجرد أداة للترفيه، لكنها تؤثر على الوعى والمعرفة بالتاريخ والحضارة. وإذا كان أدورنو وهوركهايمر قد تطرقا إلى التأثير الكبير للتلفزيون على الجماهير والقدرة القليلة للفرد للتحرر من المعروض أمامه على الشاشة، فإن المشاهد يظل على قدر كبير من الوعى والإدراك للأفلام والمسلسلات التاريخية المصنوعة بدقة مثل "رأفت الهجان" و"الناصر صلاح الدين" و"أيام السادات" والتي أقدمت الجماهير على مشاهدتها مرات عدة على مدى عقود وأصبحت تشكل وعى كثيرين لم يشهدوا أحداثاً هامة في التاريخ المصري مثل حرب أكتوبر.
[2] محمد قناوي، وقف مسلسل أحمس، على الرابط التالي:
https://cutt.ly/Wbx65c4,(accessed, 4/4/2021).
[3] ) نادية رضوان (2006)، دور الدراما التلفزيونية في تشكيل وعي المرأة: دراسة اجتماعية ميدانية، ( القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب)ص ص 15-18.
[4]) المرجع السابق، ص 19.
[5] Theodor W Adorno and J.M. Bernstein (2001), The Culture Industry: Selected Essays on Mass Culture, Second Edition, (New York : Routledge ), pp. 158-178.
[6] Max Horkheimer and Theodor W. Adorno (2012), The Culture Industry :Enlightenment as Mass Deception, ( New York : Routledge ), pp.92 -100.
[9] Pierre Bourdieu (1996), On Television, ( New York: The New Press ), pp.18-22.