قبل تنظيم موكب المومياوات الملكية بأيام شهدت مصر حادث جنوح سفينة "إيفر جيفن" في الممر الملاحي لقناة السويس، وهو الحادث الذي جذب انتباه المصريين والعالم على مدار أسبوع تقريبًا. وما أن تلقف المصريون والعالم خبر نجاح جهود تعويم السفينة الجانحة، كانوا على استعداد لمتابعة موكب نقل المومياوات الملكية.
وبين الحدثان ثلاث دلالات مشتركة: الأولى، تتمثل في التأكيد على المكانة المصرية، حيث ألقى حادث جنوح "إيفر جيفن" الضوء مجدداً على أهمية مصر الاستراتيجية، ومدى تأثر الاقتصاد العالمي بقناة السويس. بينما عكس موكب المومياوات الملكية المكانة المصرية وعمقها الحضاري وقدم دورها التاريخي، بما يعني أن الحادثين أكدا معاً المكانة المصرية بعاملى الجغرافيا والتاريخ.
والثانية، تتعلق بالشخصية المصرية ذاتها التي نجحت في إبراز قدراتها الكامنة، فقد أثبت المرشدون والمهندسون وعمال هيئة السويس قدرات كبيرة وكفاءة ومهارة في التعامل مع الأزمة وتحرير وتعويم السفينة الجانحة التي مثلت تحديًا للهيئة وللاقتصاد العالمي، وهو ما حاولت مصر التأكيد عليه بإبراز أن التعويم تم بـ"أيادي مصرية"، وهي كفاءة ارتبطت في الأذهان بقدرات المصريين في تشغيل القناة بعد تأميمها، وكذلك حفرها بسواعدهم.
وعلى الجانب الآخر، نافس الحفل الاستعراضي لنقل المومياوات الحدث ذاته، حيث لفت تنظيم الموكب والاستعراض الفني انتباه المصريين والعالم. وكان مثار تفاعل المصريين في وسائل التواصل الاجتماعي في 3 أبريل الجاري (2021)، في إعجاب بالحفل الفني والأوركسترا والأضواء وبالتفاصيل المختلفة لعملية النقل. ولفت الموكب الانتباه إلى القدرة المبهرة على التنظيم، وأكدت مصر مرة أخرى على أن الحدث تم إعداده وتنفيذه بـ"أيادي مصرية" بدءًا من الموكب وتصميم العربات، مروراً بتطوير نقاط السير وتصميم الأزياء، وانتهاءاً بالحفل الفني والتنظيم بشكل عام، وهو ما يبرز أيضًا قدرات وكفاءات الكوادر المصرية وإمكاناتها الكامنة.
والثالثة، تنصرف إلى التفاعل والشعور الوطني، حيث برزت في حادث جنوح السفينة مشاعر قلق عام أثناءه، وسعادة شعبية بعد تعويمها، إذ احتفل العمال والمهندسون في القناة بالتهنئة والتكبير، فيما عكست منشورات وسائل التواصل الاجتماعي اهتمامًا وسعادة شعبية بنجاح جهود التعويم. وكذلك فيما يتعلق بموكب المومياوات الملكية، فقد شهد الحدث متابعة كبيرة للنقل المباشر على وسائل الإعلام. وكذلك عكست منشورات وسائل التواصل الاجتماعي شعورًا بالاعتزاز الحضاري والوطني، والسعادة بحسن التنظيم. وجدد الحفل مشاعر عامة بالانتماء والفخر بالتاريخ المصري. أى أن المشاعر الفياضة والاعتزاز الوطني كانت إحدى الروابط التي تجلت في الحدثين.
محددات أساسية
إلى جانب الدلالات السابقة حول الدور الحضاري المستمر، والربط بين موكب المومياوات الملكية وتعويم السفينة الجانحة بقناة السويس، فإن الموكب يطرح عددًا من المحددات الأساسية التي تعبر عن الحالة المصرية بامتياز، يتمثل أبرزها في:
1- حرية العقيدة: حرص الفيلم الترويجي على إبراز فكرة التعددية الدينية في مصر عبر التاريخ، وعلى التأكيد على حرية العقيدة التي كفلها الدستور المصري. وكذلك اهتمام الدولة بترميم وتجديد مزارات دينية وأماكن عبادة مختلفة. كما أكد الفنان خالد النبوي في الفيلم التسجيلي الرسمي على حرية ممارسة الشعائر الدينية بقوله: "الحضارة هى أن يبقى عندك حرية ممارسة عبادتك في وجود عبادات أخرى يعتقدها آخرون. على هذه الأرض كل يوم تمارس حرية الأديان. كل واحد له الحق يمارس ما يعتقده"، وهى الرؤية التي تحتاج إلى تعزيز وتدعيم وحماية من مؤسسات الدولة في إطار المرجعية الدستورية والتاريخية المصرية.
2- تعزيز الشعور الوطني: حرص الحفل والاهتمام السياسي والإعلامي به على تعزيز الشعور الوطني وتدعيم الوحدة الوطنية والمواطنة. وقد نجح الحفل والموكب في رفع الخطاب الوطني العام فوق الخطابات السياسية والأيديولوجية المختلفة بدرجة كبيرة، وذلك إلى جانب تعزيز الشعور بالانتماء، والهوية الوطنية المصرية، واستحضار الدور الحضاري المصري، واستدعاء الفخر بالحضارة المصرية. وتمارس الأحداث الوطنية والتاريخية، والأعمال الثقافية، والتراث، والآثار دوراً في ربط المواطنين بوطنهم بدرجة أكبر، وتعزيز الشعور الوطني لديهم، وهو الأمر الذي تزداد أهميته عندما تواجه الدول تحديات وجودية أو مصلحية صعبة تتطلب تدعيم وحدة الصف الداخلي، ورفع مستويات تماسك الجبهة الداخلية. ولذلك تهتم الدول بشكل عام بالتراث الوطني في أوقات الأزمات التي تتطلب تماسكًا داخليًا ودعمًا شعبيًا واستعدادًا للتحمل والتضحية - أيًا كان نوعها-. وغالبًا ما يكون وراء قرارات تأسيس المتاحف رغبة في ترسيخ الوحدة الوطنية والهوية القومية. وقد نجح الحدث في إيقاظ شعور وطني عام لدى المصريين يحمل اعتزازًا بوطنهم وتاريخهم وتطلعًا لمستقبل أفضل يليق بالعمق الحضاري المصري. وأبرز موكب المومياوات – كما جنوح السفينة – إجماعًا وطنيًا واضحًا.
3- ترسيخ الهوية: جدد موكب نقل المومياوات الملكية والحفل المصاحب له ترسيخ فكرة أن الهوية المصرية تشكل بناءًا متعدد الطبقات امتزجت فيه هويات مختلفة عبر التاريخ، وتشكلت هوية متكاملة تجمع كل ذلك. ولعل هذا المعنى الأخير يتقاطع بدرجة كبيرة مع فكرة المتحف القومي للحضارة المصرية، الذي لم يحدد إسهام الحضارة المصرية بحقبة محددة دون غيرها.
4- الإمكانات البشرية المصرية: أبرز الموكب والحفل قدرة المصريين المستمرة على الإبداع، بدءًا من التصميمات وحتى أدق تفاصيل الإخراج والاستعراض والحفل. فقد أكد الحفل على أن إسناد العمل إلى أهل العلم والخبرة في إطار من الصلاحيات والحرية يعطيهم القدرة على الإبداع المبهر، وتقديم الأفضل. ولعل الحديث عن إقامة "حفل وموكب عالمي بإمكانات بشرية مصرية خالصة" كان بلورة مختصرة لهذا الأمر.
5- الدور النسائي: لفت الحضور النسائي المميز في الاحتفالية انتباه المتابعين، بداية من تقديم الحفل، وكذلك الأدوار الاستعراضية، فضلاً عن الدور المميز في الأوركسترا والغناء. وإلى جانب الفعالية المميزة لهذا الدور، فإنه حمل تأكيدًا على استمرارية الدور الحضاري النسائي في التاريخ المصري، بحضور مميز في الاحتفالية بالموكب الذي تضمن نقل 4 مومياوات لملكات مصريات. وحظى التفاعل مع الدور النسائي في الاحتفال باحتفاء كبير على مواقع التواصل الاجتماعي. ويحمل هذا الدور النسائي المتميز تأكيدًا على دور المرأة المصرية منذ الحضارة المصرية القديمة وحتى الآن، في مختلف مجالات العمل والفنون والإبداع، وهو الدور الذي يحتاج إلى دعم استمراريته في ظل التحديات التي تواجهها المرأة المصرية، والأفكار التي تحاول حصر هذا الدور في نطاقات محددة.
6- القوة الناعمة: عكس حفل وموكب نقل المومياوات الملكية بعض أوجه قوى مصر الناعمة، حيث أبرزت عملية النقل قدرات علمية وتنظيمية وفنية هائلة، كما أن الآثار الفرعونية والحضارة المصرية القديمة تعد إحدى أبرز علامات القوة الناعمة المصرية. وقد نجح الحدث في جذب انتباه وسائل الإعلام العالمية، وأوضح احترام المصريين لتاريخهم. ومن جهة فإن استعراض المومياوات الملكية يبرز تاريخ هؤلاء الملوك والملكات، كما يؤكد عمق التاريخ المصري، وتطور المصريين القدماء، والدور الذي مارسوه في الحضارة العالمية. كما يقدم حسن تنظيم الحفل صورة جيدة عن قدرات وإمكانات الدولة المصرية. وعبر الاستعراض الفني والموسيقى والغناء باللغة المصرية القديمة، عن الإبداع الفني للمصريين القدماء، وعن القدرات الهائلة للأوركسترا والموسيقيين والفنانين المصريين، في عرض فني حاز إعجابًا محليًا وعالميًا، ولفت الانتباه إلى هذا اللون الفني العريق، وإلى هذه الإمكانات البشرية التي أحسنت تقديمه. وكل ذلك لا يقف عند حدود الترفيه إنما يعكس إمكانات القوة الناعمة المصرية التاريخية والأثرية والفنية والإبداعية.
7- ترويج سياحي: استعرض الفيلم التسجيلي الذي أذيع في افتتاح المتحف القومي للحضارة المصرية، وكذلك كلمة وزير السياحة والآثار في الافتتاح، جهود الدولة المصرية في قطاعي الآثار والسياحة خلال السنوات الماضية، عبر تطوير وتشييد وافتتاح متاحف، واكتشاف مقابر أثرية، وعمليات الترميم المستمرة. وقد استغلت الدولة المتابعة العالمية للموكب في التعريف بهذه الجهود ولفت الانتباه إلى المزارات السياحية الجديدة. وبعد تراجع معدلات السياحة في مصر، كغيرها من الدول، فإن الدولة المصرية تأمل أن يشكّل موكب المومياوات الملكية، وافتتاح متحف الحضارة، ومن بعدهما الافتتاح المنتظر للمتحف المصري الكبير، نقطة انطلاق لإعادة جذب السياحة العالمية نحو مصر مرة أخرى. فقد استثمرت الدولة خلال السنوات الماضية موارد مالية كبيرة في قطاع السياحة والمتاحف، وتعمل على أن تحقق هذه الاستثمارات مكاسب في السنوات القادمة، وأن تعود عائدات قطاع السياحة المصري إلى سابق عهدها كأحد المصادر الأساسية لإيرادات الموازنة المصرية.
إجمالًا، حمل افتتاح المتحف القومي للحضارة المصرية، وموكب نقل المومياوات الملكية إليه، عددًا من الدلالات والنتائج، التي تركزت حول الهوية المصرية، والقدرات البشرية المصرية، واستمرارية الدور الحضاري المصري. كما كشفت مصادفة تنظيم الموكب عقب تعويم السفينة الجانحة في قناة السويس عددًا من السمات المشتركة بين الحدثين، ووجهت رسائل عديدة عكست إمكانات القوة الناعمة المصرية.