التوتر الأمريكي - الروسي: دبلوماسية جديدة أم "لعب بالنار" ؟
2021-3-20

د. أحمد قنديل
* رئيس وحدة العلاقات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيحية

وصل التوتر بين الولايات المتحدة وروسيا إلى مستوى جديد غير مسبوق، في 17 مارس الجاري (2021)، بعد أن أجاب الرئيس الأمريكي جو بايدن بـ"نعم"، خلال مقابلة تلفزيونية، حول ما إذا كان يعتقد أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين "قاتل". وأضاف بايدن أن بوتين "سيدفع الثمن" على ما تعتبره واشنطن جهوداً قامت بها موسكو للتأثير على الانتخابات الأمريكية الأخيرة، التي جرت في نوفمبر 2020 لمصلحة الرئيس السابق دونالد ترامب، وهو الأمر الذي أكده تقرير استخباراتي أمريكي، رُفعت عنه السرية ونشره مكتب مديرة الاستخبارات الوطنية الأمريكية أفريل هاينز.

وفي ردّ فعل على تصريحات بايدن، التي حملت للمرة الأولى انتقادات قاسية ومباشرة ضد بوتين، أمرت روسيا سفيرها لدى واشنطن، أناتولي أنتونوف، بالعودة إلى موسكو، لإجراء مشاورات حول "كيفية تطوير العلاقات مع الولايات المتحدة في المستقبل". وتعد هذه هى المرة الأولى في التاريخ الحديث الذي تدعو فيه موسكو سفيرها في واشنطن للعودة إلى بلاده لإجراء مشاورات، على حد وصف المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية. كما اعتبر مجلس الدوما (البرلمان الروسي) تصريحات بايدن "إهانة لجميع الروس"، بينما رد الرئيس الروسي على نعت نظيره الأمريكي له بـ"القاتل"، وقال إن "القاتل هو من يصف الآخر بذلك"، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة كانت الدولة الوحيدة في العالم التي استخدمت سلاحاً نووياً ضد الخصوم. كما تحدث بوتين أيضاً عن معاملة المستعمرين الأوروبيين للسكان الأصليين في الولايات المتحدة. ومن جهته، أكد المتحدث باسم الرئيس الروسي، ديمتري بسكوف، أن بايدن "لا يريد تحسين" العلاقات بين البلدين، الأمر الذي سوف يدفع روسيا إلى تطبيق مبدأ "المعاملة بالمثل"، كما أشار وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف.

مأزق حقيقي

تشير التصريحات المتبادلة بين قادة واشنطن وموسكو إلى أن العلاقات الروسية - الأمريكية قد وصلت إلى "مأزق حقيقي"، بل وربما إلى "طريق مسدود". إذ يبدي الرئيس بايدن، منذ وصوله إلى البيت الأبيض في  20 يناير الماضي، موقفاً أكثر تشدداً تجاه بوتين مقارنة بسلفه ترامب. وقد برز ذلك بوضوح كبير خلال الاتصال التليفوني الأول الذي جرى بين الرئيس الأمريكي وبين نظيره الروسي الشهر الماضي، حيث قال بايدن إنه أوضح لبوتين أن الأيام التي كانت فيها الولايات المتحدة "هدفاً سهلاً للأعمال العدائية الروسية، والتدخل في الانتخابات، والهجمات الإلكترونية، وتسميم المواطنين قد انتهت". كما أعلن الرئيس الأمريكي أيضاً أنه "لن يكبح نفسه" في التعبير بـ"لغة واضحة" عن موقفه تجاه موسكو، سواء أثناء الاتصالات المباشرة مع القيادة الروسية أو في التصريحات العامة.

اللغة الواضحة من جانب بايدن يمكن أن تؤدي إلى انهيار العلاقات الأمريكية- الروسية التي تشهد خلافاً كبيراً أساساً منذ عام 2014، لا سيما بعد ضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية والحرب في أوكرانيا والنزاع في سوريا. كما ازدادت هذه العلاقات سوءاً خلال الأشهر الأخيرة، لا سيما بعد سجن السلطات الروسية للمعارض البارز أليكسي نافالني الذي تطالب الدول الغربية بإطلاق سراحه، الأمر الذي ترفضه روسيا بشدة باعتباره "تدخلاً غير مقبول في شئونها الداخلية". كما وصلت العلاقات المتوترة بين واشنطن وموسكو إلى ذروتها في بداية شهر مارس الجاري، بعدما قامت إدارة بايدن بفرض العقوبات الأولى لها على روسيا لمعاقبتها على ما وصفته واشنطن بمحاولة موسكو تسميم نافالني بغاز أعصاب في العام الماضي.

ونصت هذه العقوبات على تجميد أصول عدد من المسئولين الروس في الولايات المتحدة، ومن أهمهم: ألكسندر بورتنيكوف مدير جهاز الأمن الفيدرالي النافذ، ورئيس إدارة السجون الروسية ألكسندر كلاشنيكوف، ورئيس لجنة التحقيق الروسية ألكسندر باستريكين، والمدعي العام ايجور كراسنوف، ومساعد مقرب من الرئيس فلاديمير بوتين هو سيرجي كيريينكو، فضلاً عن فرض مجموعة كبيرة من قيود التصدير على العناصر التي يمكن استخدامها لإنتاج الأسلحة البيولوجية والكيميائية، الأمر الذي اعتبرته وزارة الخارجية الروسية "طعنة عدائية لروسيا".

 وفي هذا الصدد، يشار إلى أن العقوبات الأمريكية (والأوروبية) الأخيرة على موسكو قد فاقمت من تدهور الأوضاع الاقتصادية في روسيا بشكل ملموس. فعلى سبيل المثال، أدت هذه العقوبات إلى دفع الحكومة الروسية إلى مناقشة اقتراح بخفض مستويات الاقتراض للعام المالي الحالي بمقدار تريليون روبل (13.5 مليار دولار) بسبب مخاوف من فرض مزيد من العقوبات الأمريكية على السندات السيادية الروسية. كما انخفض أيضاً سعر الروبل الروسي بنسبة 1 في المائة، في 5 مارس الحالي، بسبب التقارير التي أفادت بإمكانية قيام الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بفرض جولة ثانية من العقوبات الصارمة ضد موسكو. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن عدداً من التقديرات تظهر أن العقوبات الغربية على روسيا، منذ عام 2013، أدت إلى خسائر إجمالية (مباشرة وغير مباشرة) تصل إلى حوالي 180 مليار دولار، وهو ما يعادل حوالي 8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي لروسيا، وهو الأمر الذي يؤثر سلبياً بشدة على حياة الشعب الروسي من خلال التضخم الشديد، وانخفاض مستويات المعيشة، وتدني جودة الخدمات العامة، وزيادة معدل البطالة وغيرها.

مسار متصاعد

التوتر المستمر والمتصاعد في العلاقات الأمريكية- الروسية من المرجح أن يستمر في المدى المنظور، رغم ظهور بادرة إيجابية للتعاون والحوار بين الجانبين بعدما وافقا مؤخراً على تمديد اتفاقية "ستارت" الجديدة للحدّ من انتشار الأسلحة الاستراتيجية قبل نهايتها. ومما يدلل على ذلك أن الرئيس بايدن، على عكس كل الرؤساء الأمريكيين السابقين الذين حرصوا على تخفيف حدة التوتر مع الروس في بداية حكمهم، يبدو عازماً على الالتزام بسياسة زيادة الضغط والعقوبات على روسيا، لوقف توجهاتها المعادية للمصالح الأمريكية. وقد برز ذلك بوضوح في تقرير "التوجيه الاستراتيجي للأمن القومي الأمريكي"، الذي أصدرته إدارة بايدن في الآونة الأخيرة، والذي حددت فيه "التنافس المتزايد مع الصين وروسيا ودول استبدادية أخرى" باعتباره التحدي الرئيسي الذي يواجه الولايات المتحدة.

ومثل هذه السياسة سوف تفسح المجال لعلاقة عدائية صريحة و"لعب بالنار" مع موسكو، خاصة إذا ما امتدت العقوبات الأمريكية (والغربية) لتشمل تدابير عقابية تطال قطاعات حيوية مثل القطاع المصرفي أو قطاع الطاقة أو التعاون المحدود الذي ما زال مستمراً في صناعات الفضاء، فضلاً عن احتمال أن تشمل العقوبات الجديدة شخصيات مقربة من الكرملين، وربما تشمل للمرة الأولى الرئيس بوتين نفسه، وهو أمر قال خبراء روس إنه ستكون له تداعيات "لا يمكن معالجتها".

ومع ذلك، ليس من المتوقع أن يصل التوتر المتفاقم بين واشنطن وموسكو إلى مرحلة الصدام المباشر في الفترة القادمة. فالجانبان يدركان أهمية الحوار والتفاهم بينهما لمواجهة التحديات العالمية الكبيرة. وهذا ينطبق، على سبيل المثال، على ملفات ذات اهتمام مشترك، مثل الملف النووي الإيراني أو كوريا الشمالية أو سوريا أو أفغانستان أو أزمة المناخ العالمي أو مكافحة جائحة فيروس كورونا. كما تدرك واشنطن جيداً أن روسيا خصم قوي، يجب التعامل معه بشكل يضمن أولاً وقبل كل شيء، تجنب أى صراع عسكري مباشر، وثانياً، تجنب دفعها إلى أحضان الصين.

تداعيات دولية وإقليمية

التوتر المتصاعد بين واشنطن وموسكو في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة، على الأرجح، سوف يقود إلى تداعيات مهمة سواء على الصعيد العالمي أو على مستوى منطقة الشرق الأوسط. فعلى سبيل المثال، من المنتظر أن يتزايد التقارب الروسي- الصيني في المستقبل المنظور. فالدولتان تتفقان على ضرورة إقامة نظام عالمي متعدد الأقطاب، والتعاون من أجل تقييد هيمنة الولايات المتحدة على إدارة الشئون العالمية. وسوف تستمر الشراكة الروسية- الصينية، على الأرجح، طالما ظل الرئيس بوتين ونظيره الصيني شي جينبينج في السلطة (حتى عام 2036 في حالة بوتين، وإلى أجل غير مسمى في حالة شي). ومما يعزز من قوة هذه الشراكة أن الدولتين تتصرفان باعتبارهما قوى كبرى، كما أن كلاً منهما يرى أن مصالحه أكثر توافقاً مع القوة الأخرى مقارنة بما هو عليه الحال مع الولايات المتحدة. وقد برز هذا الأمر بشكل ملموس وواضح من توافق تصويت الدولتين في مجلس الأمن الدولي، واستخدامهما حق النقض (الفيتو)، لمواجهة مشروعات القرارات الأمريكية والأوروبية، بشأن سوريا على سبيل المثال.

وعلى صعيد منطقة الشرق الأوسط، من المتوقع أن ينعكس تزايد التوتر في العلاقات الأمريكية- الروسية، على كثير من ملفات هذه المنطقة المشتعلة، خاصة مع تراجع اهتمام واشنطن بالمنطقة وتنامي التقارب بين موسكو وبكين. فعلى سبيل المثال، عارضت روسيا والصين انسحاب دونالد ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، واستفادتا من الوضع من خلال التفاوض على تعاون عسكري واقتصادي أوثق مع طهران. وفي الوقت نفسه، أصبحت الصين أكبر مستثمر في المنطقة منذ عام 2016، وفي العام التالي أنشأت بكين أول قاعدة خارجية لها في جيبوتي. وبالتزامن مع ذلك، انخرطت روسيا دبلوماسياً مع جميع دول المنطقة، وزادت مبيعات أسلحتها إلى مصر والعراق والمملكة العربية السعودية وليبيا والإمارات العربية المتحدة وتركيا. كما أبرمت موسكو مؤخراً اتفاقية مدتها خمسة وعشرين عاماً لإنشاء قاعدة بحرية في السودان، لتكون الثانية من نوعها بعد قاعدتها في طرطوس في سوريا. كما كشفت جولة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى دول منطقة الخليج في شهر مارس الجاري، عن رغبة موسكو في ترويج رؤيتها لنظام الأمن الجماعي الشامل في الخليج، والذي يُقترح على دول المنطقة إنشاؤه عبر مراحل تحضيرية عدة، بما في ذلك إجراءات بناء الثقة وعقد مؤتمر حول الأمن والتعاون في هذه المنطقة. وهذه الرؤية لا يمكن أن تكون عفوية وإنما تأتي كجزء لا يتجزأ من الخطة الاستراتيجية لتقدم موسكو في الشرق الأوسط، الذي ارتقى بوضوح إلى مركز متقدم على مقياس أولويات سياستها الخارجية.

على أية حال، التوتر المتصاعد في العلاقات الأمريكية- الروسية يمثل تحدياً مهماً وخطيراً للأمن والاستقرار العالميين. وما لم يتم التعامل مع هذا التحدي الجديد بشكل ناجح من خلال الحوار والتفاهم بين واشنطن وموسكو، فربما تشهد البشرية "نهاية التاريخ"، بل وربما أيضاً نهاية الحضارة الإنسانية برمتها، لما للدولتين من مقدرات عسكرية (نووية وغير نووية) تستطيع تدمير الحياة على الأرض عدة مرات، حال اندلاع المواجهة العسكرية المباشرة بينهما.


رابط دائم: