هل تنجح حكومة حمدوك الثانية في تحقيق الاستقرار والتنمية في السودان؟
2021-3-9

د. أحمد قنديل
* رئيس وحدة العلاقات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيحية

أدى وزراء الحكومة السودانية الجديدة القسم الدستوري، في 10 فبراير 2021، أمام رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، ورئيس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك، ورئيسة القضاء نعمات عبد الله، لتصبح الوزارة الثانية في عمر الثورة السودانية التي نجحت في إبعاد الرئيس السابق عمر البشير في أبريل 2019. ويثير تشكيل هذه الحكومة الجديدة، والتي استمر النقاش حولها شهورا طويلة، الكثير من التساؤلات، أهمها: هل ستنجح هذه الحكومة في التصدي للأزمات التي تواجه السودان؟ هل ستنجح في إدارة الأزمة الاقتصادية على أسس مهنية، أم ستواجه بمعضلة بناء التوافق بين الأطراف السياسية المتعددة؟ وكيف ستتعامل مع ملف "التنظيمات الإسلاموية" التي تغلغلت داخل السودان خلال مرحلة نظام البشير، وفلول هذا النظام؟ وهل ستنجح في وقف الاقتتال الأهلي للأبد، عبر تنفيذ بنود "اتفاقية جوبا للسلام" (الموقعة في أكتوبر 2020)، وإلحاق الحركات المسلحة التي لم توقع اتفاقية السلام بها، كخطوة أساسية لتحقيق سلام شامل يفتح الأبواب للتنمية في البلاد؟ وكيف ستتعاطى مع ملف التطبيع مع إسرائيل ومع الملف الإثيوبي في إطار "عودة السودان إلى المجتمع الدولي"، بعد نهاية حالة العزلة التي كانت مفروضة عليه بسبب وجوده لفترة طويلة ضمن "قائمة الدول الراعية للإرهاب"، التي خرج منها في نهاية العام المنصرم؟

تمثيل سياسي واسع

التشكيل الحكومي الجديد تضمن تغييرًا واسعًا في الحقائب الوزارية، التي شملت 26 وزارة (بدلا من 20 وزارة في الحكومة السابقة)، مع إرجاء تسمية وزير التربية والتعليم لمزيد من المشاورات. وكان من أبرز ملامح هذا التغيير الوزاري، تولي الدكتورة مريم الصادق المهدي وزارة الخارجية (ابنة آخر رئيس للوزراء معيّن ديمقراطياً في السودان، الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي)، وتولي الدكتور جبريل إبراهيم (رئيس حركة العدل والمساواة التي لعبت دوراً أساسياً في النزاع في دارفور) وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي، وتولي المهندس خالد عمر يوسف (حزب المؤتمر السوداني) وزارة شئون مجلس الوزراء، والفريق أول شرطة عز الدين الشيخ وزيرا للداخلية،وحمزة بلول وزيراً للإعلام، ويوسف الضي للشباب.وقد احتفظ 5 وزراء بمواقعهم في التشكيل الجديد، وهم الفريق يس إبراهيم يس (وزارة الدفاع)، والدكتور ياسر عباس (وزارة الري والموارد المائية)، والدكتور نصر الدين مفرح (وزارة الأوقاف والشئون الدينية)، والدكتور نصر الدين عبدالباري (وزارة العدل)، والدكتورة انتصار صغيرون (وزارة التعليم العالي والبحث العلمي).

وتعد هذه الحكومة هي أكثر الحكومات تنوعًا من الناحية السياسية في تاريخ السودان، حيث ضمت مكونات مختلفة يمثلون جميعَ أنحاء هذا البلد، لتمثلَ أكبرَ تحالف سياسي يشهده السودان في العصر الحديث.وجاء ذلك كثمرة من ثمرات "اتفاقية جوبا للسلام"، والذي جعل للحكومة 26 وزارةً، منها 17 من نصيب قوى الحرية والتغيير كمكون مدني، و7 للجبهة الثورية، ووزارتان للمكون العسكري في المجلس السيادي.

أجندة عمل ضخمة وطموحة

ويأتي تشكيل الحكومة الجديدة في ظل تحديات أمنية واقتصادية كبيرة، وهو ما جعل رئيس مجلس الوزراء عبدالله حمدوك يؤكد، في أول بيان له عقب إعلان تشكيل الحكومة، أن برنامج مجلس الوزراء خلال الفترة المقبلة يهدف إلى "معالجة القضايا الأساسية"، وفي مقدمتها التحديات الأمنية (وعلى رأسها تجدد الاشتباكات القبلية الدامية في دارفور غرب البلاد، والتوترات مع إثيوبيا المجاورة في شرق البلاد)، وتداعيات الأزمة الاقتصادية المتعلقة بتوفير الخبز والغاز والوقود والدواء، فضلاً عن التحديات الأخرى في مجالات السلام، والعدالة، والعلاقات الخارجية، وإصلاح مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، إضافة إلى تحقيق الانتقال السلس، ووضع نظام ديمقراطي مستقر للعبور بالبلاد إلى بر الأمان.

في هذا السياق، كونت الحكومة الجديدة فريقي عمل، أحدهما برئاسة حمدوك، وعضوية وزراء شئون مجلس الوزراء، والمالية والتخطيط الاقتصادي، والطاقة، والتجارة والتموين، ووالي الخرطوم، وذلك بهدف الوصول في أقرب وقت لحلول للتحديات المتعلقة بالأزمات الاقتصادية وبهدف تخفيف المعاناة عن المواطن السوداني. وفريق ثاني يتكون من وزراء الداخلية، والعدل، والحكم الاتحادي للوقوف على الأحداث الأخيرة التي شهدتها بعض الولايات احتجاجاً على عدم توفر بعض السلع والخدمات وارتفاع أسعارها بشكل كبير.

وتعهد حمدوك بتخطي الصعوبات الاقتصادية، بقوله: "أعددنا برنامجاً اقتصادياً قصيراً يحقق أشياء كثيرة، وعلى رأسها معالجة ديون السودان، التي تتزايد أعباؤها باضطراد لتصل 70 مليار دولار (بنهاية عام 2020)، وفتح المجال أمام الاستثمارات، واستثمار القروض والمنح والمعونات في تطوير القطاعات الإنتاجية، واستثمار 300 مليون دولار في قطاع البترول، وسط توقعات بمضاعفة إنتاجه". ولتخفيف الأعباء المالية على السودان، رجح حمدوك إمكانية إجراء محادثات مع هيئات التمويل الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لمناقشة إعادة هيكلة الديون خلال المرحلة القادمة. كما أبدى حمدوك أيضاً اهتماماً واضحاً بمجموعة من الأولويات الخاصة بإدارة الاقتصاد في الفترة المقبلة، ينصرف أولها، إلى سد النقص القائم في السلع الأساسية من الوقود والقمح والأدوية وغيرها في الأسواق. ويتعلق ثانيها، بتوفير السيولة من النقد الأجنبي لسد الفجوة التمويلية في البلاد، وقد قدّرها بنحو 10 مليار دولار، على أن يتم توجيه 8 مليار منها خلال العامين المقبلين لتغطية الواردات والمساعدة في إعادة بناء الاقتصاد، ونحو 2 مليار لصالح إعادة بناء احتياطيات البنك المركزي، والتي بلغت أقل من 1.5 مليار دولار خلال الفترة الأخيرة. ويتمثل ثالثها، في معالجة تشوهات سوق الصرف، والتي تعاني من وجود سوقين أحدهما رسمي يبلغ فيه سعر الصرف نحو 55 جنيهاً للدولار الواحد، والآخر غير رسمي يصل فيه، وقت كتابة هذه السطور، إلى نحو 420 جنيهاً للدولار (كان السعر في السوق السوداء 260 جنيهاً فقط في الأول من يناير 2021). في هذا السياق، أكد حمدوك على ضرورة توحيد سعر صرف الجنيه والتحول نحو نظام سعر الصرف المرن المُدار من أجل القضاء على ازدواجية سوق الصرف.

وفيما يتعلق بتطبيع علاقات السودان مع إسرائيل، جدّد حمدوك موقفه السابق بأن القضية برمتها متروكة للمجلس التشريعي، موضحاً أن حكومته "حسمت قضية علاقة الدين والدولة، وقطعت فيها مشواراً طويلاً، بما يساهم في استكمال حلقات المرحلة الثانية من السلام، مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة عبد العزيز الحلو، وحركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور".

وكانت حكومة حمدوك الأولى قد واجهت انتقادات حادة على خلفية التدهور الاقتصادي بالبلاد، والغلاء الطاحن (نتيجة ارتفاع معدل التضخم إلى أكثر من 254 في المائة) وندرة السلع الرئيسية مثل الخبز والوقود والأدوية، فضلاً عن عجز كلي في موازنة العام 2021 بلغ 4.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. كما تم اتهامها، من جانب القوى الثورية، بالفشل في محاسبة رموز النظام السابق، وتقديم المتهمين بجرائم قتل المتظاهرين للمحاكمة، وعدم إكمال مؤسسات الحكم الانتقالي، خاصة المجلس التشريعي (البرلمان الانتقالي)، والمقرر أن يتم الإعلان عنه في 25 فبراير الجاري. وواجهت الحكومة السابقة أيضاً مجموعة من التحديات الأخرى، منها تداعيات الفيضانات القياسية، وعدم الاستقرار على الحدود مع إثيوبيا، وفيروس كورونا، وتزايد العنف في المنطقة الغربية من دارفور مع انسحاب قوات حفظ السلام الدولية.

فرص النجاح في ظل تحديات عدة

هناك فريقان رئيسيان بشأن مستقبل الاستقرار في السودان، كل منهما يتبنى رؤية مختلفة حول فرص نجاح الحكومة الجديدة.

الفريق الأول، متفائل، ويرى أنصاره أن حكومة حمدوك الثانية سوف تقود البلاد إلى الاستقرار والتنمية. ويستند هؤلاء إلى أن التنوع السياسي في الحكومة الجديدة سوف يساهم في إخراج السودان من أزماتها الاقتصادية والأمنية والاجتماعية، كما أنه سوف يوجه رسالة قوية إلى العالم بأن الخرطوم قادرة على الاندماج مع المجتمع الدولي، خاصة بعد رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. ويؤكد أنصار هذا الفريق أيضاً أن حكومة حمدوك الجديدة سوف تنجح، على الأرجح، في حل الأزمة الاقتصادية كما أخرجت السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. ويشيرون كذلك إلى قدرة الحكومة على تحقيق اختراقات إيجابية في علاج المشكلة الاقتصادية، وتنفيذ اتفاق السلام واستكمال الاتفاق، وتحقيق العدالة، وتأسيس علاقات خارجية متوازنة. كل ذلك سوف يصب في النهاية في خانة مربع الاستقرار والتنمية في السودان.

أما الفريق الثاني، فلا يشارك أنصار الفريق الأول في تفاؤله، وعلى العكس تماماً يؤكد أن تنوع المكونات السياسية ليس في صالح الحكومة الجديدة، وأنه سيفتح الباب أمام صراع فرضالسيطرة بين هذه المكونات، مشيراً إلى أن الجهات المعنية توافقت على الحكومة الجديدة بعد "مخاض صعب وولادة قيصرية عسيرة" لاستيعاب الجماعات والأحزاب والطموحات السياسية لكثير من الفرقاء. ويرى أنصار هذا الفريق أن الحكومة الجديدة لن تشهد الانسجام المطلوب لمواجهة تحديات المرحلة. كذلك الظروف الاقتصادية التي تتعقد يوماً بعد يوم هي أكبر بكثير من حجم حكومة تقوم على أساس المحاصصة السياسية وليس على الفعالية والقيمة الإدارية ما قد يقلل من قدرتها على مواجهة المصاعب المستفحلة، ويضعف من قدرة رئيس الوزراء على المراقبة والمحاسبة وإعفاء المقصرين من وزرائه.

ويشير هؤلاء أيضاً إلى أن الحكومة الجديدة لا تملك برنامجاً واضحاً يقدم حلولاً جذرية للمشكلات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية التي تواجهها السودان، وبالتالي ستتعمّق هذه المشكلات بمرور الزمن. كما من المتوقع أيضاً أن تواجه الحكومة مشكلة في الإمساك بخيط العلاقات الخارجية لأنها بطبيعة تكوينها متباينة الاتجاهات، مما قد يفقدها قوة الموقف الخارجي في معالجات سياساتها الخارجية، لذلك ستظل كثير من الدول تؤجل حماستها للعلاقات الوطيدة حتى يتبيّن اللاعب الرئيسي في البلاد.

وبين المتفائلين والمتشائمين، يظهر فريق آخر من المراقبين يؤكد أن نجاح السودان في تحقيق الاستقرار والتنمية في الفترة المقبلة سوف يتوقف بشكل رئيسي على قدرة الحكومة الجديدة في التعامل مع التحديات الستة التالية:

1- تفكيك أركان الدولة (الإسلاموية) العميقة التي أنشأها النظام السابق على مدار ثلاثين عاماً، والتي سيطرت على مؤسسات الدولة والقطاعات الرئيسية للاقتصاد، بما في ذلك مئات الشركات.

2- بناء الدولة الوطنية، استنادا إلى الأدبيات العديدة التي تعاملت مع حالات التعدد السياسي عقب مراحل التمرد والحروب الأهلية، في صيغة "السودان الجديد" التي تبتعد عن استراتيجيات التديين والإسلاموية أو الإقصاء.  

3- إصلاح الاقتصاد السوداني المنهار، مع ما يتضمنه ذلك من ضرورة التغلب على أكبر عائق أمام إعادة التأهيل الاقتصادي في السودان، والذي يتمثل في شيوع الفساد واختلالات الموازنة.  

4- التغلب على انعدام الأمن في أجزاء كثيرة من البلاد نتيجة وجود الميليشيات المسلحة، والعنف القبلي، وانتشار الأسلحة، ومؤامرات "الفلول" وبعض عناصر النظام السابق. ويتضمن ذلك ضرورة احتواء قادة المناطق الملتهبة التي تشهد حركات تمرد مسلح في أطراف السودان (مثل: دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق). ومن ثم، يتمثل التحدي الرئيسي للحكومة الجديدة -في الواقع- في ضرورة وجود قوات مسلحة وطنية احترافية وموحدة، ودمج الجبهة الثورية التي تضم عدداً من قادة الحركات المسلحة (أمثال: مالك عقار، وعبدالعزيز الحلو، ومنى مناوي، وعبدالواحد محمد نور) في مؤسسات الحكم الانتقالي.

5- تسريح ودمج قوات المتمردين. وربما تقدم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة للمساعدة الانتقالية في السودان المؤسسة حديثاً، والمعروفة اختصاراً بـ"يونيتامس"، بعض المساعدة في هذا الصدد. لكن تظل تكاليف تسريح أو دمج آلاف المقاتلين المتمردين في القوات النظامية بحاجة إلى تمويل ضخم. ومن المرجح أيضاً أن تكون عملية دمج المقاتلين المتمردين أو تسريحهم صعبة، خاصة مع تجاهل الترتيبات الأمنية الموقّعة في جوبا عدداً من الجوانب الحاسمة، مثل عدد الأفراد الذين يمكن لكل جماعة مسلحة أن تدعي بشكل مشروع أنها تنتمي لها، أو نسبة المقاتلين الذين سيتم تسريحهم بدلاً من دمجهم. وربما يسعى قادة المتمردين الذين يرغبون في الاستفادة من قوتهم العسكرية لتحقيق مكاسب سياسية إلى تضخيم أعدادهم وتقليل حجم التسريح.

6- استمرار التفاهم العسكري والمدني؛ ذلك أن الطرفين، العسكري والمدني، ما يزال كلا منهما لديه هواجس وشكوك تجاه الطرف الآخر. والحل المثالي -إن وُجد- قد يكون في أن يتسلم الجانب المدني الحكومة، وأن يتعهد الجانب العسكري بحماية الدولة ومؤسساتها وتطبيق الدستور، وهذا يتطلب حسمه بإجراء الانتخابات العامة، ولن يتحقق بالتوافق الذي يصعب ضمان استمراره بين الجانبين في المدى المنظور. وفي حال فشل بناء هذا التوافق، أو اختلفت مكونات قوى "الحرية والتغيير" فيما بينها، فإن البلاد ستكون مهددة بالدخول في مرحلة جديدة من الفوضى وعدم الاستقرار.

***

خلاصة القول، إن تشكيل الحكومة السودانية الجديدة يمثل علامة فارقة على طريق تحقيق الاستقرار والتنمية في السودان، بالنظر إلى عوامل عدة، أهمها أنها تقوم على مبدأ تقاسم السلطة (بين الجيش والجبهة الثورية وقوى الحرية والتغيير)، والتشاور بين النخب العسكرية والمدنية، بما في ذلك مشاركة أوسع لمختلف المجموعات العرقية، وعدم السماح بإعادة إنتاج الأحزاب الدينية، وهي صيغة تعد الأكثر ملاءمة لتجاوز الأزمة التي مر بها السودان منذ إزاحة البشير، وتمثل شرطا أساسيا لتحقيق الاستقرار والتنمية، بيد أن الأمر لا يخلو من تحديات عديدة كما سبق توضيحه.


رابط دائم: