المرأة المصرية والمنظور الإنسانى - افتتاحية العدد 79 من فصلية "أحوال مصرية"
2021-1-13

د. أيمن السيد عبد الوهاب
* نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية والخبير فى شئون المجتمع المدنى

المرأة إنسان، تلك البديهة تبدو في كثير من الأحيان قضية تحتاج لإثبات، فكثير من الشواهد والممارسات تنتهك إنسانيتها ليس في مصر فقط ولكن في معظم دول العالم، والسؤال لماذا يتم انتزاع بعض الحقوق لمصلحة الواجبات؟، ولماذا تحاصرها السلطة الأبوية وتضع الثقافة الذكورية في مرتبة أعلى من الثقافة النسوية، وتقيدها بمتطلبات مخصوصة من حيث الأدوار والمسئوليات.

صحيح أن الإجابة على هذا التساؤل ليست بالجديدة، وأن هناك العديد من الدراسات والتقارير التي قدمت الإجابات والتفسيرات، وصحيح أيضا أن هناك الكثير من المكتسبات تحققت للمرأة على المستوى العالمى والمحلى، لكن يظل لب المشكلة قائما، والمتمثل في غياب المنظور التكاملى للدور والمسئوليات مع الرجل،  فالمنظور الصراعى أو التنافسى من جانب، أو الاستعلائى والاستئسادى من جانب آخر مازال يحكم العلاقة ويشوهها. ولذا يظل المدخل الإنسانى وتغيير الإدراكات وعلاقات القوى المجتمعية وثقافته، متطلبات حاكمة لتجاوز الكثير من التمايزات التي صنعتها المجتمعات لمصلحة الرجل، وضعته في مرتبة أعلى من المرأة، فأصبحنا نتحدث عن المرأة كمواطنة من الدرجة الثانية، وكونها تمثل قطاع وشرائح من الفئات المهمشة، تحتاج تمكينا وأن تستعيد حقوقها.   

تناول قضايا المرأة من منظور نسوى أو جندرى حقوقى، يمثل قصوراً واضحاً فى معالجة الكثير من قضاياها وقضايا المجتمع، كما أن تناولها من منظور الضحية يعزز الخطاب الاستعلائى للرجل ويغذى فكرة المظلومية للمرأة، وهو ما يعنى الدوران في حلقة مفرغة من البحث عن صيغ لتأكيد بديهيات ترتبط بمقاصد الحياة وإنسانيتنا ورسالة الإنسان في تعمير الأرض وفى التعايش والشراكة، بعيدا عن هوى النفس والمصالح. وهنا يمكن التأكيد على عدد من المعانى والدلالات الخاصة بقضايا المرأة والإدراك المجتمعي المصرى، نذكر منها:

التنظيم الاجتماعى: تشكله الثقافة السائدة، وتعكسه التفاعلات الاجتماعية والسلوكية، وترتبط بالعوامل المحفزة والدافعة، ولذا تظهر الجوانب الاجتماعية وما تتطلبه من بناء نسيج متكامل من الأفكار والنظم والسلوكيات، مرتبط بالقدرة على إقامة بنية ثقافية عاكسة لدرجة تطور المجتمع وحضارته، وأطره المرجعية التى يتوافق عليها المجتمع.

بيت الداء: جوهر المشكلة يرتبط بمكونات التنشئة الاجتماعية ودورها الأساسى فى بناء ملامح الشخصية وتوجهاتها الإدراكية والسلوكية، لاسيما ما يرتبط بغلبة الثقافة التقليدية، ومظاهرها الخاصة بانخفاض قيمة تعليم الإناث، وتكريس الدور التقليدي للمرأة فى رعاية الأطفال، والزواج المبكر، وختان الإناث والعنف ضد النساء، وضعف إدراك المرأة لدورها.

إن كان من الملاحظ أن الخلاف على قضايا مثل المرجعية والهوية وتنامى الثقافات الفرعية (من شأنه أن يوسع الفجوة الإدراكية والأخلاقية)، قد ساهم إلى حد كبير فى رسم ملامح  نموذجين متناقضين، أحدهما هو النموذج الغربى الحداثى والآخر اصولى تقليدى، فالقضية أعقد من النظرة للمرأة أو حصرها فى العلاقة بين الرجل والمرأة ولكنها هى بالأساس إشكالية ترتبط بهوية المجتمع وصياغة عقله الجمعى والأطر القيمية والأخلاقية الحاكمة.

المجتمع والبرقع: عندما رفعت هدى شعراوى البرقع، كان تعبيراً عن بداية مرحلة لا تقتصر على انتزاع حقوقها كإنسانة، ولكن كان تعبيرا عن مرحلة من النضج والتطور المجتمعى والإدراكى لمكانة المرأة ودورها فى بناء الإنسان المصرى المتعلم المثقف القادر على تحرير وطنه من الاحتلال، وبناء دولته الحديثة واستعادة مكانتها الحضارية، هذا التساؤل لا يزال قائما خاصة في شقه المرتبط بتطور المجتمع ونضجه. فلم يكن الهدف من رفع البرقع، الحاجة لتغيير فى الملبس، أو حتى فى النظرة للمرأة، هذا الاختزال الشكلى لقضايا المساواة والبناء والتكوين النفسى والمعرفى للإنسان المصرى (رجلا وامرأة) أفرز واقعه الذى نعيشه (بالطبع هناك أسباب وعوامل عديدة أخرى) وتجلياته العميقة التي يمكن أن نلمسها بوضوح في تنامى العديد من الظواهر الاجتماعية ذات الأبعاد المتشابكة سياسيا واقتصاديا، فالملبس على سبيل المثال لم يعد تعبيراً عن المكانة والهوية الاجتماعية والإطار الجغرافى، كما يتجلى فى الجلباب فى الريف أو الصعيد أو الملابس الحديثة فى الحضر والمدينة، ولكنه أخذ أبعادا سياسية وأيديولوجية وعقائدية تركت بصمتها القوية على هوية المجتمع وثقافاته، لندخل مساحات أخرى في الجدل المجتمعى،  حول البكينى مقابل البوركينى، ورغم أن تلك المقابلة جاءت على مرجعية طبقية، إلا أنها امتدت لقضايا الحرية والاحتشام والخصوصية، الأمر الذى يعكس بوضوح حالة الاستقطاب المجتمعى التي يترجمها العديد من المظاهر الاجتماعية بين خطابين أحدهما أصولى متشدد والآخر خطاب حداثى متحرر، وفى القلب منه يعيش القطاع الأكبر من المجتمع منفصلا عن هذين الخطابين وأنصارهما.

وهو ما يطرح بدوره أن رفع البرقع، ظل شكليًّا ولم يصل إلى مضمونه وجوهر رسالته الأعمق وهى بناء المجتمع الحديث الذى يؤمن بأن المرأة هى إنسان قبل أن تكون امراة وأن رفع البرقع أو انتزاعه المادى لم يتجاوز الحالة الافتراضية، فمازال البرقع الذى يحجب الإدراك المجتمعى موجودًا.

فالملبس وتعدد أشكاله يجب أن يظلا معبرين عن ثراء التعدد الثقافى والاجتماعى لمكونات المجتمع، وألا يكونا ترجمة لعدم الانضباط الاجتماعى والسيولة المجتمعية التى تخلف الكثير من التفاعلات الاجتماعية المتناقضة وذات السمة الصدامية والصراعية.

الاندماج والتماسك المجتمعى: تبدو القدرة على تواجد تيار مجتمعى فاعل ورئيسى، يمتلك مقومات تحديد ماهية المجتمع وهويته وخصوصيته وبلورتها فى صياغة داعمة للتجانس المجتمعى وتحد من الاستقطاب ويتوافر لها مقومات الضبط الاجتماعى أمرًا على المحك، وهو ما يتطلب بدوره إجراء دراسة مسح اجتماعى للوقوف على حجم واتجاه التغيير فى المجتمع المصرى، لاسيما وأن آخر مسح اجتماعي أقامة المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية كان فى منتصف الثمانينيات، وبالتالى هناك الكثير من الضبابية والتباينات والانقسامات التى تترجمها الاختلالات الاجتماعية والتفاعلات المجتمعية بدون أن نعرف عمقها وحدود تجذرها الحالى.

الإرادة السياسية: ظلت تؤدي الدور الرئيسى فى إحداث النقلات النوعية فى الملف الحقوقى للمرأة، ولكن فى المقابل ظلت الإدراكات والسلوكيات محكومة بالموروث الاجتماعى والثقافى ومقيدة إلى حد كبير فى تطور المنظور الإنسانى للمرأة ولماهية المجتمع، صحيح أن الحراك السياسى والشعبى فى 2011 و2013 كشف بوضوح عن موقع المرأة ودورها الرئيسى فى هذا الحراك ولكنه كشف أيضا عن مدى المقاومة المجتمعية والحاجة لصياغة أعمق من مجرد الدفع نحو بعض الحقوق الأساسية. لأن جوهر الخلل الذى يحد من جنى ثمار الجهود والسياسات والاستراتيجيات التى وضعت، وتوافرت لها الإرادة السياسية والتمويل، اصطدمت جميعا بالعامل الثقافى والقيمى المجتمعى، الذى توفره له العديد من أشكال المقاومة والقوة القادرة على إبطاء موجات الإصلاح ومواجهة الأفكار والحد من ثمار التطوير.

التنمية المستدامة: أظهرت ثمار وحدود عدالة توزيعها على مستوى الجمهورية خلال الفترات الزمنية الماضية العديد من الانحيازات الاجتماعية والتفاوتات التنموية جغرافيا، فضلا عن تعدد الأنساق التعليمية وما صاحبها من تعدد فى الثقافات والمعتقدات باتجاه استقطابى، لتفرز جميعها المزيد من التصنيفات والتقسيمات حتى فى داخل الطبقة الوسطى، لتعانى بدورها من حالة تفكك وسيولة واضحة انعكست على توجهاتها الثقافية والاجتماعية والاستهلاكية، ليفقد التيار الثقافى الرئيسى  كثيرا من زخمه وقدرته على تفعيل أطره الحاكمة للتماسك الاجتماعى .  

المرأة والتمايزات الاجتماعية: مع كل التقدم والتعليم والتحديث الذى شهده المجتمع المصرى، لا تزال هناك الكثير من الاختلالات والتمايزات الاجتماعية المرتبطة بالاستعلاء الفكرى والسلوكى حاكمة للعديد من التفاعلات الاجتماعية وللصورة الإدراكية والنمطية البينية. وبالتالي هذه التمايزات لا ترتبط فقط بالمرأة ولكن هناك النظرة إلى بعض المهن وللصعيد واستخدام الألقاب، وإذا ما أضفنا ما تعكسه قضايا المرأة من مرآة مجتمعية لقضايا، مثل: المساواة، والعنف بكل أشكاله، والكرامة، والاستغلال المجتمعى، والنزعة الذكورية، والموروث الثقافي، وإعادة تدوير قهر المرأة، سوف يتضح لنا جانب كبير من ملامح الصورة المجتمعية وفى القلب منها وضع المرأة.

 مقابل هذه الصورة السلبية تبدو هناك الكثير من جوانب الصورة الإيجابية المتحققة والواجب البناء عليها واستدامتها في إطار التمكين والتمييز الإيجابى للمرأة، والتي ساهمت المرأة وحركتها المجتمعية في تحقيقها عبر حراكها الجماهيرى في كل المناسبات، حيث وضعت حقوقها وأهدافها ضمن الإطار الأوسع والأعمق لأهداف التغيير والإصلاح والمحافظة على هوية المجتمع والدولة، فضلا عن مواجهة السلبيات والاختلالات المقيدة لحركة المجتمع وتطويره على مستوى التعليم، والمعرفة.
وهكذا، تبقى مسئولية المرأة  حاضرة في إحداث التغيير رغم جميع العوامل والقيود المجتمعية، لاسيما تلك المرتبطة بدورها في تربيتها المزدوجة لأولادها وتفضيلها للذكور، واستسلامها للنظرة المجتمعية التراتبية التي تفرضها الثقافة الأبوية، فلا الاستسلام لتلك الرؤية، أو الصراع والاستئساد، يمكن أن يغير الواقع بل العكس الخبرة الماضية تؤكد خطأ الخيارين، ولكن النظرة التكاملية للأدوار وللمسئوليات وإعلاء المنظومة الإنسانية والقيم الحاكمة للعلاقات داخل المجتمع ككل وفى القلب منها العلاقة بين الرجل والمرأة، تعد المدخل الأهم والأبرز لإعادة صياغة شكل وهوية المجتمع ككل.  وهو ما يتطلب مواجهة التأثيرات السلبية والتداعيات التى صاحبت عملية تفكيك المجتمع التقليدى بكل مؤسساته وإضعافها بدون أن يقابل ذلك تحديث المجتمع ككل، وبناء مؤسساته الحديثة القادرة على مواجهة المتطلبات الجديدة.

فمنظومة البناء وتكاملها يجب أن تبدأ بالتوافق على أساس بناء الإنسان المصرى الذى يمتلك مقدمات التعامل مع عصره ويحافظ على خصوصيته وهويته، ولذا تبقى مسئولية البناء مسئولية الجميع مجتمعا ودولة.


رابط دائم: