السياسة هى فن الممكن، عبارة شهيرة يتداولها السياسيون والباحثون، تعكس المرونة فى تحقيق الأهداف وضرورة طرق كل الأبواب. واحدة من مصالح مصر الكبرى فى الإقليميْن العربى والشرق أوسطى تتعلق بترسيخ التوصل إلى حلول سياسية مرضية لكل أطراف النزاعات، والمشتبكة فى حروب ومواجهات عسكرية بعضها عبثى بالمعنى الحقيقى للكلمة، وبعضها تحفزه وتعمل على تأجيجه قوى ذات نهج استعمارى لا تريد الخير للشعوب ولا للإقليم ككل.
الهدف المصرى واضح تماماً، يُعنى بالتسويات السلمية التى تتسم بالتوازن بين كل الأطراف، ونبذ الحرب والتركيز على بناء الدولة الوطنية، وتحقيق طموحات الشعوب فى التنمية والسلام والأمن، وهى كلها أهداف مشروعة تحقق الخير للجميع فى الداخل وفى الخارج. فضلاً عن كونها تتوافق نصاً وروحاً مع ميثاق الأمم المتحدة وكافة المعاهدات الدولية التى تصوغ علاقات الدول والشعوب.
أولوية السلام
يزداد مستوى الاهتمام المصرى بالعديد من الأزمات العربية. ما تقوم به الدبلوماسية المصرية تجاه ليبيا وشعبها الشقيق يعكس أولوية البحث عن السلام والاستقرار فى ليبيا، سلام لا يفرق بين ليبى وآخر، سواء من غرب البلاد أو شرقها أو جنوبها، فالكل لدى الرؤية المصرية ليبيون أشقاء لهم نفس المكانة والقدر نفسه من الاحترام، فالسلام والتسوية السياسية التى تدعو لها القاهرة لا تسعى إلى نهب موارد، أو استغلال واقع متردى، أو سلام خادع يقوم على التفرقة واستعلاء طرف على آخر.
ما تفعله مصر فى الملف الليبى قائم على قناعات راسخة بأن أمن ليبيا واستقرارها هو امتداد لأمن مصر واستقرارها. إنه ترابط تاريخى بين البلدين والشعبين يفرض بذل كل الجهود الممكنة لمساعدة الليبيين على الخروج من المحنة التى طالت، والأزمة التى يجب أن تنتهى فى أسرع وقت ممكن. لقد لعبت القاهرة أدواراً كثيرة فى العامين الماضيين تحديداً من أجل جمع الليبيين على مائدة التباحث الأخوى، وشاركت فى كل الجهود الدولية والأممية الساعية لجمع الليبيين معاً، مروراً بالأمم المتحدة وعواصم أوروبية كبرى كباريس وبرلين وباليرمو فى إيطاليا، واستقبلت العديد من الرموز النيابية والسياسية والعسكرية من الشرق ومن الغرب ومن الجنوب، ووفرت لهم سبل التفاوض والمباحثات الأخوية بكل حرية ودون تدخل، إدراكاً بأن مهمة سلام ليبيا لا تقتصر على فئة دون أخرى أو رمز دون آخر. فالكل عليه واجب المشاركة والبحث عن طريق السلام وتسوية الملفات المعلقة، والبدء فى بناء ليبيا جديدة وفاعلة فى محيطها العربى والإقليمى.
دعم الدولة
الموقف المصرى لم يتغير كما هو حال كثير من المواقف الأخرى الإقليمية والدولية، مفاده دعم الدولة الوطنية الليبية، واستعادة سيادتها كاملة، وتوحيد المؤسسات الأمنية والاقتصادية والتنفيذية، وإنهاء سطوة التنظيمات العسكرية غير القانونية، وإبعاد المرتزقة السوريين وغيرهم، وإنهاء التواجد العسكرى غير الشرعى لأى طرف كان، سواء تركيا أو غيرها من الدول التى استغلت الظروف الليبية الطارئة وفرضت قوات أو مواقع أو قواعد عسكرية براً أو بحراً. والأهم من كل ذلك لم تلجأ مصر إلى فرض تواجد لها على الأرض الليبية، وسعت دائماً إلى التنسيق مع المؤسسات الليبية فى مجالات الاهتمام المشترك، كما حرصت على حماية الحدود المشتركة من الأرض المصرية دون غيرها.
أهمية التذكير بهذه الحقائق فى هذا التوقيت تحديداً له مغزاه، فمنذ أن دعمت مصر وقف إطلاق النار بين القطاعات المتحاربة، وبعضها ليس ليبياً بالأساس، فى محور سرت - الجفرة، تيسر الكثير من التفاوض الليبى- الليبى لجعل الهدنة واقعاً مستمراً. كان الموقف المصرى وما زال داعماً بحق للمسيرة التفاوضية التى تشرف عليها بعثة الأمم المتحدة بتنسيق مع دول جوار ليبيا العربية، للوصول إلى تفاهمات واتفاقات حول المرحلة الانتقالية، وتوحيد المؤسسات، والاتفاق على رؤسائها وقادتها بالتراضى، وفتح الطرق وتشغيل المطارات المتوقفة، وتسهيل الانتقال بين مدن وربوع ليبيا المختلفة. بعض المفاوضات حققت نجاحاً مهماً، لاسيما فى لجنة 5 زائد 5 الخاصة بالأمور العسكرية، والتى حددت هدنة ووقفاً لاطلاق النار وتبادل المحجوزين من الطرفين. والبعض الآخر المتعلق بالمؤسسات وهياكلها فقد الزخم نتيجة اعتراضات وطلبات وشروط كانت بوحى خارجى، تحديداً قطرى- تركى، لفئة محدودة لا تريد الخير لليبيا وشعبها. ومع ذلك لم تفقد مصر إيمانها بأن الغالبية العظمى من الليبيين هى مع التسوية السلمية واستعادة السيادة بكل معانيها، وأن من الضرورى التدخل لدى الجميع لإعادة الزخم لمجمل العملية السلمية والانتهاء من هيكلة السلطة الإنتقالية التى تدير البلاد حتى نهاية العام 2021 الذى من المقرر أن يشهد الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وفقاً لخطة الأمم المتحدة.
حين ذهب الوفد المصرى السبت الماضى 26 ديسمبر 2020 إلى العاصمة طرابلس، حيث مقر حكومة الوفاق، والتى تُعد طرفاً رئيسياً فى أى جهد سياسى وأيضاً طرفاً رئيسياً فى منع أى تدهور عسكرى كالذى تسعى إليه تركيا، ومن قبل زيارة مسئول مصرى كبير إلى بنى غازى ومقابلة قادة ومسئولين عسكريين ونيابيين، وبين الزيارتين استقبال وفد من الرموز القبلية من الجنوب الليبى، وقرار بفتح قنصلية مصرية فى الجنوب الليبى لتسهيل التواصل وإجراء المعاملات القنصلية، كل هذا يعكس انفتاح القاهرة على كل الأطراف، إيماناً منها بأن سلام ليبيا هو مسئولية الجميع.
المسئولون الليبيون، كوزير الداخلية فتحى باشاغا ونائب رئيس المجلس الرئاسى أحمد معيتيق ووزير خارجية الوفاق محمد سيالة وغيرهم من الذين التقوا فى طرابلس الوفد المصرى رفيع المستوى سمعوا الموقف المصرى كما هو معروف فى العلن، لا حرب ولا قواعد عسكرية أجنبية ولا نهب لثروات ليبيا، ولا ميليشيات ولا تقسيم للمؤسسات. سمعوا أيضاً رغبة مصر فى التنسيق مع الجميع فى ملفات التعاون المشترك أمنياً ومواجهة الإرهاب، وحرية السفر جواً وبراً بين البلدين وحرية العمل والاستثمار، وتعرفوا على رغبة مصر فى إعادة افتتاح السفارة المصرية فى طرابلس وكيفية تأمين عملها لتسهيل التواصل بين الشعبين.
فارق شاسع
التغريدات والبيانات التى نشرها المسئولون الليبيون كشفت عن روح إيجابية يجب تقديرها والبناء عليها. وهنا لابد من ملاحظة مهمة، فالرسائل المصرية على النحو السابق تتناقض تماماً مع تلك التى أكد عليها الوفد التركى برئاسة وزير الدفاع ومرافقيه من العسكريين ورئيس المخابرات فى زيارته غير المعلنة إلى طرابلس، قبل يوم واحد من زيارة الوفد المصرى، وهى رسائل تدعو صراحة للحرب والقتال ووقف العملية السياسية وإعادة الخراب، جسدها بوضوح مريب تهديد الوزير التركى للجيش الوطنى الليبى بالعدوان عليه وتغيير الوضع القائم فى محور سرت - الجفرة، وفرض أمر واقع جديد يستهدف سيطرة القوات التركية الغازية، ومرتزقتها من السوريين المخدوعين بشعارات الخلافة العثمانية، على الهلال النفطى الليبى. وبعض المصادر الليبية صرحت بأن هذه الزيارة كانت بهدف إعلام بعض القادة العسكريين فى الغرب بالخطة العسكرية التركية للإجهاز على الجيش الوطنى الليبى وإخراجه من معادلة الأمن والسلام فى ليبيا، وهى خطة تبدو قريبة مما طبقته القوات التركية فى إقليم قره باخ الأرمنى فى الحرب الأخيرة التى جرت مع أذربيجان، والتى أدت إلى إخراج الأرمن من إقليمهم الخاص بهم إلى حيث العراء والخراب.
المقارنة بين رسالة السلام التى حملها الوفد المصرى ووجدت تقديراً وتجاوباً من مسئولى حكومة الوفاق، ورسالة الحرب والتهديد والوعيد التى حملها وزير الدفاع التركى فى زيارته الخاطفة، تكشف البون الشاسع بين استراتيجيتى البلدين تجاه الأزمة الليبية وأيضاً تجاه أزمات عربية أخرى. وشتان ما بين بلد يسعى إلى سلام وأمان لنفسه وللغير، وبلد يعمل بكل جهد لنشر الدمار والخراب والحروب والمآسى فى كل مكان يسعى إليه.