يشكل خروج السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وحصولها على كامل حقوقها السيادية، في 14 ديسمبر 2020، متغيراً مؤثراً على أوضاعها الداخلية، وكذلك على موقعها في الإقليم. في هذا السياق، ربما يكون من الأهمية بمكان التعرض لآليات إدارة هذه الأزمة، وأثر النجاح فيها على اتجاهات السياسات السودانية على الصعيدين الداخلي والخارجي.
فقد تم توظيف ملف العلاقات مع إسرائيل بشكل يضمن فعالية وسرعة الإجراءات الأمريكية بشأن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب؛ إذ عانت السودان من مراوغات أمريكية ممتدة لأكثر من عقدين تقريباً في هذا الملف. وكلّفت هذه المساومة الأمريكية السودان أثماناً سياسية واقتصادية باهظة، منها تعاون استخباري سوداني مع واشنطن بعد 11 سبتمبر 2001، سلمت فيه الخرطوم كل الملفات المتعلقة بالحركات والتنظيمات الراديكالية التي كانت لديها علاقة عضوية معها، وذلك عبر المؤتمر الشعبي للحركات الإسلامية الذي كان يُعقد في الخرطوم، وهو ما أضر نظام الرئيس السابق عمر البشير في وقت كانت مرجعيته السياسية هي الانتماء إلى هذه الحركات.
كما أن تقسيم السودان إلى دولتين، بموافقة من البشير، كان مقابل وعد أمريكي أيضاً بأن يتم رفع اسم السودان من على "القائمة السوداء" بمجرد الموافقة على إجراء استفتاء حول حق تقرير المصير لجنوب السودان عام 2011. ورغم الإطاحة بنظام البشير، لم تستجب واشنطن للطلبات السودانية، حيث تلقت الحكومة الانتقالية وعوداً لم يتم تفعيلها حتى مع زيارة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك لواشنطن لهذا الغرض تحديداً في أعقاب توليه منصبه في سبتمبر 2019. وقد تلقى بعدها العديد من الوعود كان آخرها في 8 مارس 2020 حينما زار وفد من وزارة الخزانة الأمريكية برئاسة مساعد الوزير مارشال بيلنجسلي الخرطوم، عندما قال إن عودة السودان إلى الأسرة الدولية مسألة وقت، مشيراً إلى وجود لجان أمريكية تعمل بهذا الشأن.
مداخل إدارة الأزمة
أدارت السودان التفاوض حول اتفاق التطبيع مع إسرائيل كصفقة، حاولت فيها توظيف رغبة واشنطن الملحة في أن يتم الإعلان عنها قبل الانتخابات الأمريكية، لدعم الموقف التصويتي للرئيس دونالد ترامب. وقد تبلورت حزمة من الإجراءات والإعلانات السياسية المتزامنة من الأطراف المعنية، تضمنت، على الجانب الأمريكي، إعلان تعهد على لسان الرئيس ترامب برفع اسم السودان من القائمة، وتحويل هذا التعهد إلى الكونجرس لاتخاذ الإجراءات المطلوبة، قبل إعلان السودان الموافقة على الدخول في عملية إجرائية للوصول إلى اتفاق التطبيع مع إسرائيل، فضلاً عن قيام صندوق النقد الدولي بالإعلان عن إمكانية خفض الديون السودانية، والبالغة 60 مليار دولار، وهو ما تم الإعلان عنه بالفعل في خطوة لاحقة.
على الجانب السوداني، كان المطلوب تسديد بضع ملايين من الدولارات الأمريكية كتعويضات مالية للأمريكيين الذين تضرروا من عمليات إرهابية في شرق أفريقيا في منتصف عقد التسعينيات من القرن الماضي، تقول واشنطن أنها نُفذت بدعم من نظام البشير. وبالفعل، قامت السودان بالدفع المشروط بعدم صرف قيمة الشيك (351 مليون دولار) إلا بعد قرار الكونجرس برفع اسمها من على قائمة الدول الراعية للإرهاب. كما طلب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بوصف الاتفاق مع إسرائيل بأنه "وقف للعدائيات"، وليس "تطبيعاً"، وهى محاولة تبدو مرتبطة بالمعادلة السياسية الداخلية السودانية أكثر من أية سياقات أخرى.
تداعيات مرتقبة
رغم رفع اسم السودان من على قائمة الدول الراعية للإرهاب في 14 ديسمبر الجاري (2020)، إلا أنها ظلت خطوة منقوصة وغير فعَّالة إجرائياً بسبب التسويات النهائية لضحايا 11 سبتمبر 2001، حيث استلزمت هذه المسألة مفاوضات محتدمة في الكونجرس الأمريكي، وذلك لمنح السودان حصانة قانونية كدولة في قضايا على صلة بالإرهاب، وبذلت ما يعرف بـ"روابط السودانيين في واشنطن" جهوداً كبيرة في التفاوض مع رابطة من ضحايا هجمات 11 سبتمبر، والتي كانت ترفض مقترح وزارة الخارجية الأمريكية، الذي يحرم الضحايا، حسب رؤيتها، من "الحق في ملاحقة السودان لدور سابق داعم لتنظيم القاعدة". ويقود هذه الرابطة النائبان الديمقراطيان تشاك شومر وبوب مينينديز، وهما يمثلان ولايتي نيويورك ونيوجرسي اللتين ينحدر منهما غالبية ضحايا 11 سبتمبر، واللذان طالبا بتعويضات تصل إلى ٤ مليارات دولار، مقابل 700 مليون دولار عرضتها الإدارة الأمريكية.
ومن المتوقع أن تفرض التطورات الجديدة التي طرأت على صعيد العلاقات السودانية مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل تداعيات مباشرة على الأرض، خاصة فيما يتعلق بالملفات الأكثر أهمية، لاسيما ملف الديون الخارجية والأزمة الاقتصادية؛ فعلى صعيد الديون الخارجية، فإن نسبتها أعلى من الحدود الاسترشادية، حيث بلغت 166% من إجمالي الناتج المحلي. ومن هنا ربما تكون الخطوة الفورية للحكومة السودانية إزاء أوروبا هي التفاوض لخفض ديونها، خاصة أن نادي باريس، هو أهم الدائنين بنسبة 37% من نسبة الديون الكلية البالغة نحو 60 مليار دولار، في حين أن 51% هي ديون لمؤسسات متعددة الجنسيات، بجانب 14% للقطاع الخاص. وربما يدعم السودان في هذه العملية التفاوضية أن أصل الدين الحقيقي يبلغ نحو17 ملياردولار فقط، في حين أن 37 مليار منها عبارة عن فوائد وجزاءات بسبب العجز عن دفع هذه الديون في موعدها.
وتدين السودان بمليارى دولار لصندوق النقد الدولي، وهو ما يجعل القروض وليس الديون هى الملف الأساسي في علاقة السودان بكل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في هذه المرحلة، حيث من المنتظر أن تساهم القروض المطلوبة من جانب الحكومة السودانية، في حال الحصول عليها، في تحجيم الانخفاض الحاد للعملة المحلية.ومن شأن هذه الخطوة أن تقلل من معدل التضخم، وتدعم مستويات المعيشة للسودانيين، خصوصاً في قطاعي الخبز والوقود. كما ستنعكس على قطاعات البنية التحتية المنهارة، لاسيما في مجالات النقل التي ستكون أحد القطاعات الأساسية المستفيدة من القروض والتمويلات العالمية، ذلك أن الحكومة تطرح خططاً لإقامة مشروعات ربط حديدي مع كل من إثيوبيا وتشاد لتسهيل عملية نقل البضائع والسلع إليهما من الموانئ السودانية، إضافة إلى الربط الحديدي بين مدينتى حلفا السودانية وأسوان المصرية، وهو مشروع يتوقع له أن يسهم في زيادة معدلات حركة البضائع والركاب، ويوفر بالتالي فرص عمل على الصعيدين المصري والسوداني.
أما على المستوى العسكري، فسوف يكون متاحاً للسودان تحديث قدراتها العسكرية ودعمها من مصادر متنوعة، خصوصاً أن منظومة التجهيزات العسكرية قد تضررت كثيراً بسبب فقدانها للتكنولوجيا العسكرية المتطورة خلال فترة العقوبات التي استمرت أكثر من 27 عاماً؛ فهناك أسراباً من الطائرات والدبابات المختلفة خرجت من الخدمة بسبب عدم وجود قطع غيار. كما حرمت العقوبات السودان الاستفادة من الكثير من أوجه التعاون العسكري، لاسيما تلك التي تتعلق بالتدريب ونقل التكنولوجيا، وهو أمر له تأثير بالغ على مؤشرات القوات المسلحة السودانية على المستويين الإقليمي والعالمي.
مخاوف بكين
من دون شك، فإن هذه التداعيات سوف تثير قلق قوى دولية عديدة، ومنها الصين، التي رفعت مستوى العلاقات الثنائية مع السودان خلال العقدين الماضيين، بعد أن تبنت الأخيرة سياسة التوجه شرقاً في أعقاب فرض العقوبات الاقتصادية عليها، وإعلانها دولة راعية للإرهاب في تسعينيات القرن الماضي، وهو ما عزز مكاسب وفرص الصين، خاصة في الاستثمارات البترولية والتعدينية، وهى فرص يتوقع أن تشهد منافسة محتملة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية في المرحلة القادمة. ولعل ذلك هو ما جعل الصين تستبق التدافع الاستثماري المتوقع تجاه السودان بعقد اتفاقيات جديدة مع الأخيرة لاستكشاف المعادن، فضلاً عن مشروع توسعة مصفاة الخرطوم، والذي تشارك الصين في ملكيته مع الحكومة السودانية.
في المقابل، فإن هناك زيارة متوقعة لوزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوتشين للخرطوم في 6 يناير القادم (2021) سوف تركز على فك تجميد الأموال السودانية لدى الولايات المتحدة الأمريكية والتزامها بتوفير تسهيلات نقدية تفوق المليار دولار، بالتوازي مع إقدام بنك الاستيراد والتصدير الأمريكي على تقديم ضمانات للمستثمرين الأمريكيين لتوقيع صفقات في السودان، والتي قد تصل إلى مليار دولار كخطوة أولى.
في هذا السياق، يمكن القول إن السودان تبدو مقبلة على مرحلة جديدة سوف تشهد فيها تحولات مهمة عديدة، سواء على صعيد جهودها لمواجهة الأزمات الداخلية، أو على مستوى تفاعلاتها مع التطورات الطارئة على الساحة الإقليمية.