تتراوح التقديرات بشأن محاولة المصالحة الجارية بين الرباعي العربي وقطر؛ فهل تنضم هذه المحاولة إلى المحاولات السابقة التي انتهت بالفشل؟ أم تنتهي فعليا بتحقيق المصالحة؟
خلال الأعوام الثلاثة السابقة جرت محاولات للمصالحة برعاية دولة الكويت وأميرها الراحل الشيخ صباح الأحمد. وكانت هذه المحاولات تتكثف بالأساس قبيل اجتماع قمة مجلس التعاون الخليجي، في شهر ديسمبر من كل عام، لكن تعثرت كافة جهود المصالحة في السنوات الماضية، ولم تنجح.
هناك مؤشرات تؤكد أن محاولة المصالحة الراهنة تختلف عن سابقاتها؛ فجهود دولة الكويت مستمرة برعاية أميرها الجديد الشيخ نواف الأحمد. وقد اكتسبت هذه الجهود دفعة قوية مع دخول الإدارة الأمريكية بقيادة الرئيس دونالد ترامب على الخط، سواء باتصاله الشخصي المباشر، أو من خلال إرسال وفد إلى منطقة الخليج برئاسة صهره جاريد كوشنر، فضلا عن التحرك الإيجابي مع ملف المصالحة من أغلب دول الرباعي، على نحو ما بدا من التصريحات الرسمية السعودية والمصرية والإماراتية والبحرينية.
ويعزز من إمكانات نجاح المصالحة هذه المرة، حلول إدارة أمريكية جديدة، لها وجهات نظر مختلفة بشأن القضايا العالمية، ومنها قضايا الخليج، وفي ظل أزمة اقتصادية عالمية بسبب فيروس "كوفيد-19". فهل تؤدي العوامل السابقة إلى نجاح محاولة المصالحة الجارية بين الرباعي وقطر؟
لقد بدت الأزمة في لحظة ذروتها عام 2017 متجسدة في موقف قطري عدائي داعم للإرهاب، وموقف ارتأته قطر على أنه "وصائي" من الرباعي. لكن بعد أكثر من ثلاث سنوات تتبدى دروس متعددة للأزمة. ونشير هنا إلى درسين مهمين:
الأول، يتعلق بتداعيات الأزمة على الواقع العربي بشكل عام، ذلك أن الأزمة تجري في فضاء عربي يشكل بيئة جاذبة للتدخلات الإقليمية. وبنظرة فاحصة على التحولات في المنطقة منذ عام 2017 وحتى أواخر 2020، يتضح حجم الخسائر في المواقف العربية والخليجية من جراء الأزمة، سواء على مستوى القضية الفلسطينية، أو على مستوى التدخلات الإيرانية والتركية في المنطقة، أو على مستوى أعباء الإنفاق العسكري في إدارة أزمات في ساحات جديدة عمقتها الأزمة.
نجاح المصالحة يتطلب تصحيح النوايا والسياسات القطرية، ووقف مظاهر الأجواء "الاحتفالية" في قطر والتي تشير إلى "الانتصار" ضد ما تصوره آلتها الدعائية على أنه "عدوان" رباعي عليها؛ فحتى الآن لا يزال محط تركيز الإعلام القطري وشبكات الدعاية الخادمة لقطر هو التأكيد على شيء واحد: أن قطر خرجت منتصرة، وأن القيادة القطرية كانت هي الأذكى، وأنها تفوقت على الرباعي، في منحى يتجه بالأساس إلى تعزيز شرعية النظام في الداخل وفي الخليج على حساب الآخرين، وليس البحث عن حلول حقيقية للأزمة.
الثاني، أن ضعف التماسك الخليجي والعربي الداخلي يعني إتاحة الفرص أمام تدخلات الخارج. وقد أثبتت الأزمة أنه لا أحد في المنطقة سيعجز عن إيجاد القوى الداعمة له من خارج المنطقة، لأجل مواجهة ما يعتقد بأنه مخاطر محدقة من داخل المنطقة؛ فالكل يستطيع الإنفاق على موقفه وإيجاد الحلفاء الراغبين، وعند ذروة الأزمات يصعب تصور طبيعة التحالفات المحتمل تشكلها، وهو الأمر الذي برز بوضوح في موقف تركيا التي رجحت كفة تحالفها مع قطر، رغم علاقاتها الوثيقة آنذاك بالمملكة العربية السعودية.
وبالنظر إلى شخصنة وعدم مؤسسية القرار في قطر، يندفع نظام الحكم دائما خلف ما يصوره على أنه "استقلال" الدولة، وهي ليست سوى أمور يعتقد خطأ أنها تنتقص من مهابة وكرامة الحاكم، وذلك يفرض حالة تطغى فيها "الحسابات الفردية" على "التقدير المؤسسي"، حيث تدفع هذه "الحسابات" إلى مزيد من الاستعداد لتحمل تكاليف لا نهائية في ظل وفرة الموارد. ويعني ذلك -بتقدير التكلفة والأعباء- فرض أعباء لا نهائية على المستقبل الخليجي والعربي.
سيناريوهات مختلفة
يصعب التكهن بأهداف قطر من محاولة المصالحة الراهنة؛ فالموقف القطري يتسم بالتناقض الشديد؛ فعلى الرغم من نقدها المستمر لموقف الرباعي، وإعلانها المتكرر عن رغبتها بالمصالحة، إلا أنها لا تقدم أي إشارة على نيتها التجاوب الحقيقي مع أي مطلب. والأرجح أن قطر لا تستهدف مصالحة تعيدها إلى وضعيتها السابقة في الخليج، وإنما فقط "مصالحة" تجنبها الخسائر التي نتجت من جراء المقاطعة.
في ضوء ذلك، يمكن تصور أربعة سيناريوهات لمستقبل المصالحة:
1- فشل مشروع المصالحة
رغم توافر فرص لنجاح جهود المصالحة الراهنة بالمقارنة بالمحاولات السابقة، لكن تظل احتمالات الفشل قوية أيضا. ذلك أن المصالحة لن تضيف كثيرا فيما يتعلق بترتيبات الاستعداد لمرحلة إدارة بايدن، وقد ترى أطراف الأزمة أنه من الأفضل عدم تقديم ملف المصالحة كإنجاز يُحسب لرئيس منتهية ولايته. كما أن تصور التحول القطري للعب دور إقليمي لمصلحة الأمن الخليجي والأمن العربي بمجرد عودة العلاقات مع قطر، قد يكون "وهما" يستغرق كل فترة إدارة بايدن.
وبالنظر إلى طبيعة العلاقات الخليجية وخصائصها، يصعب استيعاب القيادة القطرية الراهنة مرة ثانية في شبكة العلاقات بين السعودية ومصر والإمارات والبحرين. هذا العامل سيظل مؤثرا في نسيج العلاقات القطرية مع الدول الأربع لفترة طويلة. ذلك أن حجم الضرر الذي أحدثته قطر في المنطقة والمصالح العربية، والعلاقات العربية- العربية، لن يتم تجاوزه بسهولة وسيحتاج إلى وقت طويل نسبيا. علاوة على ذلك، يصعب تصور تخلي قطر عن أرصدتها الجديدة في شبكة علاقاتها الإقليمية والدولية. والأرجح ألا تعود العلاقات بين قطر والرباعي إلى ما كانت عليه مطلقا. فقد تأسس جزء من الدور القطري الجديد منذ عام 2017 على دور تمارسه قطر على حساب المنطقة، بالتعاون مع تركيا وإيران والإخوان، وليس ضمن قواعد وآليات النظام العربي. هذا "الجزء" من الدور القطري يصعب التراجع عنه بعد أن تأسس عليه جزء من أمن نظام الحكم في قطر.
2- مصالحة مؤسسية متدرجة زمنيا
المقصود هنا أن يتم الاتفاق على جدول زمني لمصالحة تتجاوز لقاءات ومصافحات القادة والبيانات والتصريحات حول عودة العلاقات ونسيان الماضي، وإنما تستفيد من تجارب السنوات الثلاث السابقة، بأن تتأسس العلاقات على إجراءات متبادلة ومجدولة زمنيا، يتعذر على أطراف الأزمة العودة عن التزاماتهم فيها.
ووفق ذلك يجري وضع أسس عامة للمصالحة، مع وضع أدوات وآليات لمراقبة السلوك؛ فيجري تخصيص آلية لمراقبة التمويل القطري للإرهاب وإيواء ودعم المعارضين، وآلية أخرى لوقف الهجوم الإعلامي القطري والتدخل في الشؤون الداخلية، وآلية ثالثة لمراقبة عودة الطيران المدني وإجراءات إنهاء المقاطعة الاقتصادية وتصفية الإجراءات التي اُتخذت بعد 2017 الخاصة بأنظمة الانتقال عبر الحدود، ثم آلية للترتيبات الأمنية وإنهاء القواعد العسكرية التركية.
3- مصالحة "الحد الأدنى"
وتعني مجرد التوصل إلى إجراءات لتقليص الضرر الناجم عن الأزمة، و"كتم" أو تسكين الخلافات، وليس مصالحة كلية وشاملة، وذلك في ظل فهم لاستحالة العودة إلى الماضي، مع تعدد الالتزامات وتباين التوجهات منذ عام 2017. المصالحة المقصودة هنا هي فقط مصالحة برجماتية لتخفيض الأضرار في ظل فهم الأطراف لاستمرار تباين المسارات. ويفترض هذا المستوى استمرار التفاوض حول المصالحة في ظل الاصطفاف الراهن (في مقابل قطر)، واستمرار التحالف الرباعي على قوته.
هذا لا يعني فشل المصالحة؛ وإنما يجري الشروع فيها، لكنها تتوقف عند نقطة معينة، ولا تصل إلى المحطة النهائية (باتفاق الأطراف أو من دون اتفاقهم). يعزز ذلك أن أغلب الالتزامات الخاصة بقطر تتعلق بالتعهد بتصحيح السلوك، وهو أمر يخضع للمستقبل. وقد ترغب قطر في الاكتفاء بلقطات المصالحة إعلاميا، وببعض إجراءات وقف المقاطعة، على نحو يعزز وضعيتها في الحاضر، ثم تمتنع عما تلتزم به في المستقبل، وهو الأمر الذي تكرر في مرات كثيرة في الماضي.
4- مصالحة انفرادية/ غير شاملة
وتعني مصالحة جزئية، تستهدف قطر من خلالها تفتيت تحالف الرباعي، بالتركيز على المصالحة مع طرف أو طرفين دون باقي الأطراف. وتبدو قطر "متلهفة" فعليا على المصالحة مع السعودية وأقل إقبالا على المصالحة مع مصر والإمارات والبحرين. وإذا تحقق ذلك، فسيعني خروج قطر من الأزمة منتصرة. وهنا لا يُتصور أن تكون المصالحة أكثر من تسكين الملف الإعلامي مع المملكة.
في الحقيقة، فإن البعض قد يرى أن المملكة تكون في حاجة إلى المصالحة الآن؛ فالمصالحة للمملكة تعني تسكين الملف الإعلامي ووقف الهجوم القطري على السعودية. كما أن عودة العلاقة مع قطر ستكون بابا آخر لاستعادة العلاقات مع تركيا. وقد تراهن المملكة على ذلك كبداية للعب دور في المصالحة الأشمل، وفي تسكين ملف خاشقجي، والأزمة في اليمن ومع الحوثيين وإيران، وسد الذرائع قبيل حلول إدارة بايدن.
مع ذلك، فإنه مهما كان من مؤشرات التقارب السعودي مع تركيا أو الرغبة في المصالحة مع قطر، فإن المملكة لا تستطيع القفز على تحالف قائم بالانخراط في تحالف مشكوك فيه ومتهم بدعم الإرهاب. وفي الأخير، يظل تحالف الرباعي العربي هو أهم تحالف شبه مؤسسي استراتيجي تأسس في تاريخ العرب المعاصر.