تتسارع الأحداث الداخلية في إثيوبيا في أعقاب لجوء رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في الرابع من نوفمبر الماضي (2020) إلى استخدام القوة ضد قادة الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي، وقيام جيش الدفاع الوطني الإثيوبي بعمليات عسكرية داخل إقليم التيجراي، وتصديق البرلمان الإثيوبي على هذه التحركات، التي صاحبها العديد من السياسات المناهضة لقومية التيجراي في داخل وخارج إثيوبيا، حيث أثارت هذه التطورات مجموعة من التساؤلات حول الأسباب التي دفعت رئيس الوزراء الإثيوبي للاعتماد على الخيار العسكري دون غيره من الخيارات السلمية الأخرى، وعدم تجاوبه مع المناشدات الدولية المطالبة له بالامتناع عن استخدام القوة داخل إقليم رئيسي داخل الدولة، وما هي السيناريوهات المتوقعة من جراء التصعيد العسكري داخل الإقليم على الاستقرار الداخلي في إثيوبيا، وما يعكسه هذا التحرك العسكري على القوميات الأخرى المشكلة للدولة الإثيوبية، خاصة في ظل نظام الفيدرالية العرقية الذي يقره الدستور الإثيوبي لعام 1994 والذي يعطى القوميات حق تقرير المصير والانفصال عن الدولة الإثيوبية وفقا لشروط محددة. وكذلك ما يمكن أن تسفر عنه هذه الأزمة من نتائج وخيمة على الاستقرار والأمن في الدول المجاورة، وإقليم شرق أفريقيا بأكمله.
وتحاول هذه الدراسة البحث في واقع الأزمة الحالية التي تعيشها الدولة الإثيوبية، وما تسفر عنه من نتائج وسيناريوهات محتملة.
أولا: أسباب تفاقم الأزمة بين الحكومة الاتحادية والجبهة الشعبية لتحرير التيجراي
هناك مجموعة من الأسباب المتراكمة التي قادت إلى الأزمة الراهنة. ونشير فيما يلي إلى أبز هذه الأسباب.
1- مساءلة النظام الحاكم السابق
منذ وصوله إلى السلطة في أبريل 2018 تصاعدت الخلافات بين رئيس الوزراء آبي أحمد ونظرائه في النظام السابق من التيجراي، حيث كانت الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي في قمة السلطة في إثيوبيا منذ نجاح الانقلاب الذي قادته بمشاركة عدد من الأحزاب الإثيوبية ضد نظام مانجستو الماركسي في عام 1991. ومنذ ذلك التاريخ ظلت الجبهة ومواليها من التيجراي يحتلون أهم المناصب في النظام السياسي.
ومع وصول آبي أحمد للسلطة اتهم النظام السابق بالفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، كما أقال شخصيات بارزة في الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي من الحكومة الاتحادية، واشتكى قادة تيجراى من استهدافهم من دون وجه حق في إطار إجراءات قانونية تستهدف الفساد وإزاحتهم من المناصب العليا واستخدامهم الواسع "ككبش فداء" في المشكلات التي تواجه البلاد. تبع ذلك انفصال جبهة تحرير شعب تيجراى عن ائتلاف آبي الحاكم.
2- محاولة العودة بالبلاد إلى المركزية بدلا من الفيدرالية العرقية
رفض قادة الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي الانضمام إلى حزب الازدهار(PP) الذي أسسه الرئيس آبي أحمد في ديسمبر 2019 بهدف دمج الأحزاب العرقية التي شكلت ائتلاف الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية (EPRDF) الحاكم، حيث جاء هذا الحزب كمحاولة من آبي لإبعاد البلاد عن سياسات الفيدرالية العرقية.
3- إجراء الانتخابات في إقليم التيجراي في تحدى لإرادة الحكومة الاتحادية
شهدت الشهور السابقة على بدء الأزمة عددا من التطورات المتلاحقة في علاقة الإقليم بالحكومة الفيدرالية. كان أبرزها اعتراض سلطة الإقليم على تأجيل الانتخابات الوطنية حتى العام المقبل بعد تفشي "كوفيد -19"، حيث قام الإقليم بإجراء اقتراع محلي في سبتمبر 2020 وصفته الحكومة الفيدرالية بأنه غير قانوني. وكان رئيس مجلس الشيوخ بالبرلمان، وهو من تيجراي، قد استقال في يونيو الماضي أيضا احتجاجا على تأجيل الحكومة الفيدرالية للانتخابات بسبب الوباء. وفى الأول من أكتوبر قررت الحكومة الاتحادية قطع العلاقات مع إقليم تيجراي، وصوت مجلس الشيوخ على تعليق التمويل الحكومي الموجه إلى ميزانية الإقليم.[1]
4- محاولة إضعاف القدرات العسكرية لقومية التيجراي
يستحوذ إقليم التيجراي على جزء كبير من أسلحة وقوات الجيش الوطني الإثيوبي. ويقدر بعض الباحثين هذه القوات بنحو نصف قوة الجيش الإثيوبي، حيث تعود قوة هذا الاقليم إلى إرث الحرب الحدودية بين إثيوبيا واريتريا (1998-2000). كما عملت الحكومة الاتحادية على تطوير إقليم التيجراي خلال العقود الثلاثة التي هيمنت خلالها قومية التيجراي على السلطة في البلاد.
ويبدو أن العمليات العسكرية التي تنفذها القوات الاثيوبية تطبيقا لقرارات آبي أحمد وبعد إعلان حالة الطوارئ لمدة ستة أشهر في الإقليم، تأتي في إطار محاولة كسر السيطرة التيجراية على القوات المسلحة الإثيوبية.
ثانيا: تصاعد الخلافات بين آبي أحمد والقوميات الرئيسية
تأسس النظام الفيدرالي في إثيوبيا وفقا لدستور عام 1994، عقب الإطاحة بالنظام الماركسي في عام 1990. وكان الهدف من تطبيقه هو الحد من التهميش والإقصاء الذي كانت تعاني منه الكثير من الجماعات العرقية التي تتكون منها الدولة الإثيوبية عبر عقود من الزمان، إلا أن هذا النظام الذي قسم البلاد إلى تسع ولايات رئيسية بالإضافة إلى مدينتين تتبعان الحكومة الاتحادية. وأعطى الدستور الولايات الإقليمية التي تضم الجماعات العرقية الأكبر، ومنها الأمهرة والأورومو والتيجراى والأمم الجنوبية، عضوية في الائتلاف الحاكم. لكن هذا النظام لم ينجح في معالجة وإدارة مشكلات التنوع العرقي في إثيوبيا خلال العقود الثلاثة الماضية. وكانت المشكلة الأخطر في هذا النظام أنه يقوم على أساس الانتماء العرقي وليس الوطني، ويؤسس الحقوق الأساسية - في الأرض والوظائف الحكومية والتمثيل في الهيئات المحلية والفيدرالية- ليس على الجنسية الإثيوبية ولكن على اعتبارهم من السكان الأصليين عرقيا في الأقاليم الفيدرالية المكونة. وحيث أنه يوجد في إثيوبيا أكثر من 90 مجموعة عرقية، فقد أدى هذا النظام إلى بروز التناقضات الداخلية، لأن المجموعات العرقية لا تعيش فقط في أرض "الوطن" المنفصلة، ولكنها أيضا منتشرة في جميع أنحاء البلاد. كما تعيش الأقليات العرقية داخل كل إقليم، مما أدى إلى بروز أقليات كثيرة داخل الأقاليم.[2]
كما أطلقت الفيدرالية العرقية أيضا العنان لصراع من أجل السيادة بين الثلاث قوميات الكبار: التيجراي والأمهرة والأورومو، خاصة على الائتلاف الحاكم بقيادة الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية (EPRDF). فقد سيطرت الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي على هذا الائتلاف منذ عام 1991 وحتى مجيء آبي أحمد إلى السلطة في أبريل 2018.[3]
وقد عبرت الخلافات المتواصلة بين الائتلاف الحاكم وعدد من القوميات، والتي ظهرت في صورة احتجاجات كبيرة، خاصة من قومية الأورومو والتي انضمت إليها قومية الأمهرة في عدد من الاحتجاجات (تشكل المجموعتان 65% من سكان إثيوبيا)، ومطالبة بعض القوميات بالانفصال عن الدولة الاثيوبية (والذي يكفله الدستور الإثيوبي) عن فشل النظام الفيدرالي في استيعاب الجماعات العرقية المختلفة. وكان مجيء آبي أحمد إلى السلطة عقب استقالة رئيس هايلى مريم ديسالين تحت وطأة هذه الاحتجاجات دليل على عدم قدرة النظام السياسي على استيعاب مطالب القوميات وتحقيق المساواة والعدالة بينهم.
ومنذ توليه السلطة في أبريل 2018، تبنى آبي أحمد مجموعة من الإصلاحات، حظيت بإشادات دولية. من هذه الإصلاحات زيادة الحريات، والإشراف على محاكمة المسئولين المتهمين بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، وإلغاء حالة الطوارئ، ووضع برنامج طموح للنمو الاقتصادي، واستعادة العلاقات الدبلوماسية وانهاء الصراع الذي استمر لأكثر من 20 عاما بين إثيوبيا وجارتها إريتريا.
وكان من المفترض أن تساهم هذه الإصلاحات في معالجة الأزمات المرتبطة بالفيدرالية العرقية في إثيوبيا، إلا أن هذه الإصلاحات أدت إلى بروز تحديات خطيرة من خلال تفاقم السياسات العرقية التنافسية والتعبئة العرقية.
وتشير تطورات الأحداث المتتالية خلال العامين الأخيرين إلى صعوبات خطيرة تواجه حكومة آبي أحمد في معالجة اختلالات النظام الفيدرالي، ومدى قدرته على الاستجابة لمطالب القوميات المختلفة، ومدى قدرته الوصول إلى توافق سياسي وطني؛ فقد عمل على تقديم الهوية الوطنية الإثيوبية على الانتماء العرقي. لكن هذه السياسة أغضبت الكثير من القوميات، خاصة الأورومو التي تعرضت لمظالم تاريخية واسعة. ومثل وصول أحد أبنائها إلى السلطة نجاح انتظرته لعقود. كما يواجه آبي أحمد استياءا داخل جماعته العرقية الأورومو، والتي تتعرض من حين لآخر لحملات قمعية من الحكومة الاتحادية، وكذلك للاعتقالات والاغتيالات وتجميد التنظيمات السياسية الخاصة بها، وفى مقدمتها جبهة تحرير الاورومو. ولا تبتعد قومية الأمهرة كثيرا عن هذه الممارسات، فقد قلص حكم التيجراي من المميزات التي كانت تتمتع بها الأمهرة، وهذا ما دفع هذه القومية إلى التحالف مع قومية الاورومو في بعض الأحيان.
كما دعم إقليم الأمهرة محاولة انقلابية في يوليو 2019. وشهدت البلاد العديد من الصراعات بين الأقاليم المختلفة، مما أدى إلى زيادة عدد النازحين داخليا نتيجة للعنف العرقي. ووفقا لأديسو جبريغزيابير، رئيس اللجنة الإثيوبية لحقوق الإنسان، نزح ما يقرب من مليون إثيوبي من ديارهم بسبب تصاعد العنف العرقي منذ تولي آبي أحمد السلطة. ووصل عدد المشردين داخليا في البلاد في سبتمبر 2020 إلى 1.8 مليون مواطن من بينهم 1.2 مليون مواطن نزحوا نتيجة للصراعات الداخلية في البلاد.
كما أن القوات شبه العسكرية أو الميليشيات العرقية المعروفة باسم "الشرطة الخاصة"، والتي تأسست في البداية كوحدات لمكافحة التمرد، تشارك بشكل متزايد في الصراعات العرقية، خاصة بين الأقاليم العرقية المجاورة، في الوقت الذي يستدعى رئيس الوزراء آبي أحمد باستمرار الرموز الدينية، خاصة تلك المرتبطة بالكنائس الإنجيلية البروتستانتية الأمريكية، ويقوم بتعيين بعضهم في إدارته.
ثالثا: سيناريوهات محتملة
تثير الأزمة الراهنة في إثيوبيا مجموعة من السيناريوهات، نطرحها فيما يلي:
1- الانزلاق نحو حرب أهلية
في ظل تعقيدات المشهد العرقي في إثيوبيا، يحمل استخدام الحكومة الاتحادية للقوة في مواجهة قادة إحدى القوميات الرئيسية في البلاد مخاطر واسعة، خاصة مع امتلاك إقليم هذه القومية لقدرات عسكرية وميليشيات مسلحة، تصل وفق بعض التقديرات إلى 250 ألف فرد مسلح، وكذلك تأكيد قادة اقليم التيجراي أنهم سيدافعون عن إقليمهم، والذى تزامن مع اشارة برهانو جولا، نائب قائد الجيش الإثيوبي (في ذلك الوقت) في مؤتمر صحفي في العاصمة أديس أبابا: "بلادنا دخلت في حرب لم تكن تتوقعها. هذه الحرب مخزية ولا معنى لها".
كما يمكن أن تتحول المعارك في إقليم التيجراي إلى ما يشبه حرب العصابات مما يقوض النسيج الوطني الإثيوبي ويلقى بتأثيراته على منطقة القرن الأفريقي بأكملها. ويشمل ذلك إريتريا المتحالفة مع إثيوبيا ضد التيجراي والتي تعرضت للقصف من قبل قوات التيجراي؛ والسودان، التي نشرت جيشها بكثافة على طول حدودها المضطربة مع إثيوبيا رغم أنها سمحت للاجئين بالعبور.
هذا فضلا عن تورط الجماعات العرقية المتنافسة في الصراع، ومنها قوات الأمن في إقليم الأمهرة المجاور لإقليم التيجراي، وكذلك ميليشا فانو (the Fano) ومشاركتها القوات الفيدرالية الاثيوبية في التدخل والهجوم على إقليم التيجراي. وفى المقابل، استهدف هجوم صاروخي في 14 نوفمبر 2020 مدينتين في إقليم أمهرة. كما تعرض ما يقرب من 600 شخص من الأمهرة للقتل داخل إقليم التيجراي، مما يعزز المخاوف من احتمال اتساع رقعة الصراع في البلاد الذي يشهد توترات بين العديد من المجموعات العرقية.[4]
وبعد شهر من الحرب ووفقا بعض التقارير (حيث قطعت الحكومة الإثيوبية شبكات الإنترنت والهواتف عن الإقليم) أعلنت القوات الحكومية أنها سيطرت على ميكيلي، عاصمة التيجراي، في 22 نوفمبر، التي يقطنها 500 ألف مدني. ثم أعطت الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي مهلة 72 ساعة للاستسلام ومغادرة المدينة أو مواجهة "بلا رحمة"، وفي 26 نوفمبر، وبعد انتهاء المهلة المحددة، أعلن آبي أحمد أنه يبدأ المرحلة الأخيرة من عملية الجيش. وفى ظل هذا التصعيد أصبح إقليم التيجراي يواجه أزمة انسانية مروعة؛ فقد دمرت الغارات الجوية شبكة كهرباء الإقليم وضربت إمدادات الوقود. وتؤكد التقارير أن هناك نقصا كبيرا في الإمدادات الطبية في ظل التزايد الكبير في اعداد الجرحى. كما فر أكثر من سبعة وأربعون ألف شخص إلى السودان فيما وصفته الأمم المتحدة بأنه أسوأ نزوح جماعي للاجئين شهدته إثيوبيا منذ أكثر من عقدين. كما وصل ما يقرب من 139 طفلاً إلى السودان غير مصحوبين بذويهم، وكثير منهم معرضون الآن لخطر سوء المعاملة والتمييز، وفقًا لمنظمة إنقاذ الطفولة.[5]
وفي حين يصر رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد على عدم استهداف قواته للمدنيين، يصف أبناء تيجراى حالة الصراع بأنهم أصبحوا محاصرين بين القصف العسكري العشوائي وحملة القتل والاغتصاب والنهب من قبل الميليشيات العرقية المتحالفة مع الحكومة الفيدرالية.
وتؤكد الأمم المتحدة أن تسعة ملايين شخص معرضون بشدة لخطر النزوح بسبب القتال. كما لا يمكن أن تصل المساعدات إلى الإقليم، حيث تم عزله عن محيطه الداخلي، وأغلقت دول الجوار حدودها مع الإقليم. ويواجه اللاجئون الاريتريون في الإقليم مشكلات خطيرة في ظل صعوبات وصول المساعدات الغذائية والطبية إليهم. وعقدت الحكومة الاتحادية في بداية شهر ديسمبر اتفاقا مع الأمم المتحدة للسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق التي سيطرت عليها الحكومة في الإقليم.[6]
2- تداعيات الأزمة على استقرار نظام حكم آبي أحمد
قال رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، عندما نال جائزة نوبل للسلام قبل أقل من عام، أن "الحرب تخلق رجالا عنيفين ومتوحشين بلا رحمة"، وهو نفسه الآن يخوض حربا شرسة في بلاده، ويعتمد على استخدام القوة في مواجهة الأزمات الداخلية، مما سينعكس بالضرورة على شعبيته، وكذلك على الدعم الدولي الذي تحظى به حكومته. وعلى الرغم من تصاعد الخلافات خلال الأشهر الأخيرة بينه وبين قادة الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي بما حمل مؤشرات أن هؤلاء القادة يتحدون إرادة الحكومة الاتحادية، إلا أن الكثيرين يخشون من تطورات الحرب داخل إثيوبيا.
وتنذر الأزمة الأخيرة في إقليم التيجراي بزعزعة استقرار نظام حكم آبي أحمد، خاصة في ظل وجود معارضين لتحركاته العسكرية في إقليم التيجراي. وقد عبرت الإقالات التي قام بها في 8 نوفمبر 2020 عن هذه التوقعات؛ فقد قام بإقالة وزير الخارجية، ووزير الدفاع، ورئيس المخابرات في الحكومة الاتحادية. وحل آبي أيضا محل قائد الجيش، وعين نائب القائد برهانو جولا لتولي مسئولية قوات الدفاع الوطني الإثيوبية. وكانت هذه الخطوة جزءا من تعديل وزاري أوسع بدا أنه يهدف إلى جلب المؤيدين الأكثر لعملية تيجراى إلى المقدمة.[7]
كما يمكن أن تقدم حكومة آبي أحمد استقالتها، كسابقتها (حكومة هايلى مريام ديسالين)، تحت وطأة الضغوط الخارجية التي تلقى باللوم عليه في عجز حكومته عن استيعاب مطالب القوميات المختلفة.
وفي الوقت الذي لا يقبل المسئولون الفيدراليون في حكومة آبي أي انتقادات لتحركاتهم العسكرية في إقليم التيجراي، مما يعيد إنتاج نظام التيجراي السابق الذي لا يقبل المعارضة ويمحي التوجهات الإصلاحية التي كان يحاول نظام آبي أن يظهر بها أمام المجتمع الدولي، فقد اتهمت الشرطة الإثيوبية دكتور أكاديمي من الذين رشحوا آبي لجائزة نوبل باستخدام وسائل الإعلام الدولية لتدمير البلاد. كما لم يسلم رئيس منظمة الصحة العالمية، الدكتور تيدروس أدهانوم غيبريسوس، من حملة حكومة آبي أحمد، بعد أن خدم سابقاً في الحكومة التي تقودها الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي، حيث اتهمه قائد الجيش الإثيوبي بتأييد التيجراي ومحاولة شراء أسلحة للجبهة.[8]
3- بروز مطالب انفصالية
أعطى الدستور الفيدرالي الإثيوبي لعام 1994 في مادتيه (39) و(47) الحق لكل أمة أو شعب أو جنسية أن تنفصل عن الدولة الإثيوبية الموحدة وتكون دولتها المستقلة، وفقا مجموعة من الشروط، أهمها موافقة ثلثي أعضاء مجلس الأمة أو الجنسية أو الشعب المعني. ويتم تقديم الطلب كتابيا إلى مجلس الدولة؛ عندما ينظم المجلس الذي تلقى الطلب استفتاء في غضون عام واحد يعقد في الأمة، الجنسية أو الشعب الذي قدم الطلب؛ ويتم دعم مطلب الأمة من خلال تصويت الأغلبية في الاستفتاء؛ عندها ينقل مجلس الدولة صلاحياته إلى الدولة أو الجنسية أو الشعب الذي قدم الطلب.
واعتمد دستور إثيوبيا لعام 1994 التعريف الستاليني الكلاسيكي لـ "الأمة والجنسية والشعب"، والحل السوفيتي "للمسألة القومية". وكما هو الحال في الاتحاد السوفيتي، تم تسجيل كل مساحة من الأراضي في إثيوبيا كوطن عرقي لمجموعة معينة، مما أدى إلى تقسيم السكان إلى أغلبية دائمة إلى جانب الأقليات الدائمة مع القليل من الحصة في النظام. لقد قام السيد زيناوي وحزبه بإضفاء الطابع السوفيتي على إثيوبيا وأفريقيا.
ويلقي الكثيرون باللوم على إدارة آبي أحمد التي حاولت العودة بالبلاد إلى الحكم المركزي في وقت عملت فيه الكثير من القوميات على محاولة إثبات قدرتها على الحكم الإقليمي. ولم تحصل كل القوميات على حقوقها التي أقرها دستور 1994، إلا أن سياسات آبي أحمد كانت تدفع في اتجاه تقليص سلطات القوميات داخل أقاليمها.
ومنذ وصول آبي أحمد إلى السلطة ظهرت بوادر تفكك وطني. يتجلى ذلك بشكل ملحوظ في تصاعد العنف بين الأعراق والتصويت لتصبح ولاية إقليمية مستقلة مثل منطقة سيداما، وهي منطقة إدارية لمجموعة كبيرة من القوميات الجنوبية المتعددة الأعراق والأمم والمنطقة الشعبية (SNNPR). بينما كانت هناك عمليات إخلاء وطرد واسعة النطاق، حيث فر أكثر من نصف مليون شخص من مناطق غرب غوجي وجيديو من منازلهم في أوروميا ومنطقة الأمم الجنوبية في عام 2018 وحده.
ويبدو أن الحرب المستعرة في إقليم التيجراي قد تفتح المجال أمام مطالب انفصالية من قوميات مختلفة. وقد أشار يعض قادة التيجراي في مواقف سابقة إلى إمكانية لجؤهم إلى هذا الخيار، على الرغم من أنهم كانوا يسيطرون على مفاصل الدولة لسنوات طويلة، ويمكنهم العودة إلى السلطة مرة أخرى. وقد قال زعيم الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي دبرصيون جبرميكائيل في أغسطس الماضي (2020): "لن نتنازل أبداً لأي شخص ينوي قمع حقنا، الذي كافحنا من أجل الحصول عليه، في تقرير المصير والحكم الذاتي".
4- تزايد الأعباء على دول إقليم شرق أفريقيا
انفجار الأزمة على النحو الأخير في إثيوبيا يحمل الكثير من المخاطر الإقليمية؛ فالدول الستة المجاورة لإثيوبيا لن تسلم من تداعيات الحرب التي يشهدها إقليم التيجراي، خاصة إريتريا، التي دارت بينها وبين قادة إقليم التيجراي حرب استمرت لعامين، فدول إقليم شرق أفريقيا ستتحمل بالضرورة أعباء تفجر الصراع الداخلي في إثيوبيا ومن هذه الأعباء:
أ- دعم الجيش الإثيوبي
تبرز تكهنات عديدة حول وجود تنسيق مسبق بين الحكومة الاتحادية في إثيوبيا واريتريا حول الحرب في إقليم التيجراي، وتلعب القوات الإريترية دوراً كبيراً في الحرب وهناك تقارير تؤكد وجود عشرين لواء من القوات الإريترية في الحرب.[9]
ب- أزمة اللاجئين
وفق تقديرات الأمم المتحدة، فر أكثر من سبعة وأربعون ألف لاجئ إثيوبي عبر الحدود إلى السودان. وأفاد برنامج الأغذية العالمي بأن الطعام نفد بشكل أساسي من حوالي سته وتسعون ألف لاجئ إريتري يتم استضافتهم في مخيمات في إقليم التيجراي. كما تعرض بعض موظفي الأمم المتحدة للهجوم عند محاولة اقترابهم من مخيمات اللاجئين في تيجراى. كما يوجد ما يقرب من مليوني شخص في حاجة إلى المساعدة في إقليم التيجراي وما حولها، مع نزوح مليون شخص بسبب القتال.[10]
ج- تفشى جائحة كورونا
تُصدر العديد من الهيئات تحذيرات بشأن احتمالات تفشى وباء كورونا بين اللاجئين الفارين من الحرب في تيجراى، حيث تمثل إثيوبيا واحدة من الدول الإفريقية التي تصاعدت فيها الإصابات بالوباء خلال الشهور الأخيرة (115 ألف إصافة في 10 ديسمبر)، وتجاوزت الاصابات حاجز المائة ألف إصابة.[11]
د- اضعاف الآليات الأفريقية لتسوية الصراعات
فشلت مبادرة قادها الاتحاد الأفريقي في محاولة لإثناء آبي أحمد عن المضي قدما في عملياته العسكرية في الإقليم، حيث أرسل الاتحاد ثلاثة من الرؤساء السابقين في الدول الأفريقية (رئيسة ليبيريا السابقة إيلين جونسون سيرليف، ونظيرها الموزمبيقي يواكيم شيسانو، وكجاليما موتلانثي رئيس جنوب أفريقيا السابق) والتقوا بآبي أحمد لكنه أعلن قبل وصولهم استمرار العمليات العسكرية في إقليم التيجراي. كذلك لم يتمكن هؤلاء الرؤساء من مقابلة المسئولين في الجبهة الشعبية لتحرير التيجراي.
هـ- تراجع الدور الإقليمي لإثيوبيا
اتجهت الحكومة الإثيوبية إلى نزع أسلحة الجنود الإثيوبيين المنتمين إلى قومية التيجراي المشاركين في قوات الاتحاد الأفريقي في الصومال. وأعقب ذلك حدوث مواجهات بين أفراد هذه القوات، أسفر عن قتل ثلاثة جنود، مما يشير إلى انعكاسات خطيرة للصراع الداخلي في إثيوبيا على الدور الإقليمي الذي تلعبه هذه الدولة، واستمرار تأثير الانقسامات العرقية على هذا الدور.[12]
و- مشكلات اقتصادية
فقد أعرب ستيفان دوجاريك، المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، عن قلق المنظمة بشأن التأثير المحتمل للصراع في إقليم تيجراي على التجارة والاقتصاد والأمن الغذائي في جيبوتي، لافتا إلى أن 85% من التجارة عبر ميناء جيبوتي إما متجهة إلى إثيوبيا أو قادمة منها.
خاتمة
رغم أن إثيوبيا كانت تنظر إلى نفسها باعتبارها دولة فريدة في أفريقيا، إلا أن الأزمات الداخلية المتتالية التي تواجهها والتي ترتبط في مجملها بمشكلات إدارة التنوع العرقي، وما أسفرت عنه من تداعيات خطيرة على الاستقرار والأمن، حيث تضررت العديد من القوميات نتيجة فشل النظام الحاكم في تحقيق المساواة والعدالة ومنع تعرض القوميات المكونة للدولة الإثيوبية للتهميش والإقصاء، سوف تنال بالتأكيد من هذه الصورة. وبعض هذه القوميات قد تلجأ إلى حمل السلاح في مواجهة الحكومة الفيدرالية، خاصة في ظل اتجاه النظام الحاكم إلى استخدام كل قدراته ضد كافة المنتمين إلى قومية معينة داخل الدولة، وخارجها.
كما لم تتمكن المركزية التي أسسها حكم الدرج العسكري في عام 1974، ولا الفيدرالية العرقية التي أسسها دستور عام 1994، من تحقيق الاندماج الوطني في هذه الدولة. ومن المتوقع أن تستمر الأزمات الداخلية في إثيوبيا إلى أن يصل قادتها إلى صيغة جديدة للاتحاد بين القوميات المختلفة تتجاوز التقسيمات العرقية، ويعاد تقسيم الدولة على أسس جغرافية وليست عرقية.
وقد تسعى بعض القوى الدولية إلى مساندة إثيوبيا لتجاوز الأزمات الراهنة، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر إثيوبيا وكيلا استراتيجيا لها في شرق أفريقيا. فقد تطورت الأزمة الداخلية في إثيوبيا في أثناء انشغال المسئولين الأمريكيين بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، ولذلك من المتوقع أن يحرص هؤلاء المسئولين على دعم الاستقرار في إثيوبيا بما يحقق المصالح الأمريكية في إقليم شرق أفريقيا وربما في القارة الأفريقية بأكملها.
[12] إثيوبيا تنزع سلاح جنود من التيغراي يتمركزون في الصومال، جريدة الشرق الأوسط (اللندنية) 18 نوفمبر 2020.