كيف ستتعامل إدارة بايدن مع إيران؟
2020-12-10

د. محمد عباس ناجي
* رئيس تحرير الموقع الإلكتروني - خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

وجّه جو بايدن رسائل عديدة خلال مرحلة ما قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية مفادها أنه سوف يجري تغييرات بارزة في السياسة الأمريكية تجاه إيران في حالة فوزه. ففي مقاله الذي نشر على شبكة "سي إن إن"، في 13 سبتمبر 2020، ركز بايدن على السياسة التي اتبعها الرئيس السابق دونالد ترامب تجاه إيران واعتبر أنها لم تحقق أهدافها، وأشار إلى إمكانية عودة الولايات المتحدة الأمريكية إلى الاتفاق النووي في حالة عودة إيران إلى الامتثال بتعهداتها فيه.

لكن هذه المهمة قد لا تبدو سهلة؛ فخلال الأعوام الأربعة الماضية جرت مياه كثيرة في مجرى العلاقات بين طهران وواشنطن من الصعب تجاوزها والعودة من جديد إلى المربع الأول الذي بدأ مع إدارة الرئيس السابق باراك أوباما وشهد تحسنا كبيرا وصل إلى ذروته مع الإعلان عن الوصول للاتفاق النووي بين إيران ومجموعة "5+1". وبدا دارجا آنذاك التقاط صور تجمع وزيري خارجية البلدين أو إجراء اتصال هاتفي بين الرئيسين.

وبصرف النظر عن أن الإدارة الديمقراطية الجديدة سوف تحتاج إلى مزيد من الوقت من أجل تشكيل الفريق الجديد الذي سيدير السياسة الخارجية، فضلا عن بلورة معالم تلك السياسة، فإن ثمة متغيرات عديدة سوف يكون لها دور في تحديد اتجاهات السياسة الأمريكية إزاء إيران خلال المرحلة القادمة.

ملف شائك

أبرز هذه المتغيرات يتعلق بمدى قدرة الإدارة الجديدة على تخفيف العقوبات التي فرضتها الإدارة السابقة على إيران، وهي عقوبات لم تقتصر على البرنامج النووي، وإنما امتدت إلى البرنامج الصاروخي والدور الإقليمي (الذي يرتبط دائما باتهامات دعم الإرهاب) وحقوق الإنسان.

وإذا كانت الإدارة القادمة تستطيع تخفيف العقوبات الخاصة بالصادرات النفطية على سبيل المثال، فإنها لن تتمكن -على الأرجح- من التأثير في العقوبات الخاصة بدعم الإرهاب، وهي عقوبات تكتسب أهمية وزخما خاصا على الساحة الداخلية الأمريكية بشكل يبدو جليا في عدد الدعاوي المرفوعة ضد إيران في المحاكم الأمريكية بسبب الاتهامات الموجهة لها بالمسئولية عن بعض العمليات الإرهابية التي راح ضحيتها عسكريون ومدنيون أمريكيون.

وهنا كان لافتا أن تقارير عديدة بدأت تشير إلى أن إدارة الرئيس ترامب تستعد في الفترة المتبقية على تسليم السلطة من أجل فرض عقوبات جديدة على إيران، تتعلق بالبرنامج الصاروخي ودعم الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان. والهدف الأساسي منها هو وضع مزيد من الصعوبات أمام إدارة بايدن قبل أن تُقدِم على اتخاذ خطوات إجرائية تهدف للوصول إلى تفاهمات مع طهران مجددا.

وبمعنى أدق، فإن إدارة ترامب تسعى إلى تقليص حرية الحركة وهامش الخيارات المتاحة أمام إدارة بايدن قبل أن تتولى مهامها في الأساس وتحديدا قبل أن تقدم على أي خطوة تجاه إيران.

تعويضات محتملة

فضلا عن ذلك، فإن إيران قد لا تكتفي بتخفيف العقوبات المفروضة على صادراتها النفطية، خاصة أنها فقدت معظم، إن لم يكن مجمل، المشترين الرئيسيين الذين سعوا في الفترة الماضية إلى إبرام صفقات مع مصدرين آخرين تجنبا للتعرض للعقوبات الأمريكية، بل ربما تطالب بتعويضات عن ما ألحقته تلك العقوبات من خسائر عليها.

 وقد ظهرت تقديرات إيرانية عديدة في هذا الصدد عن حجم الخسائر التي مُنيتْ بها إيران بسبب تراجع صادراتها النفطية. ففي 31 ديسمبر 2019، قال الرئيس حسن روحاني أن إيران خسرت نحو 200 مليار دولار منذ بدء تطبيق العقوبات الأمريكية. لكنه عاد في 26 سبتمبر 2020، وأشار إلى أن الخسائر تصل إلى 150 مليار دولار. 

ومن دون شك، فإنه من الصعوبة على الإدارة الأمريكية الجديدة أن تستجيب لمثل تلك المطالب، وهي تدرك تماما حجم الانتقادات التي تعرضت لها إدارة الرئيس السابق باراك أوباما (وكان بايدن عضوا فيها) عندما أعادت إلى إيران، في منتصف يناير 2016، مبلغ 400 مليون دولار نقدا كانت جزءا من صفقة لم تتم في عهد الشاه، واعتبرتها اتجاهات أمريكية عديدة بمثابة “فدية” لإطلاق سراح سجناء أمريكيين.

البرنامج الصاروخي

وإذا كان لدى إيران القدرة على العودة من جديد إلى الالتزام ببنود الاتفاق النووي، ومن ثم وقف تنشيط برنامجها النووي من جديد، لاسيما على صعيد رفع مستوى تخصيب اليورانيوم من 3.67% إلى 4.5%، وزيادة كمية اليورانيوم المخصب إلى أكثر من 2105 كيلو جرام (عشر أضعاف الكمية التي ينص عليها الاتفاق النووي وهى 202.8  كيلو جرام)، وتوسيع نطاق عمليات التخصيب لتشمل منشأة فوردو إلى جانب مفاعل ناتانز، فإن ذلك لن ينطبق على برنامج الصواريخ الباليستية، بما يعني أن إيران لن تتراجع بسهولة عن المستوى الذي وصلت إليه في تطوير هذا البرنامج أو القبول بفرض قيود عليه.

وربما يمكن القول، إن هذا البرنامج سوف يكون محورا للتجاذبات بين طهران وإدارة بايدن، لسببين: أولهما، أن إدارة بايدن سوف تسعى إلى ضم هذا البرنامج إلى أية مفاوضات مستقبلية قد تجري مع إيران، خاصة أن بايدن سبق أن ألمح، في مقال سي إن إن، أن المفاوضات مع إيران لن تقتصر على فكرة “العودة مقابل العودة” أى عودة إيران للالتزام ببنود الاتفاق مقابل عودة الولايات المتحدة الأمريكية للمشاركة فيه، وإنما ستمتد إلى الملفات الأخرى مثل البرنامج الصاروخي والدور الإقليمي، وهو ما لن تسمح به إيران بسهولة.

وقد أشار وزير الخارجية محمد جواد ظريف إلى ذلك عندما قال أنه “لو كانت إيران في وارد القبول بإجراء مفاوضات حول هذه الملفات لكانت وافقت على ذلك في عهد ترامب”. وبدأت رسائل عديدة تخرج من طهران ومفادها أنه في حالة إجراء مفاوضات في المستقبل فإنها ستتركز حول آليات عودة واشنطن للاتفاق والتزام إيران بتعهداتها فقط.

وثانيهما، أنه من المزمع رفع الحظر المفروض على إيران فيما يتعلق بالأنشطة الخاصة ببرنامج الصواريخ الباليستية في عام 2023، أى خلال الفترة الرئاسية الأولى لبايدن، وفقا لما جاء في الاتفاق النووي وقرار مجلس الأمن رقم 2231 الذي يطالب إيران بعدم إجراء أنشطة في هذا القطاع لمدة ثماني أعوام.

وهنا، فإن الأزمة قد تتكرر من جديد بين طهران وواشنطن، بعد أن فشلت الأخيرة في منع رفع الحظر المفروض على الأسلحة التقليدية الذي تم رفعه في 18 أكتوبر 2020 (بعد مرور خمسة أعوام من اعتماد خطة العمل في 18 أكتوبر 2015)، بعد أن عزف معظم أعضاء مجلس الأمن، حتى الدول الأوروبية، عن تأييد مشروع القرار الذي تقدمت به في 15 أغسطس 2020 لتمديد الحظر، والذي لم يحظ بتأييد سوى الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الدومينيكان.

وربما يكون من الصعب أن تقدم إيران تنازلات في هذا البرنامج تحديدا، خاصة أنه تعتبره ورقتها الرابحة في مواجهة أى تصعيد محتمل مع الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل، لاسيما أن هذا التصعيد لم يعد مستبعدا، بعد أن اندلعت المواجهة المباشرة والمحدودة بين الطرفين في الأيام العشرة الأولى من يناير 2020.

وتستغل إيران البند الخاص بالبرنامج الصاروخي في قرار مجلس الأمن رقم (2231)، والذي لا يفرض التزاما صارما عليها، حيث ترى أن هذا البند يركز على نوعية الصواريخ المصممة لحمل أسلحة نووية، وهو ما تدعي أنه يختلف عن نوعية الصواريخ التي تمتلكها.

 واللافت في هذا السياق، أن إيران سارعت قبل فترة وجيزة من إعلان فوز بايدن، إلى استعراض قدراتها الصاروخية مجددا، فقد كشفت، في 4 نوفمبر الماضي، عن منظومة "آلية وذكية" لإطلاق متعدد للصواريخ الباليستية بعيدة المدى. وقبل ذلك، كشفت، في 20 أغسطس 2020، عن صاروخ باليستي جديد أطلقت عليه اسم "قاسم"، في إشارة إلى قاسم سليماني، ويبلغ مداه (1400) كيلو متر.

تداعيات تصفية سليماني

التداعيات التي فرضتها تصفية قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني ما زالت قائمة؛ إذ أن هذه الخطوة التي أقدمت عليها إدارة دونالد ترامب في 3 يناير 2020، كان لها تأثير قوي على التصعيد بين الطرفين، خاصة في ظل المكانة البارزة التي كان يحظى بها سليماني داخل دوائر صنع القرار في إيران، ليس على صعيد العمليات الخارجية الخاصة بالدور الإقليمي فحسب، وإنما على مستوى البرنامجين النووي والصاروخي. بعبارة أخرى، فإن المسألة لا تتعلق بتصفية شخص أو مسئول عسكري، بقدر ما ترتبط باستهداف مشروع استراتيجي ودور إقليمي كان يرمز له سليماني ويمتلك من خلاله سلطات ربما تكون أكثر تأثيرا من مسئولين كبار داخل النظام الإيراني.

من هنا، سيكون من الصعب على طهران تجاوز هذا الحادث بسهولة، فضلا عن أن اتجاهات عديدة في واشنطن نفسها قد لا تتسامح مع ما قامت به كرد فعل على قتل سليماني، حيث وجهت للمرة الأولى وبشكل مباشر، ضربات صاروخية ضد قاعدتين في العراق تتواجد بهما قوات أمريكية، في 8 يناير 2020. كما أنها اتهمت بالمسئولية عن هجمات صاروخية وقعت بعد ذلك في العراق وأدت إلى مقتل أمريكيين، وهى حوادث تكتسب أهمية -وزخما خاصا- داخل الولايات المتحدة الأمريكية، تتوازى أيضا مع استمرار الدعوات القضائية المرفوعة ضد طهران نتيجة اتهامها بالمسئولية عن بعض العمليات الإرهابية التي راح ضحيتها أمريكيون.

واللافت في هذا السياق، أن إيران عادت من جديد إلى توجيه رسائل تفيد أن موعد الانتقام لقتل سليماني لم يحن بعد وأن الضربات الصاروخية التي وجهتها في 8 يناير 2020 تعتبر بمثابة رد فعلي أوَّلي فقط سوف تستتبعه خطوات أخرى. بمعني آخر، فإن قتل سليماني سوف يضع مزيدا من الصعوبات أمام الإدارة الأمريكية الجديدة في حالة ما إذا بدأت بالفعل في محاولة تحويل تصريحات وآراء بايدن إلى خطوات إجرائية على الأرض.

دور إسرائيل

بالتوازي مع ذلك، لن تتسامح إسرائيل بسهولة مع أى محاولة من جانب إدارة بايدن لانتهاج سياسة أكثر مرونة مع إيران، وبالتالي سوف تتجه، في الغالب، إلى ممارسة ضغوط من أجل كبح أى محاولة لعودة واشنطن إلى الاتفاق النووي وبالتالي رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران. 

وقد بدأت إسرائيل في توجيه رسائل بأن أي محاولة للعودة إلى مرحلة ما قبل الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي في مايو 2018، قد تهدد بنشوب حرب جديدة في المنطقة، على نحو ما أشار إليه وزير الشئون الاستيطانية في الحكومة الإسرائيلية تساحي هنغبي، بقوله إنه “لا يخشى من الفوارق في الموقف من الصراع مع الفلسطينيين، لكن الخوف ينبع من احتمال أن يدفع بايدن لتغيير سياسات الولايات المتحدة الحالية تجاه إيران والعودة للاتفاق معها حول المشروع النووي”، مضيفا: "إذا حدث هذا الأمر في عهد بايدن، لن أستبعد أن يقودنا إلى صدام حربي مباشر بيننا وبين إيران".

هنا، ربما تكون إسرائيل حريصة على التصعيد مبكرا وتوجيه رسائل تحذيرية، بهدف الحصول على مكاسب جديدة من الإدارة الديمقراطية، أو كبح اتجاهها نحو تغيير السياسة الأمريكية في الملف الفلسطيني، لكن ذلك لا ينفي أن الموقف الإسرائيلي من أى توجه أمريكي جديد نحو الانفتاح على طهران سوف يبقى متغيرا لا يمكن تجاهله من جانب إدارة بايدن.

المسار الثاني

رغم كل ذلك، لا يمكن استبعاد أن يبدأ الطرفان في محاولة “اختبار النوايا المتبادلة” من أجل استشراف وتقييم ما يمكن الوصول إليه من تفاهمات أوَّلية قد تقود إلى تفعيل فكرة “العودة مقابل العودة” وفقا لشروط مقبولة. وهنا، فإن دبلوماسية المسار الثاني، قد تكتسب أهمية خاصة من جانبهما، لاعتبارات رئيسية أربعة:

 أولها: تعد الآلية الأساسية التي استندا إليها في فترات سابقة للوصول إلى تفاهمات، كان آخرها المباحثات السرية التي أجريت بين إيران وإدارة أوباما والتي مهدت للوصول للاتفاق النووي. 

ثانيها: هي آلية غير رسمية، بما يعني أن أيا من الطرفين لن يخسر شيئا في حالة ما إذا لم تنته إلى توافق معين حول بعض الملفات الخلافية. 

ثالثها: أنها تعفيهما من التعرض لضغوط قوية، لاسيما واشنطن، من جانب الحلفاء، خاصة إسرائيل، التي قد تحاول وضع عراقيل مبكرة أمام الوصول إلى أية تفاهمات. 

رابعها: أنها تتوافق مع مرور الدولتين بمرحلة انتقالية؛ فإدارة بايدن في حاجة إلى مزيد من الوقت قبل أن تقدم على اتخاذ خطوات إجرائية في سياستها إزاء إيران. والأخيرة بدورها مقبلة على انتخابات رئاسية في يونيو 2021، لن يترشح فيها الرئيس الحالي حسن روحاني، ويسعى تيار المحافظين الأصوليين، بدعم من الحرس الثوري، للفوز بها ومن ثم تكريس سيطرته على مؤسسات صنع القرار في طهران.

وفي كل الأحوال، يمكن القول إن مرحلة اختبار النوايا والرسائل المتبادلة سوف تبدأ بين واشنطن وطهران خلال الشهور القادمة، بهدف تعزيز موقع كل منهما قبل الانخراط في أية مباحثات تمهد للوصول إلى تفاهمات بشأن تقليص حدة التصعيد الحالي حول الاتفاق النووي والبرنامج الصاروخي والدور الإقليمي.


رابط دائم: