الحكومة والمجتمع والكلمات المتقاطعة - إفتتاحية العدد 73 من فصلية "أحوال مصرية"
2020-12-7

د. أيمن السيد عبد الوهاب
* نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية والخبير فى شئون المجتمع المدنى

قد لا يعرف الكثير من الأجيال الحديثة، ما هى الكلمات المتقاطعة وحدود ارتباطها بأجيال أخرى سابقة، فقد كانت أحد وسائل الترفيه والتحدى والتنافس بين الأصدقاء والزملاء بل إنها كانت تقدم فى الكثير من الأحيان فى الأعمال الدرامية والسينمائية، وتوظيفها دراميًا كملمح مصاحب للموظف الحكومى الذى يهمل مصالح المواطنين، ويهدر الوقت فى حل الكلمات المتقاطعة أو ملء فراغات المربعات.

تلك الصورة النمطية المصاحبة للموظف الحكومى وما تعكسه من سياقات تتعلق ببيئة العمل والثقافة الحاكمة والنظرة إلى الموظف، ومن ثم للأداء الحكومى والبيروقراطية، تشير بالتبعية  إلى عدد من الركائز الضرورية لأهمية الإصلاح الإدارى الذى تنتهجه الدولة المصرية حاليًا، وحتمية العمل على توفير قوة الدفع المطلوبة لاستمراره بشكل متدرج، بحيث يمثل منهاجًا حكوميًا داعمًا لهياكل العمل الحكومية الحاضنة للسياسات العامة، والمتوافقة مع رؤية واستراتيجية الدولة لعام 2030.

من هنا تأتى أهمية الربط بين متطلبات تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة وهدف إصلاح الجهاز الإدارى ورفع كفاءة العاملين به، لما يوفره هذا الإصلاح من فاعلية وكفاءة فى أداء المؤسسات الحكومية وإدارة موارد الدولة، وإعلاء قيم الحوكمة من شفافية ونزاهة ومساءلة، فضلا عن مرونة الاستجابة لاحتياجات المواطنين، وتقديم الخدمات بأساليب حديثة، والوصول إلى درجة عالية من الرضا من جانب المواطنين.

وإذا كان المطلوب هو بناء نموذج محفز ومبدع لإدارة الحكومة لمسئولياتها، ويستجيب لمقتضيات مرحلة بناء الدولة الوطنية، وما تفرضه المرحلة الراهنة من مسئوليات أكبر من جانب الحكومة والدولة فى إدارتها لعملية التنمية، بالقدر الذى يقربها من مفهوم “الدولة التنموية” وما يتطلب ذلك من رؤى وفلسفة وسياسات وإجراءات محفزة قادرة على مواجهة تحديات الإصلاح الاقتصادى والاجتماعى والسياسى، فإن عملية بناء النموذج الوطنى للتنمية، لا شك أنها تحتاج إلى جهاز إدارى كفء وفعال، من هنا كانت مبادرة مجلة أحوال مصرية بطرح مفهوم “إعادة اختراع الحكومة” من منطلق طرح الأفكار والرؤى الجديدة للإدارة وفلسفتها وما تتطلبه من سياسات متدرجة تتوافق وطبيعة المرحلة، وما يتوافر من مقومات ومقدرات وإرادة سياسية، دون تجاهل ما يفرضه المستقبل من سبل لابد من الأخذ بها حتى نستطيع أن نكون مشاركين فى صناعة المستقبل وليس مجرد مستخدمين لأدواته، واستنادًا إلى هذه الرؤية تم معالجة مفهوم “إعادة اختراع الحكومة” من منظور المستقبل، وما تتطلبه مقتضيات الثورة الصناعية الرابعة والتحولات الرقمية والانتقال من مفهوم الحكومة التقليدية إلى الحكومة الإلكترونية والحكومة الذكيةـ وهو ما تناوله عدد 71 من أحوال مصريةـ فهذا المفهوم لا يرتبط فقط بكفاءة الجهاز الإداري، ولكنه ينطلق من رؤية تستند إلى ابتكار الحلول والقدرة على تعبئة الموارد ودعم عملية التخطيط المستقبلى للاقتصاد عبر الشراكة مع القطاع الخاص والقطاع الأهلى.

وهنا، يبرز التحدى فى الدول النامية ومنها مصر التى لم تستطع أن تحقق إنجاز كبير فى تطوير الأداء الحكومى رغم الكثير من الجهود والمبادرات، فالحديث عن الحكومة الإلكترونية والحكومة الذكية هى محاولات وأطر للتوافق مع العصر والتحولات الرقمية والثورة الصناعية الرابعة، ولكن فلسفة إعادة اختراع الحكومة تذهب إلى مساحات أخرى تتعلق بإدارة الأعمال وتحفيز المؤسسات العامة والخاصة على المنافسة عبر الاستناد إلى أداء اقتصادى رشيد يراعى الاعتبارات بين التكلفة والربحية ومواجهة اللامركزية للحد من البيروقراطية والاستناد إلى الجودة.

فهذه الاحتياجات التى يتطلبها بناء هذا النموذج الحكومى تبدو كمربع الفراغات الذى يجب ملؤه  بالكلمات المفتاحية المطلوبة والملائمة والموجودة فى المربع الآخر الذى يعبر عن المقومات والقدرات المطلوبة لتنفيذ السياسات.
بعبارة أخرى إن البحث عن أطر جديدة لتطوير أداء الحكومات لمواجهة مشكلات التنمية المستدامة، تشير بدورها إلى أهمية الوقوف على الخبرات الدولية واستقاء الدروس التى تطرحها تلك الخبرات، حيث تشير العديد من الخبرات الدولية إلى محدودية الإنجاز الذى تحقق مع تطبيق مفهوم إعادة اختراع الحكومة، وأنه ارتبط بالدول المتقدمة، فى حين بدأ بعيدا عن التطبيق فى الكثير من الدول النامية، وهو ما يُثير الكثير من التساؤلات ويطرح العديد من التحديات حول القدرة على تطبيقة، لاسيما فى الدول النامية.

لذا فقد استندت معالجة المفهوم وتناوله من خلال إطاره النظرى والتطبيقى، فضلا عن استعراض بعض التجارب التى استطاعت أن تحقق إنجاز وأن تقدم رؤية وفلسفة جديدة لأدوار الحكومات تتجاوز من خلالها الأدوار التقليدية والكلاسكية الممثلة فى تقديم الخدمات وتطبيق القواعد والإجراءات وتحمل أعباء الإنفاق والبيروقراطية، إلى حكومات ذات أدوار ومسؤوليات جديدة تدفع  نحو مزيد من الشراكة والإدارة الاقتصادية مع القطاع الخاص والأهلى، وتستند إلى الإبداع والتحفيز وتقليص اللامركزية وتُعلى من آليات السوق والتنافسية وتراعى احتياجات المواطنين وأولياتها.

هذا التباين فى الأدوار والمسؤوليات لا يقتصر فقط على تغيير فى الرؤية والفلسفة، ولكنه يعبر أيضًا عن حجم التحديات التى يطرحها مفهوم “إعادة اختراع الحكومة” عند تناوله فى سياقات الدول النامية ومنها مصر بطبيعة الحال، ولذا كان التركيز فى هذا العدد على قراءة الواقع وجملة التحديات والقيود التى تطرحها مثل هذه المفاهيم الوافدة، والتى تتطلب أطر تشريعية ومؤسسات ذات كفاءة وتحديد للأدوار والمسئوليات وثقافة عمل خاصة، وهى خطوات ومراحل إصلاحية تحتاج الكثير من الجهد والوقت والتدرج. فضلا عن إعطاء مساحة أكبر فى التناول لعملية الإصلاح الإدارى فى مصر باعتباره منهاجًا حكوميًا ومطلبًا تنمويًا. ويمثل فى حال  استمراره إنجازًا حقيقيًا، لاسيما وأن التجارب الإصلاحية السابقة لم تكتمل.

 الأمر الذى يعيدنا إلى فلسفة وعملية الكلمات المتقاطعة والكلمات المفتاحية الدالة والراشدة لملء الفراغات، فالحديث عن أى إصلاح أو تطوير لمنظومة العمل الحكومى وإصلاح مؤسساتها، تعنى أننا نتحدث عن متطلبات لتجميع كلمات مفتاحية مثل: المواطن، المجتمع، الحكومة، الدولة، والموروث الثقافى، والعمل الحكومى، والقطاع العام والخاص والأهلى، وإننا نتحدث أيضًا عن كلمات تعبر جميعها عن أنماط مختلفة من العلاقات والمسؤوليات والإدراكات، مثل:  العلاقة بين الدولة والمجتمع والمواطن، وبين القطاع العام والخاص، وبين الموروثات الثقافية والعادات والتقاليد المرتبطة بثقافة العمل والرؤية للحكومة والعمل الحكومي. وإننا نستهدف التنمية الشاملة المستدامة، فى إطار رؤية وعقد اجتماعى يجمع الدولة والمجتمع وفى القلب منهما المواطن، فحول أى صيغة سوف تملء الفراغات بكلمات ومعانى ودلالات إصلاحية وماهى حدود الإصلاح المطلوب والوقت المتاح والمخطط له؟، هذا التساؤل يمكن الإجابة عليه من خلال رؤية واستراتيجية 2030 التى طرحتها الدولة المصرية كإطار حاكم لرؤيتها وطموحها المستقبلى. بمعنى أخر، يمكن القول أن تحديد ماهية هذه الكلمات وتجميعها معا، سوف يحدد ماهية منظومة الإصلاح ومقتضيات تكاملها فى أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.

وهكذا، يجب التأكيد على أن طرح هذا المفهوم ـ إعادة اختراع الحكومة ـ لا يمثل الغاية الكبرى ولكنه يطرح فى إطار تفعيل الحوار حول سبل بناء نموذج واقعى لإدارة الحكومة المصرية، يكون من شأنه الحد من تأثيرات البيروقراطية، ويرشد التكلفة، ويعظم العائد المجتمعى من عملية التنمية المستدامة، وأن يرتكز على توسيع أطر التعاون والشراكة مع القطاع الأهلى والخاص، جنبًا إلى جنب مع تجميع كافة القوى الاجتماعية والاقتصادية ودعمها بتوافر إرادة سياسية، فالهدف المنشود والأكبر يظل فى بناء دولة وطنية حديثة تمتلك من المقومات ما يجعلها تحتل مكانة تستحقها فى صناعة المستقبل.


رابط دائم: