اشتعل الوضع في ليبيا خلال الأيام الماضية، بعد عودة المواجهات العسكرية كأحد أدوات حسم الصراع، بعد أن كان مسار التسوية السياسية هو الأقرب للتحقق، والحاصل على دعم إقليمي ودولي. فقد قام الجيش الوطني الليبي بالتقدم غربا حتى مدينة غريان، وبات على حدود العاصمة طرابلس، وهذا بعد أن تمدد في الجنوب الليبي قبل وقت سابق. تصادم تحركات الجيش الوطني الليبي مع قرارات المجلس الرئاسي، أو بمعنى آخر الصدام بين خليفة حفتر وفائز السراج على أرضية هذه الأحداث تدل على عدم قابلية الصراع الليبي للدخول في حوار سياسي لحل أزمة الانقسام بين الشرق والغرب، وذلك على الرغم من الجهد الأممي في هذا الملف للتوصل لتسوية سياسية. هذه الحقيقة أكدها قرار المبعوث الأممي غسان سلامة حين أعلن أن "المؤتمر الوطني الجامع"، الذي كان من المفترض إقامته خلال أسابيع عدة تم تأجيله لأجل غير مسمى. الوضع الحالي جعل السؤال الذي كان يتردد خلال الآونة الماضية يعود مرة أخرى لصدارة المشهد: إلى أين تتجه ليبيا، للحسم العسكري أم للتسوية السياسية؟ هذا السؤال يحتاج إلى تحليل كلي للوضع، حيث تصبح التفاصيل أقل قيمة من الرؤية المُجمعة لسياق الصراع في ظل أبعاده المختلفة، ذلك أن هناك عددا من الفاعلين في المشهد الحالي من غير الممكن تجاهل أيا منهم في ثنايا الصراع خلال المرحلة الحالية.
هناك القوى العسكرية المتصارعة على الأرض في الداخل الليبي. هذه القوى العسكرية من الممكن تقسيمها إلى فئات ثلاث. الفئة الأولى، هي القوة العسكرية الأكثر نظامية في الوقت الحالي، وهي قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، وهي فئة تكتسب في المرحلة الحالية عددا من المزايا في ظل التماسك المؤسسي، وهشاشة الوضع الأمني في الغرب الليبي، وخاصة في طرابلس. الفئة الثانية، هي القوات التابعة للمجلس الرئاسي، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة وفقاً لاتفاق الصخيرات الذي تم توقيعه في المغرب في ديسمبر 2015. والجدير بالذكر أنه لم يشهد تطبيقا فعليا حتى الآن. من المهم عدم إغفال أن هذه القوات لا تحظى بقدر كبير من التماسك المؤسسي، وتحركت أغلبها من ميليشيات مدينة مصراتة للتضامن مع المجلس الرئاسي، على الرغم من أن هذا الوضع لم يكن قائماً سياسياً قبل التمدد الجغرافي للجيش الوطني الليبي غرباً. هذا التحول يشير لعدد من المخرجات، إما أن تكون هذه القوات تتحرك بدافع لحظي نظراً للتمدد الجغرافي للجيش الوطني الليبي، وإما أن تنشأ تحالفات عسكرية جديدة بين قوات مسلحة غير مؤسسية في المنطقة الغربية، مثلما كان الحال في تحالفات "فجر ليبيا"، و"البنيان المرصوص"، وهي تحالفات آنية في أغلب الوقت نظراً لغياب السياق المؤسسي الكافي لخلق حالة من التحول في سياق هذه التحالفات مؤسسياً. الفئة الثالثة في سياق الصراع هي فئة الميليشيات التي لا تتبع أية كيانات شرعية، وهناك الكثير من هذه الجماعات في الغرب الليبي. ربما لا ترتقي هذه الميليشيات عسكريا للتصدي لتحركات وقدرات الجيش الوطني الليبي، ولكنها قادرة على خلق المزيد من التعقيدات والمواجهات في سياق الصراع العسكري.
ومما لا شك فيه، أنه من غير الممكن إغفال الأدوار التي تقوم بها القوى الإقليمية والدولية المعنية بالملف الليبي وطبيعة الصراع هناك. من ناحية، هناك الموقف المصري الذي يرى ضرورة وجود جيش وطني ليبي (واحد) وذي طبيعة مؤسسية، يعمل كذراع للحكومة الشرعية الليبية، باعتباره شرط رئيسي وضروري للحفاظ على الاستقرار في ليبيا. من ناحية أخرى، هناك الطرف الجزائري، والذي كان أحد الداعمين للقوى السياسية والعسكرية في الغرب الليبي نظراً لرعايتهم للمصالح الجزائرية في ليبيا، خاصة فيما يتعلق بلمف أمن الحدود، ولكن حجم التوترات الداخلية الموجودة حالياً بالجزائر نظراً لانسحاب عبد العزيز بوتفليقة عن المشهد السياسي، والأزمات المتوقعة في اختيار بديلاً له، تدلل على أن الدور الإقليمي للجزائر معرض لحالة من التراجع، وهو ما سيخلق فراغاً في الداخل الليبي. تونس والإمارات العربية المتحدة من القوى التي لها ثقل في الداخل الليبي وفي سياق الصراع، ولكن نفوذهم على أرض الواقع من غير الممكن مقارنة ثقله بثقل أدوار كل من مصر والجزائر من حيث التفاعل مع الأطراف المختلفة في سياق الصراع ومحاولة مساعدتها على التوصل إلى توافق بشأن القضايا الخلافية.
أوروبا هي الأخرى، وهي أحد أهم الفاعلين في الملف الليبي تمر بمرحلة من غياب التوافق بشأن الأزمة الليبية. احتدام الصراع العسكري خلال الأسبوع الماضي كان أحد أهم عوامل ظهور الاختلافات في المواقف الدولية فيما يتعلق بالأزمة الليبية. تظل إيطاليا داعمة للغرب الليبي، وللمجلس الرئاسي، ولفائز السراج، حيث أن المصالح الإيطالية المتعلقة باستثمارات النفط، وبالتحكم في الحد من الهجرة غير الشرعية من سواحل طرابلس لسواحل جنوب إيطاليا أحد أهم الملفات التي ترغب إيطاليا في استمرار رعايتها من قبل المجلس الرئاسي في طرابلس. ولذا فإيطاليا ترفض التقدم العسكري الذي يقوم به الجيش الوطني الليبي، وتسعى للعودة إلى خارطة الطريق التي اقترحتها الأمم المتحدة من خلال غسان سلامة. فرنسا، وهي أيضا أحد الفاعلين في الملف الليبي، خاصة فيما يتعلق بالجنوب، تبدو في حالة من الارتباك بشأن الأحداث الأخيرة في ليبيا، فمنذ توغل نفوذ خليفة حفتر والجيش الوطني الليبي في الجنوب، وفرنسا تعيد حساباتها في التحالفات مع الأطراف في الداخل الليبي، ذلك أن جنوب ليبيا هي المنطقة التي تشهد الكم الأكبر من المصالح الفرنسية في ليبيا. الولايات المتحدة الأمريكية هي الأخرى عادت للمشهد الليبي من خلال تصريح وزير خارجيتها برفض الولايات المتحدة أي اقتتال داخلي أو صراع عسكري في الأزمة الليبية، ومطالبة قوات المشير خليفة حفتر بالتراجع عن فكرة التصعيد العسكري. وبالتالي، باتت القوى الإقليمية والدولية في حالة من مراجعة مواقفها إزاء الأزمة الليبية، سواء من خلال مراعاة المصالح المتعددة للمجتمع الدولي في بلد غني بالنفط، وتمثل سواحله بوابة للهجرة غير الشرعية، أو من خلال التوافق وعدم معاداة رؤى الأمم المتحدة الخاصة بالتسوية السياسية للصراع.
في ظل تلك التحولات، يقبع الداخل الليبي في مرحلة غير هينة من عدم الاستقرار. تتلخص هذه المرحلة بالأساس في غياب التوافق عن الرؤى الجمعية لكل معسكر في سياق الصراع، سواء شرقاً أو غرباً. غياب التوافق داخل كل طرف يعيد للأذهان جدلية الحسم العسكري أو التسوية السياسية، وهو ما يبدو أن الداخل الليبي لم يتوصل بعد لحل لها. قوات الجيش الوطني الليبي تتحرك على أرضية مكافحة الإرهاب واستعادة العاصمة، ولكن هناك معارضون لهذا التوجه في شرق ليبيا، وهو ما يدل على أن التنسيق السياسي- العسكري في شرق ليبيا بدأ في التراجع عن مراحل سابقة. غرب ليبيا على الجانب الآخر يشهد حالة مستمرة من التفكك السياسي العسكري. المشهد الحالي يدل على أن فكرة التسوية السياسية غير قابلة للتطبيق العملي حاليا نظراً للخلاف الكبير بين وجهات النظر بين الأطراف المتصارعة، أو حتي الكيانات المتحالفة، لكن المعركة الجارية الآن يمكن أن تصنع تحالفات جديدة سياسيا وعسكريا.
رابط دائم: