الهوية الإفريقية والمسار - إفتتاحية العدد 72 من فصلية "أحوال مصرية"
2019-4-2

د. أيمن السيد عبد الوهاب
* نائب مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية والخبير فى شئون المجتمع المدنى

هوية مصر الإفريقية، لا يمكن اختزالها فى الارتباط الجغرافى، ولا فى ارتباط المصالح والأدوار والمسئوليات كدولة إفريقية كبرى، ولا فى المدركات والممارسات التى صاغت بعض أجزاء الصورة الذهنية المتبادلة بين قطاع من المصريين وأبناء من القارة السمراء. ولكن هذه الهوية ارتبطت بالوعى الثقافى والوجدانى وما فرضته حركة التاريخ من تذبذب وتجاذب حول حدودها كمكون حاكم للهوية المصرية.

لذا سعت مجلة “أحوال مصرية” لطرح قضية الهوية كمدخل لتعظيم القواسم المشتركة، وكقاعدة لبناء العمل الإفريقى والنهوض بالقارة، دون تجاهل للمدركات الذهنية السلبية المتبادلة التى كونتها سبل التفرقة بين ما هو عربى وما هو إفريقى، وما فرضه الخط الوهمى الذى صنعته الاستراتيجيات الاستعمارية وسياسات القوى الكبرى ليفصل بين شمال الصحراء الكبرى وجنوبها.

وإن كانت أجندة العمل الإفريقى 2063 قد أكدت على أهمية الهوية والتراث الإفريقى كأحد محاور هذه الاستراتيجية، فإن التأكيد على خصوصية الهوية والانتماء الثقافى، يتطلب بالتبعية التأكيد على الإطار المعرفى والقيمى والتاريخى بمحتواه الصحيح، وهو ما يتطلب الكثير من الجهد الداعم لتجاوز إرث متراكم من الحساسيات والخلافات التى استندت إلى مرجعيات ثقافية وطموحات سياسية تداخلت معا وتم توظيفها فى الصراعات، وبالتالى خلفت وراءها الكثير من التداعيات والقيود التى عبرت فى كثير من جوانبها عن أزمات متشابكة تتعلق بالوعى والانتماء والهوية.

تلك النتيجة التى جسدتها العديد من الفعاليات الإفريقية وأبرزتها مقتضيات النهوض بدول ومجتمعات القارة، تشير بوضوح لأهمية إعلاء المكونات الثقافية للشخصية الإفريقية وما تتضمنه من قيم إيجابية معززة لقيم التسامح والقبول بالتعددية والتنوع والخصوصية كمداخل لمد الجسور بين الثقافات الإفريقية المختلفة. وهو ما تبرزه التأثيرات السلبية للمدركات الخاصة بالهوية الإفريقية وعلاقاتها بالثقافات التقليدية، فتلك التأثيرات تمتد بتداعياتها لبنيان الدولة الإفريقية. وهو ما عبرت عنه الكثير من زوايا التناول والمعالجات لقضية الهوية، حيث تمحورت معظمها حول المداخل السلبية التى اختزلتها فى التعددية اللغوية والإثنية والثقافية والدينية من ناحية، وتناول قضايا الفقر وتعثر التنمية والحروب الأهلية والنزعات من ناحية ثانية، وضعف بنيان الدولة وتنامى الهويات الفرعية من ناحية ثالثة.

لكن فى المقابل، أدى التركيز على الجوانب السلبية لحالة التعددية التى تحظى بها المجتمعات الإفريقية، إلى تنامى الوعى والمطالبة بحتمية دعم التوافق العقلى والمصلحى لتوظيف تلك التعددية فى إطار عمليات الاندماج الوطنى والتكامل الإقليمى وتحت مظلة الهوية الإفريقية، فالإقرار بالهويات والثقافات المتعددة والمحافظة على التراث يوفر المظلة الداعمة لإثراء الواقع الإفريقى ويلبى متطلبات التنمية الشاملة والمستدامة.

مصر .. المكون الإفريقى والانتماء للقارة

مع الإقرار أن القارة السمراء تحظى بالعديد من الثقافات، وأن أجندة 2063 تدعوا إلى نهضة ثقافية إفريقية مستندة إلى مجموعة القيم والمثل الإفريقية، فإنه يمكن الـتأكيد أيضا أن نجاح هذه الأجندة يستند فى أحد جوانبها على إمكانية تعزيز سبل التواصل الثقافى بين المجتمعات والأجيال الإفريقية، وهنا تجدر الإشارة إلى أهمية المبادرة المصرية التى أطلقها الرئيس السيسى بإعلان أسوان “ عاصمة الشباب الإفريقي” واحتضنها ملتقى الشباب العربى الإفريقى بمشاركة نحو 1500 شاب من مختلف دول المنطقة العربية وقارة إفريقيا. هذه المبادرة بدورها تشير إلى المعالجة العملية لمواجهة المدركات الذهنية السلبية المتبادلة وخاصة بين هذه الأجيال التى لم تعاصر الكثير من الأحداث والمواقف المعبرة عن قوة نزعة الوحدة الإفريقية والمصير المشترك والهوية الإفريقية العليا، بل وقعت تحت تأثير تداعيات العولمة واستراتيجيات صراع الحضارات والفوضى الخلاقة وتقسيم القارة، ومواجهة نتائج الفقر والأوبئة والصراعات الداخلية، وتغليب الصورة النمطية السلبية عن الشخصية الإفريقية، وبالتالى فإن تهيأت منصات للحوار وبناء الوعى المشترك بين هؤلاء الشباب، من شأنه أن ينمى  مداخل التفاعل الثقافى والاجتماعى، ويوفر أسس واقعية لمواجهة مشكلات الهوية والانتماء.

تلك المبادرة ومن قبلها كثافة التحركات والتفاعلات التى تشهدها العلاقات المصرية الإفريقية على مدى الخمس سنوات الماضية وتحديدًا منذ تولى الرئيس السيسى الحكم، أظهرت أن التحرك المصرى لم يستند إلى المصالح الاستراتيجية المصرية فقط، بل استند إلى إطار أوسع وأعمق نحو مواجهة العديد من المدركات والميراث السلبى، كنقطة انطلاق جديد نحو القارة.    

انطلاقة ترتكز على تعميق الهوية الإفريقية ودفع التكامل بين دول القارة، ومحو الصورة السلبية الاستبعادية للعرب الأفارقة، ومنها مصر، وتوفير سبل التفاعل المباشر لبناء الوعى المشترك بقضايا القارة وتحدياتها.

هذا الإدراك بمسئوليات الدور المصرى تجاه القارة وتجاه عمقها الاستراتيجى، لا يتعلق بإفريقية مصر كأمر لا يحتاج للبرهان أو التأكيد، وكون الجانب الإفريقى هو جزء من ثراء الشخصية المصرية، ولكنه تجسيد عما عبر عنه الزعيم الإفريقى نيلسون مانديلا بوصفه مصر بالتفرد على مستوى العالم “ بأنها الدولة التى تملك الحركة فى اتجاهات استراتيجية متعددة، فهى عربية وإفريقية وإسلامية ومتوسطية وشرق أوسطية، إنها بوابة العالم وبوابة التاريخ”  هذه العبارة التى رصدها الدكتور السيد فليفل عند زيارة مانديلا الأولى لمصر، توضح قدرة هذا الزعيم على قراءة ملامح الشخصية المصرية وهويتها، وعمقها الناتج عن المزج بين تلك الثقافات، ويتجاوز ذلك الجدل حول حالتى التنازع أو التماسك بين الهويات وما تغذية هذه الثقافات من صور ذهنية وإدراكات تتكامل معا ولا تتنافر.

القوة الذكية والقيمة المضافة

 تشير المعطيات السابقة إلى أن قضية الهوية الإفريقية على مستوى القارة، يمكن أن تمثل مدخلًا نفسيًا وثقافيًا وإدراكيًا مهمًا لتحديد ملامح ومرتكزات الدور المصرى فى المرحلة الراهنة والمستقبلية، لأن الواقع كما تجسده العديد من قضايا التعاون والصراع تشير بوضوح لأهمية هذا المدخل، فنجاح الدور المصرى وتعزيز مكانتها داخل القارة ارتكز على قاعدة الهوية المشتركة ووحدة المصير كسبيل لتعظيم باقى المداخل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والاستراتيجية، وهو ما جسدت  بوضوح فترة الخمسينيات والستينيات عندما غلف الوعى الإفريقى القضايا المشتركة كسبيل التحرير وبناء الدولة، فكانت منظمة الوحدة الإفريقية تجسيدًا عمليًا للعمل المشترك والتعاون وترسيخ الهوية، واستطاعت رغم الكثير من العواصف والأمواج أن تنتقل بالعمل الإفريقى وحلم النهوض بالقارة نحو صيغة أكبر اتساعًا وطموحًا وهى الاتحاد الإفريقى، رغم العديد من التحديات والقيود التى تفرض نفسها على هذه الصيغة، وبعيدًا عن الكثير من التفاصيل التى حكمت مسار العلاقات المصرية الإفريقية، وما خلفت من مدركات متبادلة، فإن الدرس الأهم، أن التفاعلات الثقافية، وتعاظم التعاون، وإيمان القيادة السياسية بأولويات التعاون الإفريقى، تمثل جميعًا عوامل دافعة لتجاوز ما لحق بتلك المدركات من تأثيرات سلبية ناتجة عن تنامى الفجوات التى خلفتها تباين المصالح وتغيب التفاهمات الاستراتيجية.

ومع الإقرار، بتغير ملامح الدور المطلوب ومتطلباته وتكلفته، فإنه من الضرورى هنا التأكيد على نتيجة أساسية تعكسها أنماط التفاعلات الدولية المختلفة، مفادها تزايد الاعتبارات الجيو اقتصادية على ما عداها من اعتبارات أخرى. فلم تعد فاعلية أدوار الدول قاصرة على المعطيات التقليدية المرتبطة بحقائق الجغرافية والسياسة والمواريث التاريخيةـ رغم أهميتهاـ ولكنها أصبحت ترتبط بالأساس بما أفرزته الثورة التكنولوجية من متغيرات عالمية وموقع الدول من هذه الثورة، فضلا عن مكانتها الاقتصادية ونصيب مشاركتها فى التجارة العالمية.

ولذا، تبرز أهمية المرحلة الراهنة، واستناد الدور المصرى ومدركاته إلى إطار حاكم للتفاهمات الاستراتيجية المستندة لأصالة الهوية المصرية الإفريقية، ووحدة المصير، الأمر الذى يعطى قوة دفع كبيرة للتواجد المصرى فى الكثير من الملفات، والقضايا، وإن كان من الملاحظ أن معظم قوة الدفع التى تولدت عن كثافة التفاعلات والتحركات قد استنفذت فى معالجة أزمات الثقة.

وبالتالى فإن الحديث عن مكانة مصر الإفريقية ورصيدها التاريخى والسياسى أمر لا يمكن نكرانه، كما أن تذبذب الأداء المصرى صعودًا وهبوطًا، لا يلغى حقيقة الإدراك المصرى بأهمية إفريقيا ومتطلبات التواجد على ساحة التفاعل الإفريقى، ولكنه يعنى أن ديمومة واستمرارية الدور المصرى وبالتالى كثافته وفاعليته شهدت تذبذبًا واضحًا نتيجة العديد من العوامل منها الداخلى المتعلق بمصر ومنها الخارجى المتعلق بالساحتين الإقليمية والدولية.

ليبقى التساؤل عن أهمية الهوية الإفريقية كقيمة مضافة لمصر ودورها داخل القارة، قائمًا فى ظل الحاجة لزيادة الوعى الوطنى بمتطلبات ترسيخ هذه الهوية، ومتطلبات تكلفة الدور المصرى وتحركه فى ظل بيئة ومتغيرات إقليمية ودولية، دافعة نحو المزيد من الصراعات الاستراتيجية بين القوى والدول المتنافسة على موارد القارة السمراء، وما تفرضه متطلبات البناء والتنمية على أسس أجندة 2063 من تحولات اجتماعية وثقافية واقتصادية داعمة لطموح أبناء القارة.


رابط دائم: