الجولان المحتل ينادى من يحرره
2019-3-31

د. حسن أبو طالب
* مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

"من لا يملك أعطى لمن لا يستحق"، مقولة شهيرة عربيا ارتبطت بوعد بلفور نوفمبر 1917، الذي قرر باسم الحكومة البريطانية منح فلسطين لليهود الذين لم يتجاوز عددهم آنذاك في كل فلسطين 5% من إجمالي عدد السكان، من أجل إقامة وطن قومي لهم، على أرض لا تملك بريطانيا أية مسوغات قانونية ولا تاريخية لمثل هذا التصرف. الأمر ذاته ينطبق جملة وتفصيلا على قرار الرئيس الأمريكي ترامب الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري العربي المحتل. والقراران رغم الفاصل الزمني بينهما، والذي يمتد إلى 102 عاما، إلا أنهما يعكسان الدلالات ذاتها، فكلا القوتين بريطانيا والولايات المتحدة تتصرفان بعيدا عن أي أعراف أو قوانين دولية أو قرارات دولية ترفض تماما تغيير الحدود أو الاستيلاء على الأراضي بالقوة أو التصرف فيها لصالح الغير. كل ذلك لم يمثل أي قيد بالنسبة لبريطانيا قبل قرن كامل، وها هو لا يمثل شيئا بالنسبة لإدارة ترامب.

وإذا كان وعد بلفور قبل قرن كامل ارتبط بحالة الحرب العالمية الأولى وجهود بريطانيا لتغيير وقائع على الأرض تخص أجزاء ومناطق خُلعت من الدولة العثمانية المهزومة في الحرب، فإن القرار الأمريكي يرتبط أيضا بعملية كبرى لإعادة هيكلة المنطقة العربية ككل، بدأت عمليا في العام 2006 تحت شعار "الفوضى الخلاقة" التي ابتدعتها آنذاك وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليزا رايس لتبرير الحرب الإسرائيلية على لبنان، باعتبارها بداية عملية كبرى لتغيير المعادلات في المنطقة العربية ككل انطلاقا من لبنان، ثم جوارها، وصولا إلى إيران. وهي ذات العملية من حيث الجوهر التي طبقتها واشنطن منذ العام 2011 على خلفية الحراك الجماهيري الذي اندلع في عدد من الدول العربية، وتم توظيفه لخلق وقائع سياسية واستراتيجية في العديد من الدول العربية لاسيما المحيطة بإسرائيل، لغرض إضعاف بنيتها ومصادر قوتها لاسيما الجيوش الوطنية، وتغيير نظمها السياسية، وخلق أوضاع اقتصادية قاسية فيها، ومن ثم تتغير توجهاتها السياسية، وإضعاف قدراتها على مقاومة أية تغييرات استراتيجية تعمل واشنطن على تطبيقها لتحقق المزيد من التفوق الإسرائيلي، وضمان أمنها وخلق حالة هدوء حولها إلى أبعد زمن ممكن.

ومنذ غزو واحتلال العراق في 2003، ثم إغراق سوريا في حروب أهلية داخلية وأعمال إرهابية وطائفية منذ العام 2011، وحتى الآن، والانقسامات الفلسطينية والتي تأثرت بالأوضاع العربية المستجدة في السنوات الثمانية الماضية، تحقق لإسرائيل أكبر مستوى من الأمن مقارنة بالأوضاع المحيطة بها، كما كرست احتلالها للأراضي الفلسطينية لاسيما في الضفة والقدس عبر سياسات الاستيطان الكثيفة والموسعة، وتهويد ما يمكن تهويده، وتراجعت عن كل الالتزامات المرتبطة بالمفاوضات أو الاتفاقات السابقة. فضلا عن الهدوء الراسخ في الجولان السوري المحتل، نظرا لانشغال الجيش السوري بمواجهة المسلحين والجماعات الإرهابية وتأمين النظام في المناطق التي ظل مسيطرا عليها. وفي ظل وضع كهذا، استقرت الجولان بالنسبة لإسرائيل كأرض مستباحة الموارد ومستبعدة من حسابات الحرب، بل وجزءا أساسيا من حسابات الأمن الإسرائيلي التي اُتفق على عدم التنازل عنها، ومجالا رحبا لجلب مستوطنين ينهبون الأرض ويقيمون فيها المزارع والمصانع والمساكن، وحولها مواقع عسكرية توفر لهم الأمن على أرض لا يملكونها أصلا.

والمؤكد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لعب دورا كبيرا في تثبيت مبدأ عدم التنازل عن الجولان لدي الرئيس ترامب شخصيا والإدارة الأمريكية ككل، وإبعادها كما القدس من أي مفاوضات محتملة مع الفلسطينيين، أو يمكن الحديث عنها مع الطرف السوري. وشكل وجود الرئيس ترامب غير الملتزم بالقانون الدولي والمناهض للاتفاقيات الدولية، والمتأثر بأفكار نتنياهو عن أمن إسرائيل، وغير المكترث بحقوق العرب التي تقرها قرارات دولية، شكل حالة استثنائية تُضاف إلى الأوضاع الاستثنائية التي تمر بها المنطقة العربية، وتصب جميعها لصالح الطموحات الإسرائيلية في التوسع الإقليمي ومد السيادة بلا منازع على الأراضي التي احتلتها في العام 1976، سواء الفلسطينية أو السورية. وتجسد تبريرات الوزير بومبيو في ـ أحد لقاءاته التليفزيونية - لقرار الرئيس ترامب الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان المحتل هذه العناصر مجتمعة، إذ جمعت تبريراته بين الاعتراف بالأمر الواقع وضمان أمن إسرائيل، ومعتبرا أن حالة الجولان تختلف جذريا عن حالة ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، والتي تعتبرها واشنطن حالة احتلال، أما الاحتلال الإسرائيلي للجولان والسيادة عليها فهي مشروعة للحفاظ على أمن إسرائيل، في موقف يجسد أعلى درجات التناقض والاستخفاف بالقانون الدولي.

العنصر الأول في التبرير الأمريكي -أي الاعتراف بالأمر الواقع وتكريسه وإضفاء طابع قانوني عليه- يعني الضرب بعرض الحائط كل ما قام عليه النظام الدولي من مبادئ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن، والتي أقرت مبدأ عدم قبول أي تغيير للحدود أو جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة المسلحة. وهو المبدأ الذي تستدعيه الولايات المتحدة نفسها وحلفاؤها ضد روسيا بخصوص ضمها للقرم، وبما يعكس استعداد واشنطن لاتخاذ أي خطوات استثنائية من أجل "خاطر" العيون الإسرائيلية والقوى الصهيونية داخل وخارج الولايات المتحدة. وعلينا هنا أن نقر بأن ثبات الحالة الهادئة طوال 52 عاما في الجولان قد ساعدت إسرائيل على إحداث تغييرات جذرية في الجولان في أعداد السكان وطمس وتدمير العديد من القرى العربية السورية، وزيادة عدد المستوطنين الإسرائيليين. أما العنصر الثاني في التبرير الأمريكي فيعني ببساطة أن أمن إسرائيل من وجهة النظر الأمريكية يرتبط بالتوسع الإقليمي وليس بالالتزام بالأعراف الدولية أو بناء علاقات سلام قانونية معترف بها من العالم ككل، وبما يمنحها مزيدا من الغطرسة في تعاملها مع القرارات الدولية والاستخفاف بالحقوق العربية.

ومن اليسير هنا أن ندرك أن التشرذم العربي المستدام كان أيضا أحد أسباب التحول الأمريكي على النحو السابق ذكره، والذي بدا مثيرا للشفقة في جملة المواقف العربية التي اُتخذت لرفض قرار الرئيس ترامب السابق بالاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها. إضافة إلى الاختلالات الكبرى الموجودة في النظام الدولي والتي تجعل الولايات المتحدة تستمر في ممارسة ضغوط اقتصادية وسياسية وعسكرية، وتوقيع عقوبات تزداد يوما بعد آخر على عدد كبير من الدول بما فيها قوى كبرى، وتهديد تحالفات تبدو قوية ولكنها تخضع في النهاية للمطالب الأمريكية كحلف الناتو. وما دامت هذه الاختلالات مستمرة، والقدرة على رد الضغوط الأمريكية محدودة -إن لم تكن غائبة أحيانا- فسوف تتمادى كل من إسرائيل والولايات المتحدة في تغيير قواعد اللعبة في أماكن مختلفة من العالم، والضرب بعرض الحائط ميثاق الأمم المتحدة، وبما يفتح الباب أمام الكثير من المغامرات العسكرية ومساعي تغيير الحدود بالقوة المسلحة.

ما يهمنا نحن العرب أن تستمر لدينا القدرة على احتواء تلك الضغوط كحد أدنى، دون التأثير سلبا على معنويات الشعوب العربية في الرفض، والقدرة على تعديل موازين القوى كخطوة لا غنى عنها لفرض احترام القرارات الدولية والحقوق القومية والوطنية التي لا تنازل عنها مهما مر الزمن. ومع انعقاد القمة العربية الدورية في تونس، هناك حاجة ماسة لإحداث تغيير كبير في السياسات العربية ككل، ومعالجة الأخطاء التي وقع فيها الجميع في السنوات الثمانية الماضية، واتخاذ موقف جماعي يصدم السياسة الأمريكية الراهنة ويجعلها تعيد التفكير في مواقفها المناهضة للحقوق العربية. على الأقل هذا ما نتمناه وندعو إليه.


رابط دائم: