الاقتراب الاجتماعي الثقافي في دراسة النظام السياسي
2019-3-27

شروق صابر
* باحثة مشاركة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

عقد مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية سميناره العلمي الحادي عشر، في 13 فبراير 2019، تحت عنوان " الاقتراب الاجتماعي الثقافي في دراسة النظام السياسي ".  وقد قام دكتور عمرو الشوبكي/ الخبير بالمركز، بعرض المداخلة الرئيسية في السمينار الذي أداره دكتور وحيد عبد المجيد، مدير المركز.

وقد تناول دكتور الشوبكي الموضوع من خلال ثلاث أبعاد رئيسية على النحو التالي:

البعد الأول: "المدخل الثقافي التقليدي"

وهو مدخل قائم على "تنميط" القيم الثقافية لمجتمع ما ووصفها بصفات ساكنة، وفي بعض الأحيان صفات سلبية وبها ما يمكن اعتباره استعلاء على هذه المجتمعات.

حيث تقوم هذه المدرسة بتقديم حكم قيمي على مجتمع من المجتمعات من خلال تحديد سمات أو صفات بعينها لكل مجتمع. وقد يصل الأمر إلى درجة وصف ثقافة ما بأنها متدنية وأقل من الثقافات الأخرى نتيجة انتمائها لعرق ما. وفي بعض الأحيان كان هذا الاقتراب يتم استخدامه على المستوى السياسي، وقد طرح د.عمرو مثال حول ذلك وهو كتاب إدوارد لين " عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم"، والذي ظهر في بداية فترة الاستشراق، حيث كانت كتابات المستشرقين تتحدث عن قيم وعادات وتقاليد المجتمعات العربية والشرقية. وقد كان كثير من تلك الكتابات تتسم بقدر من النظرة الاستعلائية في وصف تلك المجتمعات. وقد ساد هذا المنهج فترات طويلة منذ القرن الـ 16 حتى القرن الـ 19 وهناك العديد من الأبحاث التي ظلت في إطار هذا المدخل.

وأشار د. عمرو إلى تعبير "شرقنة الشرق"، أي مزج قيم عن الشرق حتى ينتج في النهاية صورة متخيلة ونمطية عن هذه المجتمعات، وقد استخدم إدوارد سعيد ذلك التعبير في كتابيه "تغطية الإسلام" و "الإستشراق". ولكن في القرن الـ 18 و الـ 19، بدأت فكرة التحليل الثقافي في الانتقال من كونها تحليل يحدد قيم مجتمع ما إلى عامل مفسر، أي تفسير مجموعة من الظواهر وليس تنميطها، وقد كانت البداية مع كتاب ماكس فيبر الشهير "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، واستمر هناك نقاش حيوي حول هذا الموضوع انبثق عنه الكتابات الأمريكية الشهيرة حول المدرسة السلوكية، إلى أن اعتمدت في نقل هذه الخبرة إلى عالم السياسة الفرنسي برتران بادي الذي كتب أربع كتب مترجمة للعربية وهي (السياسة المقارنة- الدولة المستوردة- الدولتان- التنمية السياسية). ونتاجًا لهذا المشروع الفكري والسياسي ظهرت ملامح جديدة للتعامل مع قضية المدخل الثقافي وكيفية نقد المدرسة التقليدية.

فكتاب "الدولتان" قائم على محاولة لتفسير أهمية القيام بالفصل بين السلطات في نجاح المجتمعات الغربية، مقارنة بالمجتمعات العربية والإسلامية، وأرجع ذلك إلى أنه في الثقافة الغربية المسيحية كان هناك سلطة زمنية وسلطة دينية مما خلق ثقافة قائمة على فكرة الفصل بين السلطات، وهو ما لم يكن موجودًا في الدول العربية والإسلامية، وقد مثل ذلك محاولة للاستفادة من المدخل الاجتماعي والثقافي في تفسير ظواهر بعينها.


 

البعد الثاني: "الانفتاح على قيم التجديد الثقافي"

نتج عن المنهج السابق الاقتناع باستحالة الحديث عن ثقافة مجتمع ما بمعزل عن البيئة الاجتماعية والفاعلين الاجتماعيين والسياسيين به، وإن الثقافة بالرغم من كونها أمر يتغير بشكل بطئ إلا أنها في النهاية نتاج تفاعل بين الفاعلين والنظام السياسي والبيئة، وأنها ليست قيم متأصلة، بمعنى أهمية الدمج بين السياق الاجتماعي وبين الموروث الثقافي، أي أنه يؤكد على رفض فكرة الثقافة المتأصلة والثقافة العابرة للزمن والعابرة للتاريخ والمكان، إنما هي في النهاية نتاج تفاعلات مع الواقع الاجتماعي.

وبالتالي تغير المنهج التقليدي وأصبح مقبولا بفكرة التجديد والتحول وعدم التسليم بوجود مجتمع ما عند لحظة معينة تظل قيمه الثقافية ساكنه لا تتغير، ولكنها في النهاية نتاج الواقع الاجتماعي والسياسي المحيط، وبالتالي فهي بهذا المعنى منفتحة على قيم التجديد الثقافي، وقيم التحول والتغير في القيم الثقافية، وترفض فكرة الثقافة المتأصلة المترسخة أو الموروثة.

وبهذا المعنى أصبحنا أمام آلية أو منهجية اختلفت عن المدرسة التقليدية في قراءة الثقافات المختلفة، وفي الوقت ذاته اختلفت عن مدارس الحتميات في علم السياسة، الأمر الذي يفسر أسباب استمرار بعض النظم حتى اليوم في الدول الغربية بعضها ملكي والبعض الآخر جمهوري، لذا يأخذنا التحليل الاجتماعي الثقافي بهذا المعنى إلى إلقاء الضوء على زاوية قد تكون غائبة في كثير من التحليلات الأخرى.
البعد الثالث: "تطبيقات عملية"

وقد أشار د. عمرو في تلك النقطة إلى ظاهرة "الإسلام السياسي"، إذا حاولنا تطبيق هذه المنهجية عليه، فننظر إلى أسباب وجود "الإخوان المسلمين" في مجتمعاتنا مقابل عدم وجود "الإخوان المسيحيين" – مثلا -  في أمريكا الجنوبية، نجد هنا أن البعد الثقافي والاجتماعي حاضر في تحليل ذلك ويساعدنا في فهم تعقيدات الظاهرة، ويرفض فكرة أن هناك مجتمع من المجتمعات ستبقى ثقافته متخلفة أو يتم النظر إليها على أنها غير قابلة للتقدم والتطور.
وأشار د. عمرو إلى ما يتم الآن من "توظيف سياسي" لهذا المدخل، فهو من أكثر المداخل في العلوم الاجتماعية تم توظيفه من ناحية سياسية، فكتابات المستشرقين تم توظيفها في مرحلة الاستعمار بتبرير الاستعمار في فترة من الفترات.

ورأى د. عمرو أن هذه المدرسة بأشكالها المختلفة ليست ببعيدة عن المعنى التقليدي للتحليل الثقافي أو التنميط الثقافي، وأحيانًا ما تم توظيفها مثل ما كان عليه الحال في الكتابات المباشرة عن التفاوت العرقي أو التمييز العرقي بين المجتمعات، وبالتالي فإن قضية التوظيف السياسي حاضرة ولا نستطيع تجاهلها.

***

عقب انتهاء المداخلة الرئيسية ناقش عدد من الحضور مجموعة من الأفكار التي تم عرضها.

فقد رأى د. وحيد عبد المجيد، أنه حتى منتصف القرن الـ 19 لم يكن هناك اهتمام بموضوع التحليل الاجتماعي الثقافي، وقد بدء هذا الاهتمام بفعل تحول هام وهو ظهور المفكر "كارل ماركس"، فقد ألقى حجر في حالة ركود داخل التفكير الإنساني فيما يتعلق بالظواهر الاجتماعية بشكل عام بما فيها الظاهرة السياسية، فقد كانت بداية علم الاجتماع الأولى بفعل التأثر بما قدمه ماركس، فقد كانت النزعة المحافظة تغلب على علم الاجتماع في بدايته،

ولكن في مواجهتها كانت هناك نزعة استلهمها أصحاب كارل ماركس، وقاموا بالتجديد والتطوير، بدءًا من عشرينات القرن الـ 20، عندما قام مجموعة من الباحثين الاجتماعيين في ألمانيا بطرح أفكار ومناهج جديدة.

وقد أسس هؤلاء الباحثين عقب ذلك ما أطلق عليه "مدرسة فرانكفورت"، والتي كانت بمثابة نقلة نوعية في تطور علم الاجتماع، وأصبح منذ ذلك الوقت هناك رافدان في علم الاجتماع، الرافد الأول هو الرافد المحافظ والذي بدء منذ دور كايم وتلامذته وامتد حتى الآن، والرافد التقدمي والذي بدء في مدرسة فرانكفورت.

وأصبح الآن هناك كثير من العلماء يقومون بعمل تمازجًا بين هذين الرافدين، وذلك نظرًا لأنه مع تطور علم الاجتماع، أصبح هناك عدد متزايد من المهتمين بالتحليل الاجتماعي الثقافي يدركون أنه لا يجوز إنجاز بحث قيم في المجتمع أو النظام السياسي له بدون استخدام بعض أدوات الرافد التقدمي في العلم الاجتماعي.

وأشارت د. إيمان رجب، القائم بأعمال رئيس وحدة الدراسات العسكرية والأمنية، إلى أن الإشكالية الخاصة بالبعد الثقافي ترتبط دائمًا بكونه متغير غير مادي، حيث يصعب وضع مؤشرات كمية لقياس التغير والثبات في مكونات الثقافة، وهي إشكالية يواجهها كل من يعتمد المدخل الثقافي، حتى وإذا قام بربطه بالتكوين الاجتماعي، مما يصعب عليه ربط متغير غير مادي بدراسة تغير ظاهرة سياسية أو اجتماعية.

وأضافت د. أميرة عبد الحليم، الخبيرة بوحدة الدراسات الدولية، أنه في بعض المراحل كان يتم التوظيف السياسي للمدخل الثقافي بصورة مجحفة في بعض المناطق، ومنها القارة الأفريقية، فقد عانت القارة كثيرًا من هذا المدخل، حتى أن بعض العلماء قاموا بالبحث في الحضارات والثقافات عما يؤكد وجود ثقافة وحضارة لديهم لمواجهة الاستعمار، مثل المفكر السنغالي  "شيخ انتاديوب" الذي ألف كتاب "الأصول الزنجية للحضارة المصرية". وبالتالي فإن المدخل الثقافي جيد لمعرفة مكونات المجتمعات، ولكن التمييز بين المجتمعات أو تنميطها هو ما يسبب إشكالية كبيرة بالنسبة للدول وعلاقاتها الدولية.

وأشار د. وحيد عبد المجيد إلى أن هذا التنميط يقل بشكل متزايد، حيث لم يعد ما تبقى منه يثير الاهتمام الذي كان يثيره منذ أكثر من ثلاثين عامًا، وهو تطور إيجابي في العلم والتفكير الإنساني بشكل عام.

وأكد الأستاذ نبيل عبد الفتاح، مستشار المركز، أن المدخل الثقافي أصبح على درجة كبيرة مما يمكن تسميته بـ "السيولة"، حيث نجد في الدراسات السياسية والاجتماعية أنه تم تجاوز الأحكام القيمية التقليدية التي ارتبطت بأنماط من التحليل التقليدي تجاه ثقافة ما ونظم اجتماعية وقيمية لمجتمعات وقعت تحت طائلة الاستعمار الغربي.

ورأى أن هناك تغير في دراسات علم الاجتماع، وعلم الاجتماع السياسي في العالم لا يوجد ظل لها في الدراسات الاجتماعية، سواء في أطروحات الدكتوراه أو الماجستير، أو داخل الكتابات النظرية التي يدرسها علماء أو أساتذة علم الاجتماع داخل الجامعات المصرية، ولكن حتى هذه اللحظة على سبيل المثال لم نجد دراسات ذات وزن عن الثقافة السياسية المصرية، فلا تزال الكتابات والتنميطات التقليدية عن الثقافة السياسية المصرية يعاد إنتاجها بين الحين والآخر، على الرغم من التغير الكبير الذي حدث في الشخصية المصرية.

وأشار إلى أنه لا يجوز الاعتماد على البعد الثقافي فقط في دراسة النظام السياسي، لأنها تعتمد في كثير من الأحيان على الانطباعات الأيديولوجية، أو التحيزات الأيديولوجية أو القيمية.


 

وأشار د. جمال عبد الجواد، مستشار المركز، الى أهمية التعامل مع النظريات التفسيرية، والتي هي نظريات لتفسير ما يحدث في الواقع الاجتماعي، (لماذا يتقدم مجتمع ومجتمع أخر لا)، على أساس أن تفسير الظاهرة لا يعتمد على مكون واحد. فإذا تم ذلك يكون التفسير ناقص، لأنه يركز على عوامل ويغفل الأخرى. كما لفت الانتباه إلى نوع أخر من البحث وهو القيام بتقديم تفسير كلي للحدث، (لماذا تنجح بعض المجتمعات في إنجاز الديمقراطية)، أي تقديم مشروع متكامل يتضمن رصد وتقييم لكل العوامل التي تساهم في شرح هذه الحالة، من خلال الاعتماد على بعض النظريات لتقديم تحليل كامل لكافة العوامل، لذا فإن الجدل والصراع الدائر حول طبيعة العلاقة ما بين الموروث والمتغير.

وتساءل  د. حسن أبو طالب، مستشار المركز، إلى أي مدى يساعدنا المنهج على فهم دور الدين في تفسير ظواهر وتصرفات شخصية واجتماعية؟، فالمسيحية في روسيا، أو في الاتحاد السوفيتي، ظلت فترة طويلة محاصرة، وعقب سقوط النظام الشيوعي، عادت التوجهات الدينية المسيحية بالظهور مرة أخرى، وفي إطار ذلك، رأى د.عمرو أنه لا يوجد منهج يقوم بتفسير أسباب تراجع العلمانية في تركيا وعودة المسيحية في روسيا ومسألة أنماط التدين، لكن يمكن القول أن هناك قيم ثقافية راسخة في كل مجتمع لا يمكن محوها حتى ولو قام النظام السياسي بقمعها. والوضع السياسي يعيد تشكيلها بشكل مختلف، بمعنى أن هذا الواقع يتم تغييره من خلال الأدوات الاجتماعية والسياسية السائدة به.

وأشار د. عادل عبد الصادق، الخبير بوحدة الإعلام والرأي العام، أن دراسات التحليل الثقافي تقدمت مع تقدم دراسات الرأي العام، ومن الممكن أن تستطيع المحافظة على أهمية التحليل الثقافي داخل النظام السياسي من خلال رصد توجهات الرأي العام.

ورأى د. محمد فايز فرحات، الخبير بوحدة الدراسات الدولية، أن هناك نقطتان من الإشكاليات الأساسية لمنهج التحليل الثقافي، الأولى هي تقديم تفسير متكامل لظاهرة متكاملة بعينها، وهو ما يمثل إشكالية لأن الظاهرة بطبيعتها غير قابلة للتفسير بمنهج واحد، وبالتالي فإن المدخل الثقافي يظل هو المدخل الوحيد لفهم بعض الأمور في ظواهر ما، لكن لابد من التنازل عن إن فكرة المدخل الثقافي صالح للإجابة على سؤال كامل شامل لها.

النقطة الثانية، وهي الافتراض الدائم أن الأبنية الثقافية هي العامل المحدد دائمًا، ففي بعض الأحيان البيئة الاجتماعية نفسها هي التي تشكل أو تحدد المتغير الثقافي، فعلى سبيل المثال "الحالة الآسيوية"، لم نعرف هناك ظواهر الإسلام السياسي رغم وجودها بحالة استثنائية في مراحل محددة ولم يكن لها تأثير كبير على التوافق الذي حدث ما بين الإسلام والتنمية، لكن كان نتيجة العامل الثقافي أو الدين نفسه هو الجزء المكمل للأبنية الثقافية الدين نفسه تم إضفاء الطابع المحلى عليه بشكل كبير جدا، لذا فأن هذا ربما أحد الأخطاء الذي وقع فيها المدخل من البداية.

وأكد د. عمرو أن عملية التفاعل الاجتماعي وراء إنتاج نظم ومسارات مختلفة، فلا يمكن تفسير وضع المجتمعات العربية والإسلامية من خلال فقط النصوص الدينية أو من خلال النص المقدس، ولكنها في النهاية نتاج تفاعل بين هذا النص مع واقع اجتماعي، من خلال فاعلين اجتماعيين سياسيين، وهو ما يفسر أسباب أن النظم السياسية في آسيا توافقية ولكن شكل الديمقراطية بها يختلف عن الديمقراطية الغربية.
 


رابط دائم: