إيران بعد 40 سنة... ثورة وضغوط وتحركات هجومية
2019-2-17

د. حسن أبو طالب
* مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

تبادل الرئيس الأمريكي ترامب ووزير الخارجية الإيراني جواد ظريف حوارا من نوع خاص، الأول عبر تغريدة له اتهم فيها السلطات الإيرانية بخذلان الشعب الإيراني طوال أربعين سنة -هي عمر الجمهورية الإسلامية الإيرانية- معتبرا أن هذه السنوات كانت فسادا وقمعا ورعبا للشعب الإيراني. في المقابل، رد الوزير الإيراني بتغريدة مماثلة اعتبر فيها السنوات الأربعين تدل على العجز في إخضاع الإيرانيين وزعزعة الاستقرار فيها، والعجز عن تعديل السياسة الأمريكية لتتلاءم مع الواقع، و40 سنة من الاختيارات الأمريكية الخاطئة التي قابلها الإيرانيون بالخيارات الصحيحة، وفقا له.

مثل هذا الحوار يجسد المسافة الهائلة التي تفصل بين الولايات المتحدة وإيران بشأن تقييم الوضع الإيراني بعد أربعة عقود، وهي مسافة بُنيت على تراكمات من الأحداث والقرارات من كلا الطرفين والتي لعبت دورا في إتاحة مساحة من الحركة لإيران في بلدان مختلفة في الخليج والمشرق العربي ووسط آسيا. وفي السياق ذاته، فإن الحركة الأمريكية لحشد مواقف دولية مناهضة لإيران كما هو الحال في مؤتمر وارسو الوزاري، المنعقد يومي 14 و15 فبراير الجاري، تعكس سياسة تصعيدية لا تجد التأييد الكافي دوليا وإقليميا، وتعتبره طهران خطأ أمريكيا آخر يصب في صالحها، دون أن ننفي أن هناك دولًا مختلفة ترى في السياسة الإيرانية أنها تؤدي إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي، وتشكل مصدر تهديد لمصالحها القومية تستدعي الدخول في تحالفات مع أي كان لاحتواء ورد هذا التهديد.

الإيرانيون، ورغم الصعوبات الاقتصادية وحالة الحصار التي تعمل واشنطن على إحكامها على مجمل النظام الإيراني، احتفلوا بمرور أربعة عقود على التحرر من نظام الشاه وتأسيس الجمهورية الإسلامية على يد الإمام الخوميني، شكل فيها نظام الولي الفقيه تحولا كبيرا لمصير الشعب الإيراني، كما شكل تحديا أكبر للإقليم ككل، ولأجزاء مختلفة من العالم. وطوال تلك السنوات لم تعرف إيران في ظل ولاية الفقيه سوى الضغوط والحروب والعقوبات الدولية والأمريكية، ورغم استيعاب الكثير من تلك الضغوط، إلا أن الثمن الذي دُفع وما يزال يدفع يُعد هائلا لاسيما في مستوى معيشة عموم الإيرانيين وقدر الحريات التي حُرموا منها.

وخلال العقود الأربعة الماضية وقعت أحداث كبرى لم يكن لإيران الإسلامية يد فيها، بل حركتها ونفذتها واشنطن لأهداف لا علاقة مباشرة لها بإيران أو محاصرتها، من قبيل إسقاط نظام الرئيس السابق صدام حسين في العراق، أو ضرب نظام طالبان في أفغانستان، أو تصعيد الضغوط على سوريا ورئيسها بشار الأسد، ولكن تلك الأحداث الكبرى ونتائجها المباشرة أتاحت في النهاية مجالا أكبر للمنظومة الإيرانية لتعزيز نفوذها إقليميا، وبما يجعل من محاصرتها كليا بغية إسقاط النظام فيها ـكما يأمل عتاة اليمينيين الأمريكيين- ضربا من ضروب المستحيل، اللهم إلا إذا تقرر خوض حرب ضروس لا يعلم أحد كيف تنتهي ولا ماذا تحقق سوى خراب ودمار في إيران وفي مناطق أخرى من العالم، حولها وبعيدا عنها معا.

في بداية تأسيس الجمهورية الإسلامية غلب على الخطاب الإيراني مبدأ تصدير الثورة، في محاولة لدفع قوى سياسية في عدد من البلدان العربية لاسيما الخليجية لمحاكاة النموذج الإيراني الإسلامي، انطلاقا من قناعة بأن إيران الجديدة مؤهلة لكي تكون زعيمة العالم الإسلامي والمدافع الأول عن المظلومين، سواء كانوا من الشعية أو من السنة، وأنها قوة تغيير والبلد الذي يمكن أن يلتف حوله الثوريون الإسلاميون من أجل تحرير فلسطين ودحر الدولة العبرية. وهو خطاب ثوري فشل في صورته الزاعقة والمباشرة، غير أن جزءا كبيرا من جوهره ما زال موجودا وإن غُلف بقدر من الدبلوماسية. وفي الإجمال أثار هذا الخطاب الإيراني الزاعق والخارج عن سياق التفاعلات الدولية منافسة سياسية ومعنوية مع العديد من الدول السنية، وكانت وما زالت النتائج ملتبسة على الجميع، فغلبة الخطاب الهجومي الإيراني ذي النكهة المذهبية، ممزوجة بالأصوات العالية لمناصرة القضية الفلسطينية قسمت عمليا المواقف العربية تجاه الدولة الإيرانية في طورها الجديد، فالذين يتوجسون من صحوة شيعية رفضوا التحدي الإيراني واعتبروا أن تصدير الثورة يماثل إعلان حرب وتدخل سافر في الشئون الداخلية، ومن ثم بحثوا عن وسائل لتأمين دولهم وأنظمتهم وشعوبهم من تلك التأثيرات المحتملة. أما الذين رأوا في خطاب مناصرة فلسطين اعتبروا الأمر انتصارا للقضية الفلسطينية لاسيما من يعتقدون أن المواجهة مع الكيان العبري لتحرير فلسطين خيارا تاريخيا لا فكاك منه.

وهكذا، دفعت التحولات الإيرانية وهيمنة الخوميني العالم العربي إلى الانقسام، والذي دخل طورا أكثر شمولا مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية زمن الرئيس الأسبق صدام حسين، التي نظر إليها بعض العرب باعتبارها حربا دفاعية عن الأمة العربية وهويتها الدينية والحضارية، وآخرون أقلية تجاهلوا كل شعارات تصدير الثورة الإيرانية وتداعيات نظام الولي الفقيه، ومن ثم رأوا الحرب ضد المصالح العربية نفسها لأنها تحول دون الاستفادة من قدرات إيران في مواجهة العدو الصهيوني.

ومع انتهاء الحرب بدا أن النظام الإيراني قد استفاد من دروس الحرب من زاوية تغيير خطاب تصدير الثورة إلى محاولة التعامل مع الجوار بمنطق الدولة ووفقا لمبادئ الأمم المتحدة. غير أن الانقسام في النخبة الإيرانية وسطوة التوجهات اليمينية المتشددة لم تسمح بالسير في هذا الطريق إلى نهايته الطبيعية، أي تطبيع العلاقة الإيرانية مع الجوار العربي ومراعاة النظم الحاكمة ومصالحها المشروعة. ورغم بعض الخطوات الأولية من جانب إيران فقد ظلت التحفظات العربية موجودة وتحول دون التعمق في عملية التطبيع، كنتيجة طبيعية من عدم وضوح الرؤية لدى النخبة الإيرانية نفسها، ولكثرة العقبات والانتقادات التي وجهها اليمين الإيراني للنخبة الإصلاحية. وجاءت تحولات السياسة الإيرانية نفسها لترفع من سقف تلك التحفظات العربية بل والقلق مما يجري في الداخل الإيراني ونزعته الهجومية خارجيا.

فمع نهاية الحرب مع العراق تبلور توجه إيراني جديد قوامه عسكرة التحركات الخارجية من خلال أدوات رسمية كالحرس الثوري، وغير رسمية عبر دعم الحركات والمنظمات سواء سنية أو شيعية في أكثر من بلد  ما دامت تتفق مع هدف مواجهة إسرائيل ورفض النفوذ الأمريكي. إلى جانب ذلك ركزت التحركات الإيرانية على تشكيل علاقات مصيرية ومتشابكة مع التجمعات الشيعية في المشرق العربي وفي أمريكا اللاتينية وفي آسيا وفي أفريقيا، وبما جعل لإيران مواقع نفوذ مذهبي وسياسي وثقافي في العديد من البلدان. ويظل للدول المحيطة بإسرائيل مكانة خاصة في السياسة الهجومية الإيرانية، لأنها -حسب مقولة أحد المحللين الإيرانيين وثيقي الصلة بقمة الحكم في طهران- تجعل هدف وحلم الإمام الخوميني في الاقتراب المباشر من أرض فلسطين المحتلة واقعا بكل ما في ذلك من دلالة كبرى بالقدرة على النجاح والاستمرار رغم  كل العقبات.

وقد اختلطت هذه التوجهات الإيرانية مع الهدايا التي قدمها القدر، وتمثلت في الأخطاء الاستراتيجية الكبرى التي وقعت فيها الولايات المتحدة في أكثر من بلد، قريبة جغرافيا من إيران، كإسقاط النظام العراقي ومسعى تغيير النظام السوري بعد 2011، وإسقاط طالبان في أفغانستان بالقوة الغاشمة، والتعامل العشوائي مع لبنان واليمن والفلسطينيين، ما أتاح لإيران مجالات للتوسع السياسي المعنوي والاقتصادي والعسكري بمستويات غير مسبوقة، وشكل في الآن نفسه تحديات للعالم العربي ككل، والذي ما زال جزء منه يعول على المزيد من الضغوط والعقوبات الأمريكية والدولية، في ظل قناعة أن النظام الإيراني باق، وأنه سيظل تهديدا يجب الاستعداد له.

بعض دعوات الحوار مع إيران تظهر بين حين وآخر، ولكنها لا تصيب نجاحا يذكر، فقدرة العرب على مراجعة الموقف تجاه طهران غير ممكنة عمليا، والسبب بسيط هو أنه لا توجد مواقف عربية جماعية تمثل إطارا تتحرك داخله سياسات كل بلد على حدة، وهناك ثلاثة توجهات عربية؛ أولها الاندفاع في العلاقة مع طهران لأسباب مختلفة، كما هو الحال في قطر وسوريا والعراق -خاصة مجموعات الحشد الشعبي- وبعض الفصائل الفلسطينية، وحركات شيعية عربية كحزب الله اللبناني، وجماعة أنصار الله الحوثية في اليمن. والثاني، اعتبار إيران مصدر تهديد متعدد المستويات كما هو الحال مع السعودية والإمارات والبحرين، والثالث، توجهات ذات طابع حيادي كالكويت وعمان والجزائر والمغرب. في المقابل، لا توجد أي مراجعة للتجربة الإيرانية، بل يسود الاعتقاد لدى النخبة الحاكمة في طهران أن الصعوبات الاقتصادية الناتجة عن العقوبات الأمريكية ومهما وصلت إلى مستويات قياسية فإنها تثبت قدرة  النظام على البقاء، مما يضعف أي محاولة لإسقاط النظام أو جره إلى حرب، خاصة في ظل تطور القدرات العسكرية الإيرانية لاسيما الصاروخية والبحرية، وجزء كبير منهما صناعة محلية.

وهكذا، تبدو حصيلة العقود الأربعة ملتبسة بكل المقاييس، سواء على الإقليم وعلى إيران نفسها، والتي تواجه عقوبات اقتصادية قاسية، وليست لديها أية نية لمراجعة موضوعية لما حدث في الماضي ومعالجة الأخطاء والتراجع عن السياسة الهجومية ومراعاة المصالح المشروعة للدول المجاورة. ويقابلها سياسات عربية متنوعة، بعضها يقدم لطهران دافعًا للتمسك بمواقفها الهجومية تجاه البعض الآخر.


رابط دائم: