يومان فقط فصلا بين تغريدة الرئيس ترامب المنشورة يوم الإثنين 14 يناير الجاري والتي هدد فيها بتدمير الاقتصاد التركي إن هاجمت تركيا الأكراد في شمال شرق سوريا، والمحادثة الهاتفية التي أقر فيها الرئيس ترامب للرئيس أردوغان إقامة منطقة آمنة في شمال سوريا، الأمر الذي أكده الرئيس التركي مضيفا أنه "يمكننا إنشاء المنطقة الآمنة التي تهدف إلى توفير الأمن للسوريين، حال تلقينا الدعم المالي واللوجستي من واشنطن والتحالف الدولي". هذه التطورات تعكس أن هناك اتفاقا مبدئيا، لكن تركيا تنتظر دعما ماليا ولوجيستيا من واشنطن والتحالف الدولي، وهو ما يعني أن قدرة تركيا على إنشاء هذه المنطقة الآمنة داخل الأراضي السورية بمفردها ليست كافية، أو على الأقل تتطلب مساندة ودعم متعدد المستويات.
واقع الحال إن تغريدة الرئيس ترامب المشار إليها حددت ما يمكن وصفه بالخطوط الرئيسية التي ستعمل عليها الولايات المتحدة بشأن شمال شرق سوريا، وهي المنطقة التي يتمركز فيها أكراد سوريا، وتنتشر فيها قوات أمريكية تقدر بألفي جندي، وفيها أيضا قوات فرنسية غير محددة، وهي المجال الحيوي لقوات حماية الشعب الكردية التي تتهمها تركيا بالإرهاب، وقوات سوريا الديمقراطية التي يشارك فيها بعض العرب المقيمين في الشمال السوري. هذه الخطوط الأمريكية العريضة تشمل ثلاثة نقاط: أولها، وأبرزها حماية المنطقة الكردية حتي بعد الانسحاب الأمريكي منها، والذي أعلن عنه الرئيس ترامب في 19 ديسمبر 2018، معتبرا أن مهمة هذه القوات في هزيمة داعش قد اكتملت، وأنه حان وقت عودتها إلى الوطن، أما القضاء على بقايا هذا التنظيم فهي مسئولية الأطراف المحلية بما فيها تركيا ذاتها. النقطتان التاليتان هما عدم معارضة واشنطن إقامة منطقة آمنة أو عازلة تمتد في العمق السوري مسافة تتراوح ما بين 10كم إلى 32كم، وهدفها منع أية هجمات على الأراضي التركية، والمتصور أنها منطقة تمتد بطول الحدود السورية التركية شمال شرق سوريا، مع دعوة الأكراد، لاسيما "قوات حماية الشعب"، إلى عدم استفزاز تركيا.
النقاط الثلاثة تشكل معا شقا مهما من الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه منطقة الشرق الأوسط ككل، وجوهرها إعادة تمركز القوات الأمريكية بعد الخروج من سوريا، بطريقة لا تمنعها من القيام بهجمات جوية على أية أهداف تراها الولايات المتحدة معادية، سواء كانت إيرانية أو تابعة لبقايا تنظيم داعش. وفي الآن ذاته تعزيز أدوار الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة في تطبيق تلك الاستراتيجية الجديدة، ويبدو العراق مؤهلا من وجهة النظر الأمريكية للقيام بضربات مركزة لبقايا داعش في سوريا. كما تتحرك واشنطن في عدة اتجاهات خليجية بهدف إنشاء تكتل سياسي استراتيجي ينهي الخصومات التي تعتبرها واشنطن تضر بأهدافها الرئيسية، مع تقديم ضمانات للحلفاء الأصغر، وتحديدا أكراد سوريا، بعدم مساس أي طرف إقليمي، لاسيما تركيا، بمصيرهم أو الاعتداء عليهم. وبما يؤكد أن إدارة ترامب لا تتخلى عن حلفائها بشكل عام. أو هكذا هو الهدف من تلك التغريدة وما تلاها من محادثة هاتفية مع الرئيس التركي.
المشكلة الأبرز هنا: من هؤلاء الأكراد الذين يقصدهم الرئيس ترامب؟ هل هم عموم المواطنين الأكراد والذين هم جزء من مواطني سوريا حتى الآن على الأقل؟ أم هم هؤلاء المنخرطون في "قوات حماية الشعب الكردي"، أم قوات سوريا الديمقراطية "قسد" الذين قاموا بدور كبير في هزيمة داعش؟ أم كل الأكراد، سواء عسكريون أو مدنيون عاديون؟ غالب النص الذي غرد به الرئيس ترامب يوحي للوهلة الأولى أن الولايات المتحدة تتعهد بحماية الأكراد ككل، لكن بشرط ألا "يستفزوا" الجارة تركيا. وأيضا أن يقبلوا بمنطقة آمنة في عمق أراضيهم تُهدئ من المخاوف التركية. ومن الناحية العملية، ففي المنطقة التي احتلتها تركيا في غرب الفرات منذ مطلع 2017، والمعروفة بعملية درع الفرات، ثم عملية عفرين، فقد ترتب عليها سيطرة تركية مباشرة على شريط حدودي يقترب من 400 كم، فضلا عن مساحات بعمق يتراوح بين 40 إلى 60 كم في عمق الأراضي السورية. وبالتالي يُفهم أن الولايات المتحدة حين تؤيد إنشاء منطقة آمنة جديدة، فهذا يعني أنها ستكون في شرق الفرات، وبالتالي يكون لتركيا سيطرة على كامل الشريط الحدودي مع سوريا.
ومن الناحية العملية أيضا، هناك تساؤلات كبرى حول من الذي سيقيم تلك المنطقة الآمنة الجديدة؟ وما هو الدور الأمريكي في ذلك؟ وهل سيكون هناك تفاهمات مع الجانب الروسي أو مع الحكومة السورية، ومن هو الطرف الذي سيكون له حق مراقبة تلك المنطقة؟ وما يترتب عليها من إعادة تموضع أي قوات مسلحة، سواء كانت كردية أو تابعة للجيش السوري النظامي أو تتبع الجيش التركي نفسه الذي يحشد كما هائلا من المدرعات والجنود والآليات على طول الحدود من الجانب التركي وتقدر بثمانين ألف جندي. وهل سيكون للأمم المتحدة دور في إنشاء تلك المنطقة من خلال قرار لمجلس الأمن؟ أسئلة مفتوحة وبدون إجابات يقينية حتى اللحظة. وفي ضوء التفاهم الأمريكي التركي على مبدأ المنطقة الآمنة، فمن المنتظر أن تخضع للتفاوض مع الجانب الأمريكي في الأيام المقبلة.
بعض التصورات غير الرسمية تشير إلى أن فكرة نشر قوات عربية في المناطق الكردية كبديل للقوات الامريكية بعد اتمام انسحابها مطروحة على الطاولة، وربما يكون هناك مزيج من قوات عربية وتركية، وأيا كان مزيج القوات المقترحة، يبدو خياليا مشاركة قوات عربية تدعم الاحتلال التركي لشمال سوريا، لاسيما وأنه لا توجد ضمانات تمنع تعرض تلك القوات لهجمات إرهابية، كما انها ليست اكثر من وصفة لتقسيم سوريا عمليا برعاية عربية ستكون مستهجنة، إن وافقت دول عربية على مشاركة جنودها في أمر كهذا.
هذه التطورات المتسارعة تشكل ضغطا على الأكراد السوريين، والذين تبدو الخيارات المتاحة لهم محدودة للغاية، وبغض النظر عن النهاية التي ستذهب إليها التطورات التي تتحكم فيها واشنطن إلى حد كبير، فقد بات واضحا أن فكرة إنشاء "إقليم كردي" في الشمال السوري له طبيعة مستقلة والذي سمي من قبل بـ"روج أفا"، أي غرب كردستان والذي يضم مقاطعات الجزيرة وكوباني وعين العرب وعفرين، لم يعد له وجود، وليس مطروحا في المدى الزمني القريب أو المتوسط. وإذا ما أنشئت بالفعل منطقة آمنة في شمال شرق سوريا تخضع للنفوذ التركي، إضافة إلى عمليات "التتريك" الجارية على قدم وساق في مناطق الغرب من الفرات والتي تمتد كمثلث بين إعزاز والباب وجرابلس إضافة إلى عفرين غربا، فمن اليقين أن يكون كل الشمال السوري مطمعا تركيا مباشرا، قد يمهد إلى نوع من الإلحاق الفعلي بالدولة التركية بعد أن تستفحل عمليات "التتريك" في التعليم والصحة والاتصالات والإدارة المحلية. وفي ظل هكذا تطورات يكون أمام أكراد سوريا أحد بديلين؛ إما الانغماس في المخطط التركي أو التمسك بالجنسية السورية. ولكل بديل مغزى وثمن.
من المهم هنا ملاحظة اتجاه الحكومة السورية للحوار مع الأكراد، وهو أمر محمود إذا وضعت له أسس واضحة باعتبار أن سوريا بحاجة ماسة إلى إصلاحات سياسية كبرى، فالأكراد ما زالوا محسوبين على الدولة السورية، وعلى الأخيرة أن تبذل الجهد من أجل حمايتهم شعبا وأرضا وموارد، وعليها مهمة مد سيادتها على كامل الأراضي السورية. والأكراد من جانبهم -وكما سبق القول- لديهم خياران بديلان، إما التمسك بالمواطنة السورية أو قبول الإلحاق بتركيا، والتي لديها توجهات عدوانية تجاه الأكراد أيا كانت جنسيتهم ما دامت لهم توجهات تعارض الهيمنة التركية على مصيرهم ولا تعترف بهويتهم وخصوصيتهم الثقافية والتاريخية.
في السنوات القليلة الماضية، وفي خضم مواجهة تنظيم "داعش" الإرهابى، طُرح موضوع الحوار الكردي- السوري، كانت هناك عدة اتصالات لكنها لم تحقق أية نتيجة بسبب تباعد الرؤى والتي زادت وتيرتها مع استقرار القوات الأمريكية في مناطق شمال شرق سوريا، ما شكل حماية للوضع الكردي بشكل عام. وتبع ذلك نوع من الصمت المتبادل. وحتى قبل الإعلان الأمريكي بالانسحاب من سوريا حاول الروس دفع الطرفين للحوار. لكن الأمور لم تثمر شيئا محددا. ومع تغير الظروف وتزايد التهديدات التركية تكررت تصريحات مسئولين أكراد مدنيين وعسكريين بدعوة دمشق للقيام بواجبها نحو حماية الأراضي السورية ومواجهة الأطماع التركية، وهو ما بدا أنه تحول في المسار الكردي، ولكنه في إطار محدود.
الروس من جانبهم يدفعون إلى حوار ينهي القطيعة ويفتح باب دخول الجيش السوري إلى الشمال الشرقي لتأكيد السيادة السورية، ولوقف الزحف العسكري التركي المحتمل، خاصة أن أطرافا كردية طلبت وساطة موسكو في هذا الأمر. بعض التقارير تحدثت عن وفد كردي من الإدارة الذاتية لشمال سوريا ذهب بالفعل إلى موسكو برئاسة جيا كورد كبير مستشاري الإدارة الكردية، وتم عقد لقاءات مع كبار مسئولي الخارجية الروسية. تضمن الطرح الكردي رؤية من أربعة عناصر أساسية كأساس للمفاوضات مع الحكومة السورية، وهي أن تضمن القوات النظامية الحدود الشمالية مع تركيا، وضمان التوزيع العادل للموارد والثروات الباطنية الخاضعة لسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" وإقرارها في الدستور، وأن يتم دمج مقاتلي "قوات سوريا الديمقراطية" في منظومة الجيش النظامي، والتوصل إلى صيغة مناسبة لدمج هياكل الحكم الذاتي شمال شرقي سوريا وضمانها في الدستور. ووفقا للطرح الكردي فهم لا ينازعون السيادة السورية ويصرون على صيغة الحكم الذاتي المقنن دستوريا.
الرؤية الكردية على هذا النحو تعني تمسكا بإعادة بناء النظام السياسي السوري والتمسك بصيغة أقرب لما هو حادث بالنسبة لأكراد العراق في إقليم كردستان. ولم يكن أمام الروس سوى نقل تلك الأفكار إلى دمشق والتي يبدو أنها غير مرحبة بها وغير متحمسة. الأكراد بدورهم ليسوا موحدين بالنسبة للدخول في حوار شامل مع الحكومة السورية، فحين ألمح نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد بإمكانية الحوار مع الأكراد، ظهر مرحبون كحركة المجتمع الديمقراطي، ورافضون كالمجلس الكردي. الأمر الذي يتطلب نوعا من التوافق الكردي الداخلي على مفهوم الحوار ذاته ونتائجه المرجوة.
تأخر الحوار الكردي مع الحكومة السورية على أرضية بناء سوريا جديدة لن يفيد أحدا سوى تركيا الطامعة في الأراضي والموارد السورية، والجميع يدرك أن سوريا المستقبل ليست هي سوريا الماضي، وبدون البحث في صيغة جديدة للحكم يتوصل إليها السوريون أنفسهم من كافة الفئات والطوائف والمكونات التي عاشت لعشرات السنين معا على الأرض السورية، فلن يحقق أيا منهم منفردا سوى الخراب وضياع الهوية وفقدان الوطن. سوريا بحاجة إلى خطوات جريئة وليست مناورات صغيرة بلا معنى. الانتظار أو الاكتفاء بالتنديد للخطوات الاستعمارية التركية لا يكفي. التحرك لسد أبواب الاحتلال التركي عنوانه حوار جاد ورؤية صائبة لبناء سوريا تحمي كل أبنائها دون استثناء.