خمسون عامًا من إنتاج الأفكار: نموذج لإسهام المركز في دراسة الصراع العربي- الإسرائيلي- مقاربة منهجية وفكرية - عرض العدد 291- كراسات استراتيجية
2019-1-14

شروق صابر
* باحثة مشاركة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

جاء هذا العدد من سلسلة كراسات استراتيجية، والذي كتبه د. عبد العليم محمد، مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، في إطار المشروع الفكري الذي يقوم به المركز حاليًا بمناسبة "اليوبيل الذهبي"، وبهدف إلقاء الضوء على الاسهامات الفكرية والعلمية للمركز عبر خمسة عقود متواصلة، والتأثير الذي مارسه في تشكيل الوعي والإدراك، وتنوير الرأي العام، عبر أدواته ونوافذه البحثية العديدة، ونقل الأفكار إلى حيز الشأن العام، وإدخالها في نسيج النقاش المجتمعي من خلال تجلياتها العملية المكتوبة والمنشورة والمتاحة للقراء والباحثين وصانعي القرار. وذلك بصرف النظر عما إذا كان المركز هو من قام بصنع هذه الأفكار، أو أن هذه الأفكار قد صدرت من خارجه، ومن قبل مؤسسات أخرى عربية أو دولية أكاديمية أو سياسيةـ فاستقبلها وقام بمناقشتها وتطويرها وبحث السبل والأطر الفكرية التي يمكن إدراج هذه الأفكار في إطارها.

وقد أشارت الدراسة في البداية إلى أن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية قد حمل في أحد مراحل نشأته وتطوره اسم "مركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية"، حيث تركز نشاطه في هذا الميدان، نظرًا للطلب السياسي والفكري الذي كان قائمًا آنذاك، وعقب هزيمة يونيو 1967، على هذا النمط من المعرفة السياسية والعلمية، سواء تعلق الأمر بالنظام السياسي أو المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أو الأيديولوجيا الصهيونية ومختلف تجليات العملية السياسية في إسرائيل مثل الكنيست، والحكومة، وعملية اتخاذ القرار، والنظام الحزبي والاستيطان، الأمر الذي مثل ميراثًا علميًا ومنهجيًا على درجة كبيرة من الأهمية، نظرًا للدور "التأسيسي" الذي قام به المركز في تأسيس نمط معرفي جديد وعلمي عن الظاهرة الإسرائيلية والصهيونية.

وبالرغم من تغيير اسم المركز بعد فترة قصيرة إلى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، وتطور واتساع نشاطه العلمي والبحثي والفكري ليشمل المجال الإقليمي والدولي والنظام السياسي المصري، لكنه لم يتخل عن الاهتمام بالصراع العربي- الإسرائيلي في جميع مراحل تطور هذا الصراع، الأمر الذي أكسب المركز جزءًا مهمًا من مصداقيته الوطنية والعربية خاصة، حيث أصبح المركز فاعلًا وحاضرًا في النقاش العام حول القضايا المتعلقة بهذا الصراع.

وفي إطار العمل على بناء معرفة علمية حول إسرائيل والصراع العربي- الإسرائيلي، فقد رأى المركز أنه من الضروري تأسيس منظومة معارف علمية عن إسرائيل والظاهرة الصهيونية، تتخلص أولًا من النظرة المسبقة والأحكام القبلية، وتعتمد على الواقع والوقائع والوثائق المعتمدة الخاصة بالواقع الصهيوني والإسرائيلي، واستبعاد المرجعية- الدينية والإيديولوجية التي تختزل الظواهر وتحجب محتواها الحقيقي، وتستهدف الارتقاء بمعارفنا عن هذه الظاهرة وإعادة هيكلتها وبنائها على نحو مغاير لما كانت عليه في السابق.

وقد شكل ذلك الاهتمام المبكر للمركز بالصراع العربي- الإسرائيلي "مدرسة" علمية وطنية في دراسة الصراع بجوانبه المختلفة. ولم تكن تلك المدرسة مجرد حلقة "أكاديمية" أو "فكرية" معزولة عن السياق العام، بل كانت فاعلة ومؤثرة ومتلاحمة، سواء في علاقته مع الدولة وأجهزة التخطيط الاستراتيجي المختلفة أو في علاقته مع المواطنين والجمهور من خلال سياسة النشر بجميع الصور الممكنة التي يكون في متناول ومقدور القراء الحصول عليها بالأسعار الرمزية.

وأشارت الدراسة في هذا الإطار إلى عينة من الأفكار التي قام المركز بطرحها، كان أبرزها:

رفض معاداة السامية؛ فلم يستخدم المركز في جميع النصوص والأبحاث التي أنجزها أيًا من المفردات والمفاهيم التي يمكن أن يعدها البعض -سواء مؤسسات أو منظمات من الجانب الإسرائيلي والصهيوني- في عداد "العداء للسامية" أو تتضمن إشارة رمزية من قريب أو بعيد إلى هذه الظاهرة، مثل تعبيرات "المرابى اليهودي" أو "المؤامرة اليهودية"، إيمانًا منه بأن الانزلاق في خانة "العداء للسامية" يعني أننا نقع في "الفخ" الذي نصبته لنا إسرائيل والصهيونية بأن نستخدم المصطلحات والمفاهيم التي رسمتها هذه الدوائر.

التمييز بين اليهودية والصهيونية؛ حيث قام هذا التمييز في وقت مبكر، واستند على أسس ومقاربة علمية مستنيرة. أول هذه الأسس أن اليهودية ديانة توحيدية بل أول ديانة توحيدية سماوية، سبقت في وجودها المسيحية والإسلام، في حين أن الصهيونية حركة سياسية يهودية تزعم أنها حركة قومية لليهود على غرار الحركات القومية التي نشأت في أوروبا في ذلك الوقت.

تعزيز الرواية العربية للصراع مع الصهيونية وإسرائيل؛ من خلال الكشفت عن طبيعة المشروع الصهيوني الاستيطاني في فلسطين، والتركيز على الأبعاد العدوانية والتوسعية والإحلالية للمشروع، وارتباط ولادته بالحركات الاستعمارية الغربية والمصالح الاستعمارية واستلهامه ميراث هذه الحركات العنصرية وإبادة السكان الأصليين والتطهير العرقي.

بنية العقل الصهيوني؛ حيث حرص المركز منذ البداية على تشخيص طبيعة العقل الصهيوني والإسرائيلي ومصادر تكوينه التاريخية، فهو عقل لم يتشكل في الفراغ ولم يتشكل خارج التاريخ، بل هو نتاج ظروف وملابسات أنتجت آلياته ومبادئه في إنتاج الأحكام والتفكير.

تعزيز الثقة في الشخصية العربية؛ إذ حمل المركز على عاتقه مهمة إثبات زيف ما تعرضت له الشخصية العربية -خاصة بعد هزيمة يونيو 1967- من انتقادات إسرائيلية وغربية بهدف تأكيد سلبية الصورة العربية وبالذات العربية العاجزة عن المواجهة وغير القادرة على استيعاب قواعد العقل والمنطق.

المفهوم المصري للحكم الذاتي؛ فما أن تم إقرار اتفاقيات الإطار (كامب ديفيد)، وخاصة إطار السلام في الشرق الأوسط الذي يتعلق بالحكم الذاتي للشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة، حتى بادر المركز بتكليف كاتب هذه الدراسة ببحث قضية الحكم الذاتي للأراضي الفلسطينية المحتلة. وبعد ما يقرب من العام من هذا التكليف أنجز الكاتب دراسة نقدية للمفهوم الإسرائيلي للحكم الذاتي ضمنه في كتاب: الحكم الذاتي والأراضي الفلسطينية المحتلة، الذي صدر عن المركز في عام 1980. ومن خلال ذلك أمكن للمركز والمفاوضين المصريين تحديد المفهوم المصري للحكم الذاتي.

التنبؤ بانعطاف الرأي العام الإسرائيلي نحو اليمين؛ فقد تنبأ المركز بصعود بنيامين نتنياهو إلى سدة الحكم في إسرائيل في انتخابات عام 1996، رغم أن جميع الهيئات والجهات الرسمية العربية وضعت جميع رهاناتها في سلة "شيمون بيريز" مرشح حزب العمل وذلك استنادًا إلى "حمائمية" حزب العمل مقارنة بالليكود. وقد جاءت الانتخابات لتؤكد هذا السبق من جانب المركز.

الاستكشاف المبكر لمصير أوسلو؛ كان المركز هو الوحيد الذي امتلك معرفة واقعية وعلمية وتاريخية عن إسرائيل تسوغ المصير الذي انتهت عليه "أوسلو"، حيث قرأ المركز بعناية الظروف المحيطة بالاتفاق خاصة الظروف الإسرائيلية، وكذلك بنية هذا الاتفاق القانونية وحاجة كل بند من بنوده إلى اتفاق جديد.

في نهاية الدراسة قدم د.عبد العليم قراءة تحليلية لخطاب "السيد يسين" حول تشريح العقل الصهيوني والإسرائيلي، وهو خطاب تميز بحيوية فائقة وبقيمة تأسيسية وتكوينية على الصعيد المعرفي والمنهجي والعلمي في هذا الحقل من الدراسات، وذلك نظرًا لأن توقيت هذا الخطاب كان مبكرًا نسبيًا، فضلا عن انخراط ذلك الخطاب في مجال الممارسة السياسية والثقافية.

 


رابط دائم: