مع قرب الإعلان عن إطلاق اللجنة الدستورية التي ستشرع بوضع دستور جديد لسوريا يحكم مرحلة ما بعد الصراع، تجددت نذر التصعيد العسكري عقب الإعلان التركي عن حملة عسكرية شرق الفرات لتحجيم نفوذ الأكراد في الشمال الشرقي لسوريا، حيث تسيطرعلى شمال شرقي سوريا - بما يعادل ثلث مساحة سوريا ونصف خط الحدود مع تركيا- وحدات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، وهو الفرع السوري الأقرب لحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه أنقرة "منظمة إرهابية"، وقادت ضده حربا شعواء منذ أكثر من عقدين، حيث يفرض حزب الاتحاد نفوذه في المنطقة التي يتشكل غالبية سكانها من الأكراد في الحسكة والرقة، من خلال جناحه العسكري، قوات حماية الشعب، والتي اندمجت تحت مسمى جديد منذ خريف 2015 مع بعض العناصر العربية لتشكل قوات سوريا الديمقراطية- قسد- المقدرة بحوالي 60 ألف مقاتل. ومع ذلك بقى المكون الكردي هو الطاغي على هذه القوات، وظلت هى الظهير العسكري للهيمنة التي يمارسها حزب الاتحاد الديمقراطي على شرق الفرات.
التهديد بتصعيد عسكري
كان لقوات قسد دور استثنائي في قتال داعش وطردها من الحسكة والرقة وأطراف دير الزور منذ إعلان التحالف الدولي لقتال داعش بقيادة أمريكية في سبتمبر 2014. إذ اعتمد التحالف على قسد في تنفيذ المهام البرية لقتال داعش، بينما تولى التحالف مهمة الضربات الجوية. وفي سبيل ذلك حصلت قسد على دعم كبير من أعضاء التحالف الدولي، وخاصة الولايات المتحدة، سواء على مستوى التدريب أو التخطيط أو العتاد، فضلا عن الشرعية الدولية لتمدد نفوذها شمال شرقي سوريا. ورغم التحفظ التركي منذ إعلان الحرب على داعش على الاعتماد الدولي المتزايد على قسد ودعمها بكافة السبل، لم تكن تركيا تلوح صراحة باجتياح شرق الفرات. إذ كان هناك اتفاق ضمني بين الأتراك والأمريكيين أن نفوذ الأكراد لا يتخطى منطقة شرق الفرات، فيما كانت منطقة غرب الفرات موضوع شد وجذب بين قسد من جانب، وفصائل المعارضة السورية التي ترعاها تركيا، من جانب آخر. وبينما كان الأمريكيون يضمنون النفوذ الكامل للأكراد شرق الفرات، لم يكن الغطاء الأمريكي يمتد لغربه، إذ تفهمت واشنطن مخاوف أنقرة في هذه المنطقة. وعلى هذا الأساس، كان التدخل التركي في منطقة درع الفرات في صيف 2016 للقضاء على أي احتمال للتمدد الكردي إلى غرب الفرات. وبالمثل أيضا كان الهدف من عملية اجتياح عفرين في يناير 2018. بينما خضعت منبج لاتفاق أمريكي- تركي يجعل منها نقطة تماس هادئة بين الجانبين وتحت رقابة القوى الدولية المختلفة الحاضرة فيها وعلى مشارفها.
عقب الإعلان التركي عن حملة شرق الفرات، بدأ حشد الأرتال العسكرية التركية بطول خط الحدود الممتد لأكثر من 800 كم، ورُفعت جاهزية الفصائل السورية المعارضة المتحالفة مع أنقرة -التي اندمجت تحت مسمى الجيش الوطني منذ منتصف 2017 بقوام يتراوح بين 20-25 ألف مقاتل. وبينما تكثفت الاتصالات بين واشنطن وأنقرة لتفادي أي صدام أمريكي تركي في هذه المنطقة، عززت واشنطن من تواجدها العسكري بإضافة نقاط جديدة لتمركزها بالقرب من منبج وهي نقطة التماس الأولى التي قد تتقدم منها الفصائل السورية المتحالفة مع أنقرة في حال بدء حملة شرق الفرات.الأمر الذي كان يوحى برسوخ الدعم الأمريكي لقوات قسد في مواجهة الأطماع التركية بالتمدد شرقا.
وفي مقابل ذلك، ترددت أنباء عن السماح بدخول قوات بشمركة "روج آفا" (التسمية الكردية لمناطق الأكراد في سوريا) إلى الشمال الشرقي السوري قادمة من العراق من أجل الانتشار على طول الحدود السورية التركية شرق الفرات. وكانت بشمركة- روج آفا ممنوعة من العودة إلى سوريا منذ سنوات، إذ تشكلت في عام 2012 عقب عسكرة الصراع في سوريا من جنود وضباط أكراد بالجيش السوري النظامي قاموا بالانشقاق والتوجه إلى كردستان العراق، حيث حصلوا على تدريب وتسليح وتجهيز عسكري بالتعاون مع البشمركة العراقية. ولكونها مرتبطة بالقوى المهيمنة على كردستان العراق، التي هي على علاقة جيدة مع الأتراك، فبشمركة روج آفا، التي يتراوح عددها بين 10- 15 آلاف مقاتل، قد تحظى برضاء تركي، على عكس الوحدات الكردية المتحالفة مع حزب العمال الكردستاني المصنف كتنظيم إرهابي. وهو ما عكس محاولة ضمنية بتحجيم نفوذ الوحدات الكردية من خلال قوات كردية أخرى أقل تشددا وأقرب لنيل القبول التركي، وأطوع للتعاون مع فصائل المعارضة السورية. بينما نفت الوحدات الكردية السماح بإدخال بشمركة-وج آفا إلى شمال شرقي سوريا، حيث أنها تشكل تهديدا لنفوذ حزب الاتحاد الديمقراطي، بما يظهر تعددية الساحة السياسية والعسكرية الكردية وينفي هيمنة حزب الاتحاد ووحدات الحماية. فالمعارضة السياسية داخل الساحة الكردية لهيمنة الوحدات الكردية تكررت على مدار السنوات الأربع الماضية، خاصة بعد التشدد في مسألة التجنيد الإجباري لشباب الأكراد من الذكور والإناث من أجل قتال داعش. لكن الظهير العسكري المعارض لهذا النفوذ كان دوما غائبا في ظل الهيمنة العسكرية المطلقة للوحدات الكردية. وهو ما أثار التكهنات بأن الصفقة الأمريكية التركية لتفادي حملة شرق الفرات تقضي بإعادة تقاسم الساحة الكردية بين الوحدات الكردية وبين بشمركة-روج آفا القريبة من خط مسعود البرازاني.
الرهان الخاسر: "غدر" الحليف
غير أن القرار المفاجئ لترامب بسحب القوات الأمريكية من سوريا قلب الموازين بين ليلة وضحاها، إذ تم اتخاذه على عجل وعلى نحو غير متوقع بما يوحي بأنه إخلاء للساحة من أجل تقدم القوات التركية ضد الأكراد. ورغم أن ترامب كان قد أعلن في أبريل 2018 عن انسحاب مشابه للقوات الأمريكية - التي تبلغ حوالي 2000 مقاتل من القوات الخاصة- فإن الرئيس الفرنسي قد نجح في إثنائه عن هذا القرار آنذاك. وهو الأمر الذي لم يتكرر بعد الإعلان الأخير، بل اكتفى الفرنسيون بالإعلان عن استمرار دعمهم للأكراد بالتوازي مع إعلان واشنطن عن البدء في إجلاء قواتها في مدة تتراوح بين 60 إلى 100 يوما. ولا يبدو أن القرار الأمريكي المتعجل محل رضاء كامل بالبنتاجون والكونجرس، حيث يرى المعارضون لهذا القرار أن الانسحاب الأمريكي المتعجل من شأنه أن يفسح المجال لعودة تمدد داعش، ويعطي فرصة ذهبية لإيران لتوسيع وجودها بسوريا، تماماً كما حدث في العراق من قبل. فيما رأت قسد في هذا القرار غدراً من الحلفاء وخيانةً لدماء الآلاف من مقاتليها الذين نجحوا في دحر داعش، إذ تخلت واشنطن عن حليفها الكردي بعدما استخدمته لتحقيق أهدافها في الحرب على الإرهاب. وهو ما دفع قوات قسد للتلويح بتجميد حملتها العسكرية على جيوب داعش على الحدود مع العراق وإطلاق سجناء داعش الذين تحتجزهم قسد نيابة عن الدول التي رفضت استلام مواطنيها من الدواعش. وهو التهديد الذي اعتبر محاولة يائسة من جانب قسد لاستبقاء الدعم الأمريكي وإحياء الخطر الداعشي الذي كان بمثابة ميلاد جديد لنفوذ الأكراد في سوريا.
غير أن هذا التخلي الأمريكي كان متوقعا منذ سنوات، فلم يكن من المرجح أن تدعم واشنطن تواصل تمدد النفوذ الكردي في سوريا وصولا للإنفصال ومن ثم تهديد بقاء وتماسك دول المنطقة، وخاصة تركيا عضو حلف الناتو. ورغم قابلية صفقة مد الغطاء الأمريكي للأكراد شرق الفرات لأن تبقى صامدة لفترة أطول، إلا أن التعجل التركي كان كفيلا بإنهائها بسرعة غير متوقعة. إذ أقنع أردوغان ترامب بأن تركيا ستتولى عملية قتال ذيول داعش حال سيطرتها على المنطقة، بدلا من قوات قسد، وهو الوعد الذي لا يبدو منطقيا رغم أن ترامب قد قرر الانسحاب على أساسه. إذ من غير المتوقع أن تتورط تركيا بحرب شاملة في العمق السوري، حتى ولو كانت ضد داعش. فعلى مدار السنوات الماضية لم تكن تركيا طرفا أساسيا في قتال داعش، وسبق أن رهنت مشاركتها بهذه الحرب بشرط قيادة المعركة في الرقة، وهو ما رفضته قسد آنذاك وبالتالي لم يتحقق مطلقا. في حين أن المصلحة التركية تقضي فقط بتأمين خط حدودها الطويل في الشمال الشرقي السوري وليس التعمق في جيوب الحدود السورية العراقية، حيث تتمركز فلول داعش. بل الأرجح في حملة شرق الفرات -إذا ما وقعت- أن تتوغل القوات التركية لمسافة 20-30 كم لتأمين المنطقة الحدودية وإفساح المجال للفصائل السورية المتحالفة معها للسيطرة على المنطقة. ويعني ذلك أن الأمر سيكون أقرب إلى قتال سوري- سوري، بين الفصائل المعارضة (نيابة عن الأتراك) وبين قوات قسد، ما دفع الأخيرة إلى محاولة التقارب مع النظام السوري، لضمان قدر من الحماية في ظل التخلي الأمريكي الملحوظ عنها. إذ اقترحت موسكو على الأكراد الاعتماد على قوات النظام السوري للانتشار على الحدود السورية التركية لمنع التقدم العسكري التركي.
إعادة تقاسم النفوذ
كانت العلاقة الكردية مع النظام السوري جدلية إلى حد بعيد، حيث تم الاتفاق ضمنيا بينهما عقب عسكرة الصراع السوري، على أن يسحب النظام السوري قواته من مناطق الأكراد، وإعطائهم قدراً من الإدارة الذاتية الفعلية، في مقابل ضمانهم ألا تتوطن المعارضة السورية في مناطقهم. غير أنه ومنذ تقاطر الدعم الأمريكي إلى الأكراد في نهاية 2014 توترت علاقتهم مع النظام السوري، الذي هدد أكثر من مرة باستعادة السيطرة على كافة التراب السوري بما فيه الشمال الشرقي، ومعاقبة عملاء الولايات المتحدة، في إشارة إلى قوات قسد. ولذا فإن عودة الدفئ للعلاقة بين الأكراد والنظام السوري قد يكون أمرا ضروريا بقوة الأمر الواقع لمواجهة العدو المشترك، أي الأتراك وحلفائهم من الفصائل المعارضة السورية. غير أنه في هذا الإطار، قد يكون للروس والإيرانيين أيضا موطئ قدم حقيقي في الشمال الشرقي السوري. إذ بموجب التقاسم الفعلي للنفوذ في سوريا عقب معركة دحر داعش، كان النفوذ الروسي يقف عند نهاية النفوذ التركي والأمريكي. فقد سيطرت تركيا على الشمال الغربي لسوريا في منطقة درع الفرات وعفرين حتى المشارف الغربية لمنبج. بينما كان النفوذ الأمريكي يمتد في منطقة شرق الفرات، معززاً لقوات قسد، ويقف عن المشارف الشرقية لمنبج. بينما كان النفوذ الروسي ومن ورائه قوات النظام السوري والإيرانيين يمتد في المنطقة الوسطى، بالإضافة للساحل، وريف حلب الشرقي ويقف عند المشارف الجنوبية لمنبج. لكن في حال صدق الانسحاب الأمريكي، وتقدم الأتراك فإنه من المتوقع أن تتغير خريطة النفوذ تلك. إذ من المتوقع أن يتقدم النظام لمساندة قسد في مواجهة الأتراك وفصائل المعارضة، بينما يُتوقع أن تلعب موسكو دورها الأثير في الوساطة بين الطرفين واستضافة المفاوضات لمنطقة جديدة لخفض التصعيد في الشمال الشرقي. لكن هذه المرة ستكون الصورة أكثر تعقيدا، وربما يسمح التصعيد العسكري إذا ما حدث بإضعاف أحد أطراف هذا الصراع المتجدد وخاصة قسد وفصائل المعارضة المتحالفة مع تركيا.
وبصفة عامة، يتوقف تطور المشهد في شرق الفرات على مدى جدية ترامب في سحب القوات الأمريكية، وليس على مدى تقدم القوات التركية. لأنه من غير المرجح أن يتواجه الحليفان في حلف الناتو في مواجهة بعضهما البعض، بل الأقرب للمنطق أن يتفاهم الطرفان لتحجيم النفوذ الكردي. ذلك أنه بتراجع نفوذ داعش، تنتفي الحاجة إلى تعزيز القدرات العسكرية لقوات قسد، خاصة أن العنوان المسيطر للمرحلة الحالية هو إحكام السيطرة على فوضى الميليشيات على الساحة السورية. فتركيا بدأت من خلال عملية "درع الفرات" ثم عفرين إعادة هيكلة فصائل المعارضة السورية ضمن كيان أكثر انضباطا وهو الجيش الوطني. بينما حرص الروس على إعادة تنظيم القوات الموالية للنظام السوري بتهميش الميليشيات الطائفية وخلق فيالق جديدة ضمن الجيش النظامي. وبين هذين المشهدين، بقت ساحة شرق الفرات عصية على السيطرة في ظل الطموح المتصاعد لقوات قسد وهيمنة حزب الاتحاد الديمقراطي على الإدارة الذاتية.
لذا يمكن قراءة إعلان الانسحاب الأمريكي في هذا الإطار باعتباره أداة ضغط على قوات قسد من أجل الانصياع وتحجيم نفوذها والتراجع للعمق بعيدا عن الحدود والقبول بشركاء آخرين ضمن هذه المنطقة، سواء شركاء آخرين من داخل الساحة الكردية مثل بشمركة-روج آفا، أو شركاء من الفصائل المعارضة القريبة من تركيا. تماما مثلما أعلنت موسكو من قبل في مطلع 2016 عن انسحاب جزئي من سوريا، لإجبار حليفها النظام السوري للتعاطي بجدية مع مفاوضات جنيف 3 آنذاك، دون أن تنفذ فعليا هذا الانسحاب. ولذا تبدو التسوية في ملف شرق الفرات هي الأقرب للتطبيق من التصعيد العسكري، ويبدو تحريك الأرتال العسكرية من كافة الأطراف ليس إلا تلويح بالقوة لتعزيز مواقفها في التسوية المتوقعة. وهنا يمكن اتمام التسوية على مرحلتين. المرحلة الأولى، تشمل تسوية تركية أمريكية، وهذا الشق يبدو أنه على وشك التحقق. فيما تنصب المرحلة الثانية على البناء على تسوية الأتراك والأمريكيين لتحقيق تسوية أخرى مع الروس بحيث يتم تقاسم ما سيتم انتزاعه من الأكراد من مناطق نفوذ.
رابط دائم: