النموذج الآسيوي في التكامل الاقتصادي وتحرير التجارة - عرض العدد 290- كراسات استراتيجية
2018-12-9

شروق صابر
* باحثة مشاركة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

أدى ازدهار موجة جديدة من مشروعات تحرير التجارة بعد انتهاء الحرب الباردة إلى التمييز بين الترتيبات الإقليمية التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة وحتى منتصف الثمانينيات، من ناحية، وتلك التي ازدهرت مع أواخر عقد الثمانينيات، من ناحية أخرى، على نحو جعل البعض يطلق على النوع الأول أو النمط الأول "الإقليمية التقليدية" أو الموجة الأولى من الإقليمية، مقابل "الإقليمية الجديدة" أو "الموجة الثانية من الإقليمية" التي ازدهرت مع بداية التسعينيات.

من هنا تأتي أهمية تلك الدراسة التي قدمها د. محمد فايز فرحات، الخبير بوحدة العلاقات الدولية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، حيث تحاول الدراسة الإجابة على عدة تساؤلات ثارت حول أسباب تصاعد ظاهرة الإقليمية الجديدة، وما إذا كانت هناك علاقة بين تصاعد الإقليمية الجديدة وأداء الموجة الأولى من الإقليمية؟ وعلى الرغم من وجود مجموعة من التحولات المهمة وراء ظهور الموجة الثانية من الإقليمية، لكن هذه الدراسة تنطلق من افتراض وجود علاقة قوية بين فشل الموجة الأولى في دول العالم الثالث وازدهار الإقليمية الجديدة وفق خصائص محددة.

وتطرح الدراسة مجموعة من التساؤلات حول مظاهر فشل الإقليمية التقليدية؟ وما هي أسباب فشلها؟ وما هي مجموعة الخصائص التي ميزت الإقليمية التقليدية والتي كان خلو الموجة الثانية من تلك الخصائص مبررًا للحديث عن نمط جديد أو موجة ثانية من الإقليمية؟

وقد أوضح دكتور فايز، أن ظاهرة الإقليمية اتسمت خلال مرحلة الحرب الباردة بمجموعة من الخصائص كانت انعكاسًا للبيئات الاقتصادية والسياسية والأمنية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية خلال تلك المرحلة. وكان لتلك الخصائص دور مهم في إعاقة نجاح نمط الإقليمية خلال هذه الفترة في عدد من الأقاليم. كما كان للتحولات المهمة التي شهدها العالم على المستويات الاقتصادية والاجتماعية بعد الحرب الباردة دور مهم في تحول هذا النمط على نحو دفع إلى التمييز بين موجتين للإقليمية. ومن بين أهم تلك الخصائص: التجاوز الجغرافي كعنصر محدد في بناء وعضوية الترتيبات الإقليمية، وغلبة التهديدات الأمنية الاستراتيجية، وسيطرة الاعتبارات الأيديولوجية على تأسيس الترتيبات الإقليمية ومشروعات التكامل الإقليمي، وذلك من جانبين رئيسيين، أولهما ارتباط هذه الترتيبات في الغالب بوجود تهديدات أمنية استراتيجية، وثانيهما سيطرة الاعتبارات الأيديولوجية على تلك الترتيبات. وفي هذا الإطار، تطورت تجربة الجماعة الأوروبية بهدف إقامة حائط قوي أو حزام أمني في مواجهة التهديد السوفيتي أو الشيوعي الشرقي. واستندت ظاهرة الإقليمية خلال تلك المرحلة إلى افتراض نظري مؤداه أن التكامل الإقليمي يؤدي إلى تقليل أو إضعاف احتمالات الدخول في صراع بين أطراف مشروع التكامل. أيضًا من بين تلك الخصائص وجود علاقة تبادلية بين الإقليمية والنظام التجاري متعدد الأطراف. ويقصد بالتبادلية هنا التعامل مع كل منهما باعتباره بديلا للآخر في تحرير التجارة. وأخيرًا الاعتماد على نموذج المؤسسية القانونية، وهو النموذج الذي اعتمدت عليه الإقليمية خلال فترة الحرب الباردة.

وأشار د. فايز إلى أن الدول النامية خلال النصف الثاني من القرن العشرين عرفت ظاهرة الإقليمية على نطاق أوسع، كجزء من ظاهرة عالمية آنذاك، أو كمحاولة لمحاكاة التجربة الأوروبية. لكن السمة الغالبة هو إخفاق هذه الظاهرة داخل الدول النامية في تحقيق هدف التكامل الاقتصادي. وقد تعددت التفسيرات التي قُدمت لتفسير ذلك الإخفاق. ورغم أن كل تجربة كانت لها قدر من الخصوصية أو التمايز في عوامل الإخفاق. ترتبط معظم هذه العوامل بمجموعة السمات والخصائص التي ميزت ترتيبات التكامل الإقليمي ذاتها التي سادت خلال فترة حرب الباردة، جنبًا إلى جنب مع ظروف وخصائص الاقتصادات النامية في الوقت ذاته.

وإزاء تصاعد مظاهر فشل الموجة الأولى من الإقليمية، بدأ في التبلور نمط جديد من تجارب التكامل الإقليمي أو ما أطلق عليه "الإقليمية الجديدة"، أو الموجة الثانية من الإقليمية. وقد بدأت هذه الموجة في التطور في آسيا، وتحديدًا في منطقة آسيا المحيط الهادئ، ومنطقة المحيط الهندي، ما يؤسس لوصف هذا النمط الجديد من الإقليمية إلى حد كبير بـ "الإقليمية الآسيوية"، أو النموذج الآسيوي في التكامل وتحرير التجارة. وقد استخدم مفهوم "الإقليمية المفتوحة" في تلك الفترة لوصف واقع أو حالة التوسع في التجارة والاستثمار الإقليمي وتعميق التكامل بين اقتصاديات المنطقة، فتطور مفهوم "الإقليمية المفتوحة" لم يكن نتاجًا لتطور نظري لمفهوم الإقليمية القديمة بقدر ما كان مرتبطًا بتطور ظاهرة التكامل الإقليمي في حد ذاتها في إطار منطقة آسيا- المحيط الهادي.

وقد أخذ مفهوم "الإقليمية الجديدة" بعدًا دوليًا فيما بعد خلال انتقاله في منتصف التسعينيات إلى مجال النقاش الدائر حول مستقبل "النظام التجاري العالمي". فقد طُرحت "الإقليمية الجديدة" أو "الإقليمية المفتوحة" بمثابة الحل الأمثل للتوفيق بين الإقليمية التقليدية بما تعنيه من التمييز ضد الأطراف الخارجية من ناحية، والنظام متعدد الأطراف بما يعنيه من انهيار الحواجز التجارية الإقليمية والمحلية والانفتاح على العالم الخارجي من ناحية أخرى. واعتبرت منظمة التجارة العالمية أن النمط الجديد من الإقليمية بالمعنى الذي طورته الخبرة الآسيوية هو البديل الأمثل للتوفيق بين الترتيبات الإقليمية والنظام التجاري متعدد الأطراف.

وبيَّن د. فايز، أنتصاعد ظاهرة الإقليمية الجديدة تبعها ظهور العديد من التفسيرات لتطور هذه الظاهرة، وقد ميزت إحدى الدراسات بين أربع مدارس أو مناهج متمايزة في تفسير تطور هذه الظاهرة: المنهج الأول: ما يطلق عليه "المنهج المؤسسي للأقلمة" وهو أكثر المناهج تأثرًا بالنظريتين الوظيفية والوظيفية الجديدة والأفكار المتعلقة بدور المؤسسات في العلاقات الدولية. المنهج الثاني، هو "الاقتصاد السياسي الدولي" والذي ينظر إلى الإقليمية الجديدة كجزء من تحولات النظام العالمي، خاصة بعد انتهاء الحرب الباردة. المنهج الثالث، يركز على دور العوامل السياسية والاقتصادية الداخلية التي تدفع بصانع القرار إلى تفضيل البديل الإقليمي أو المشروع الإقليمي. وأخيرًا يتمثل المنهج الرابع في منهج "نظرية الإقليمية الجديدة"، وينظر أصحاب هذا المنهج إلى ظاهرة الإقليمية الجديدة باعتبارها عملية تاريخية متعددة الجوانب والأبعاد.

وفي نهاية الدراسة أوضح د. فايز، أن هناك العديد من عوامل نشأة تلك الظاهرة على النحو التالي:

1- التحول في بنية النظام العالمي، حيث شهدت بنية هذا النظام خلال الربع الأخير من القرن العشرين عددا من التحولات الجوهرية، على المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية، والتي كان لها تأثيرها العميق على سياسات وأنماط التفاعل الدولي من خلال تأثيرها على السياسات الخارجية للوحدات الدولية.

2- التراجع النسبي للجيو سياسي وتصاعد الجيو اقتصادي، إذ لا يمكن فهم ظهور "الإقليمية الجديدة" بمعزل عن تنامي هيمنة الأجندة والمحددات "الجيو- اقتصادية" على التفاعلات والسياسات العالمية والإقليمية، على نحو دفع البعض إلى إطلاق مفهوم "الإقليمية الاقتصادية" على هذا النمط من الإقليمية. وقد تبع هذا التحول تزايد الحاجة إلى التنسيق "متعدد الأطراف- فوق الوطني" للسياسات النقدية والمالية.

3- التحول في موقف الولايات المتحدة الأمريكية بشأن المدخل الإقليمي لتحرير التجارة؛ فهناك عوامل عديدة دفعت الولايات المتحدة إلى تشجيع الإقليمية، تمثل أهمها في رغبتها في الاستفادة من الأسواق الناشئة والأيدي العاملة الرخيصة في الأسواق الخارجية. وكانت الولايات المتحدة مدفوعة في ذلك بالرغبة في مواجهة القدرات التنافسية المتزايدة للمنتجات الآسيوية، من خلال إنتاج سلع تتميز بقدرات تنافسية عالية في مواجهة المنتجات الآسيوية، خاصة السيارات.

4- تطور نظريات ومفاهيم التكامل الاقتصادي الإقليمي والتجارة الدولية: كان للتطور الذي طرأ على نظرية التجارة الدولية خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، والمراجعات النظرية للعديد من المفاهيم والخبرات الإقليمية التقليدية في تحرير التجارة الإقليمية والنمو الاقتصادي والرفاه الاقتصادي، والعلاقة بين الإقليمية والنظام متعدد الأطراف، دور مهم في تطور ظاهرة الإقليمية الجديدة، وخلق البيئة الاقتصادية المواتية لنشأة وتطور هذه الظاهرة.

5- تعثر النظام متعدد الأطراف؛ فالإقليمية الجديدة جاءت من ناحية كنتيجة أو استجابة لتطورات النظام متعدد الأطراف أو كمحاولة من جانب الدول النامية بغرض "التأقلم" مع هذا النظام، والعمل على خلق أطر بديلة تضمن اندماجها في الاقتصاد العالمي من خلال الدخول في ترتيبات إقليمية غير تمييزية كبديل وسط بين الإقليمية التمييزية المغلقة والنظام متعدد الأطراف.

6- الاعتماد التاريخي المتبادل بين شطري المحيط الهادئ؛ ذلك أن تبلور الإقليمية الجديدة في شرق آسيا قد تم من خلال ارتباط مجموعة من الاقتصادات الصاعدة أو الصغيرة بدولة ذات اقتصاد كبير أكثر تقدمًا (اليابان في هذه الحالة). وامتد نطاق هذا التكامل في مرحلة تالية ليضم الجانب الغربي من المحيط الهادئ والذي استند في هذه المرحلة إلى البيئة الأمنية في شرق آسيا.


رابط دائم: