في سياق مقارب لمظاهرات الطلبة إبان عهد شارل ديجول عام 1968، شهد عدد من المدن الفرنسية منذ 17 نوفمبر الماضي (2018) احتجاجات عنيفة ضد إعلان الحكومة الفرنسية رفع أسعار الوقود، في إطار سياسات بيئية تستهدف التوسع في استخدام السيارات التي تعمل بالكهرباء. المطالب الأساسية للمحتجين تمثل في إلغاء رفع أسعار الوقود، والتراجع عن السياسات الاقتصادية -والضريبية على وجه الخصوص- والتي أدت إلى تراجع المستوى المعيشي للطبقتين الوسطى والفقيرة.
حركة السترات الصفراء
على الرغم مما وُصفت به الاحتجاجات الراهنة بأنها حركة عفوية، بدون قيادة سياسية أو تيار معروف أو حزب معارض محدد، حيث لعبت مواقع التواصل الاجتماعي الدور الأبرز فيها، وتنوعت توجهات المشاركين بين الأناركيين، إلى متطرفين من أقصى اليمين وأقصى اليسار، لكن كان ملفتًا ظهور ما عرف بحركة "السترات الصفراء". وبشكل عام، يمكن تحديد السمات الرئيسية لهذه الحركة فيما يلي:
1- حركة مستقلة نسبيا: كونها لا تتبع حزبًا سياسيًا أو حركة احتجاجية معلنة مسبقا. كما لم تتبنى شعار أي من الأحزاب القائمة، دون أن ينفي ذلك الدعم المعنوي الذي حظيت به من قبل تيارات اليمين المتطرف واليسار الراديكالي.
2- حركة غير متجانسة؛ فقد تعددت مطالب المحتجين، ولم يكن هناك توافق تام على مطلب واحد. فقد ركز البعض على المطالبة بإلغاء رفع أسعار الوقود، ركز آخرون على المطالبة بزيادة الرواتب ورفع الحد الأدنى للأجور ورفع المعاشات التقاعدية، فيما ارتفع سقف المطالب لدى البعض الآخر ليصل إلى حد المطالبة باستقالة ماكرون وحل الجمعية الوطنية على غرار ما قام به ديجول في عام 1968. كما طالب البعض بإعادة فرض ضريبة الثروة، واتخاذ تدابير عاجلة لزيادة القدرة الشرائية.
3- عشوائية متذبذبة: وذلك بالنظر إلى ثلاثة عوامل رئيسية، ومتداخلة. الأول، هو افتقاد الحركة إلى قائد سياسي. الثاني، هو تفاوت عدد المشاركين في الحركة الاحتجاجية، ففي بداية التظاهرات تخطت الأعداد المشاركة قرابة 300 ألف فرد، ثم بدأت في التراجع لتصل إلى 73 ألف فرد من مختلف الأعمار. العامل الثالث يتعلق بغموض العلاقة بالعنف المستخدم، ففي الوقت الذي لم يتبن المتحدثون الرسميون باسم الحركة أعمال العنف، لكن من الناحية العملية فقد ارتبطت الاحتجاجات بأعمال عنف واسعة طالبت المحلات التجارية، والسيارات، وساحة الشانزلزيه، وغيرها من معالم فرنسا المهمة. ولا يُعرف تحديدا إلى متى سوف تستمر هذه الاحتجاجات، وما هى المطالب الحقيقية التي إذا تم الاستجابة لها ستتوقف المظاهرات وأعمال العنف والتخريب.
أسباب عديدة وراء الاحتجاجات
تعانى فرنسا من تراجع على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية منذ تولى ساركوزى الحكم. فإلى جانب الأزمات الاقتصادية، فقد اتسمت فترة رئاسته بتبعية واضحة للمواقف والسياسات الأمريكية، لتنتهي فترة حكمه ويأتي رئيسا اشتراكيا (فرانسوا أولاند) لم يستطع التخلص من تركة ساركوزى الثقيلة. في هذه الفترة (2016) ترك ماكرون الحزب الاشتراكي، واستقال من حكومة مانويل فالس ليؤسس حزب "إلى الإمام" داعيا التخلص من الأيدلوجية القديمة وبناء حزب وسطى لكل الفرنسيين. وسرعان ما التفت حوله منظمات المجتمع المدني وبعض من قادة الأحزاب، سواء من اليسار أو اليمين، ليصل إلى السلطة في مايو 2017. في هذا السياق، وعد ماكرون بتبني سياسات إصلاحية وأن يكون رئيسا لكل الفرنسيين وليس رئيسا للأغنياء كما اتهم سابقه هولاند الاشتراكي. ولم يمر عام على تولي ماكرون السلطة حتى انطلقت إضرابات نقابات عمال السكك الحديد (أبريل 2018)، على أثر الإعلان عن خصخصة السكك الحديدية وتخفيض مزايا اجتماعية لموظفي السكك الحديدية.
راهن ماكرون منذ بداية حكمه على سياسة النفس الطويل، فلم يكن يكترث كثيرا بانخفاض شعبيته عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وكما كشفت عنه العديد من استطلاعات الرأي. ولطالما نعت ماكرون الفرنسيين بأنهم عُصاة على التغيير. من ناحية أخرى، أهمل ماكرون القضايا الداخلية بشكل ملحوظ لصالح تركيزه على السياسة الخارجية، وعلى المبادرات الخارجية. وغاب الحوار السياسي بين الحكومة والمواطنين، وتعمقت الفجوة بين الجانبين. ومع إلغاء ماكرون ضريبة الثروة على الأغنياء، بدأت الطبقات الوسطى ترى في ماكرون رئيسا للأغنياء مثله مثل هولاند.
وبشكل عام، ومنذ تولى ماكرون الرئاسة وحتى الآن، يمكن التمييز بين نوعين العوامل التي وقفت وراء ظهور حركة "السترات الصفراء".
المجموعة الأولى، هي ما يوصف بالعوامل الثانوية، تشمل الأسباب التي استندت إليها الاحتجاجات، والتي ظهرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، شملت ضريبة الوقود، خاصة الضريبة على الديزل، والتي تأتي في الترتيب الثالث بعد بريطانيا وإيطاليا[1]. فضلا عن أن الديزل وحده يمثل 80% من استهلاك الوقود في فرنسا. وقد استهدفت السياسات الحكومية رفع الضريبة بمعدل 6.5 سنت سنويا على مدار عامي 2020، 2021.
المجموعة الثانية، هي ما توصف بالأسباب الجوهرية، التي تعد بمثابة المحرك الحقيقي للاحتجاجات الراهنة، والتي جاءت قبيل تطبيق ماكرون لأولى عناصر أجندته الإصلاحية، وفي مقدمتها الإصلاحات الضريبية. فقد ألغى ماكرون ضريبة الثروة[2]، على اعتبار أن هذه الضريبة أسهمت في تقليص الاستثمار في فرنسا، وكبدت الموازنة الفرنسية خسائر تصل إلى 30 مليار يورو، ومن شأن إلغائها -وفقا لرؤية الحكومة- جذب المزيد من الاستثمارات مرة أخرى. لكن على النقيض، رأت الطبقتان الوسطى والفقيرة أن إلغاء هذه الضريبة يُعد بمثابة "هدية" للأغنياء. ووفقا لرؤية هؤلاء، فإن إلغاء هذه الضريبة، والضريبة الثابتة على دخل رأس المال، سوف يترتب عليه أن نصيب أغنى 1٪ من الطبقة العليا من الدخل سوف يزيد بنسبة 6٪ في عام 2019. كما سترتفع أيضا قدرتهم الشرائية، مقابل تدنى المستوى المعيشي وانخفاض القدرة الشرائية لدى الطبقات الوسطى والفقيرة بسبب تطبيق ضريبة المحروقات، ما سيؤدي في النهاية إلى نمو فجوة هائلة بين الطبقات.
في سياق مكمل، دخلت حكومة ماكرون في أزمة سياسية بسبب إدانة ألكسندر بينالا -وهو ضابط أمن شخصي في فريق ماكرون- بالاعتداء على المتظاهرين في مايو 2017، والتي كشفت عن تعامل الحكومة الفرنسية بدرجة كبيرة من التعالي على المواطنين -وفق وصف وزير الداخلية السابق جيرار كولومب. تبع فضيحة بينالا استقالة وزير البيئة الاشتراكي نيكولاس هولو، ثم استقالة وزير الداخلية جيرار كولومب، وهو أحد مؤيدي الرئيسماكرون، والذي ربطته علاقة ثقة قوية بالرئيس ماكرون[3]، والذي وصف الرئيس ماكرون بأنه يفتقر إلى التواضع. كل هذه الأزمات كانت -في بعض أوجهها- إما عاملا في تطور فجوة بين حكومة ماكرون والمواطنين، أو كاشفة -من ناحية أخرى- عن وجود هذه الفجوة أو وجود أزمة داخل النخبة الحاكمة.
أضف إلى ذلك، فقد كشفت المناقشات حول قانون التمويل لعام 2019 أن أكثر من 500 مليون يورو من ضريبة الوقود لن تذهب إلى التحول الإيكولوجي، ولكن لتغطية العجز في ميزانية عام 2019 نتيجة إلغاء ضريبة الثروة.
التداعيات والسيناريوهات المحتملة
مع استحضار صورة مظاهرات الطلبة عام 1968، وحجم استجابة الدولة وخضوعها آنذاك لمطالب المحتجين، وفي ضوء استمرار الاحتجاجات الراهنة وتصاعد سقف المطالب الذي يرتفع يوما بعد يوم، فضلا عن انتقال موجة الاحتجاجات إلى دول أوروبية أخرى، نطرح فيما يلي التداعيات المحتملة لموجة الاضطرابات الفرنسية.
1- على المستوى الداخلي
قبل تحديد التداعيات المحتملة لموجة الاحتجاجات الراهنة، تجدر الإشارة إلى التكاليف المادية والبشرية لهذه الاحتجاجات، فضلا عن التكلفة المعنوية المتمثلة في اهتزاز النموذج الفرنسي داخل أوروبا. فإلى جانب مئات المصابين من الشرطة والمحتجين وحالتي الوفاة، ثمة تكاليف اقتصادية لأعمال التخريب، وقطع الطرق، وتوقف العمل في منشأت عدة. ووفق بعض التقديرات، تراوحت قيمة الخسائر الأولية لتظاهرات السبت 4 ديسمبر بين 3 إلى 4 ملايين يورو في محيط باريس فقط. وبجانب هذه الخسائر والتكاليف الاقتصادية والبشرية، يمكن طرح التداعيات التالية:
أ- تأجيل خطط ماكرون: استجابة لضغوط الاحتجاجات، ونتيجة لقلة الخبرة السياسية لفريق عمل ماكرون، وارتفاع موجة العنف والعنف المتبادل بين المحتجين والدولة، وتوقع وقوع خسائر ضخمة تراجعت الحكومة الفرنسية عن رفع أسعار الوقود لعام 2019 فقط. وفي ظل عدم وضوح الخطة البديلة لتوفير الموارد المالية اللازمة للحكومة، من المتوقع أن يعاني تطبيق الموازنة من ضغوط مالية شديدة. أضف إلى ذلك فإن تأجيل تنفيذ هذه القرارات سينال من خطة التحول الإيكولوجي.
ب- تراجع هيبة الدولة في مواجهة نمو الشعبويين: فرغم أن الشعبويين بتياراتهم المختلفة لم يكونوا دعاة للاحتجاجات أو من بين قياداتها، لكنهم استغلوا هذه الاحتجاجات لرفع سقف المطالبات إلى حد أن "جان لوك ميلينشون"، رئيس حزب "فرنسا الأبية" اليساري المتشدد، و"مارين لوبان"، زعيمة اليمين المتطرف، طالبوا بحل البرلمان والدعوة لانتخابات مبكرة. وبعيدا عن احتمالات استجابة ماكرون لهذه المطالب أو إمكانية اللجوء إلى هذا البديل، فإن بعض المحتجين طالبوا بما هو أكثر من ذلك وهو استقالة ماكرون نفسه. في المقابل، بدا ماكرون متراجعا على غير المعتاد منه، ما يعنى تراجع الدولة في النهاية. لاشك أن نجاح هذه الاحتجاجات في اضطرار الدولة إلى التنازل في نهاية المطاف سيكون له تأثيراته ودلالاته بعيدة المدى في سياق تاريخ تطور الدولة الفرنسية.
ج- المخاوف الأمنية: تفاوتت أعداد المقاتلين الفرنسيين داخل صفوف داعش[4]، حيث تشير بعض التقديرات أن عدد الفرنسيين الأعضاء بالتنظيم بلغوا أكثر من 700 فرنسيا في عام 2015، فيما أوضحت تقديرات أخرى أن عددهم بلغ 1330 في عام 2017، بعد مقتل حوالى 119 منهم. وقد بلغ إجمالي عدد العائدين إلى فرنسا حوالى 302 مقاتلا. وبحسب تقديرات رسمية في عام 2018، بلغ عدد المقاتلين الفرنسيين داخل التنظيم 690 مقاتلاً، منهم 295 إمرأة (43%). وقد أوكل إلى عدد من الفرنسيين مهمات عمليات، منهم "رشيد قاسم"، الذي أُتهم بتنفيذ عمليات داخل الأراضي الفرنسية، منها مقتل شرطي وسيدة في 13 يونيو 2016 في مانيانفيل في إقليم إيفلين، وعملية ذبح كاهن داخل كنيسته في سانت إتيان في 26 يوليو/ تموز 2016. ومؤخرا نشرت صحيفة "الصن" The Sunالبريطانية[5] أن تظيم داعش أعطى أوامر لخلاياه في أوروبا باستغلال الاحتجاجات الفرنسية. وبحسب الإحصاءات السابقة، لا يمكن إنكار وجود بعض خلايا لداعش داخل فرنسا، يمكنها بالفعل استغلال هذه الاحتجاجات لتنفيذ بعض العمليات في إطار استراتيجية الذئاب المنفردة.
2- على المستوى الأوروبي
تأتي خطورة تداعيات موجة الاضطرابات الحالية في فرنسا على المستوى الأوروبي في ضوء موقع فرنسا داخل الاتحاد، فهي إحدى الدول المؤسسة للاتحاد، ولازالت تلعب دورا مهما -بجانب ألمانيا- في إدارة دفة الاتحاد، خاصة بعد خروج بريطانيا. كما لعبت دور "النموذج التنويري" الذى يُحتذى به داخل القارة الأوروبية. لاشك أن هذه الاحتجاجات، فضلا عن غموض مآلها النهائي سيؤثر بلا شك على الدور الفرنسي داخل الاتحاد، وعلى قوة وتماسك "النموذج التنويري" الفرنسي.
من ناحية أخرى، يظل هناك تأثير مهم لهذه الاحتجاجات على أوروبا، يتمثل في احتمال انتقالها إلى باقي دول القارة، وهناك مؤشرات عدة على ذلك، خاصة في بروكسل وامستردام وغيرها من المدن الأوروبية، رغم اختلاف الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وتزداد هذه الاحتمالات في ظل تنامي التيارات الشعبوية، وأزمة الاتحاد الأوروبي عقب خروج بريطانيا من الاتحاد، وما تعانيه ألمانيا من استقطاب سياسي ومستقبل غير معروف بعد رحيل ميركل.
ختاما، يمكن القول إن الاحتجاجات في فرنسا كشفت عن انكشاف نظام ماكرون، بدءا من الخبرة السياسية المحدودة لفريق التكنواقراط المعاون له. كما كشفت من ناحية أخرى عن ميول كامنة لاستخدام العنف من جانب الشارع الفرنسي. من ناحية ثالثة، فإن مستقبل هذه الاحتجاجات ومآلها الأخير سيظل عاملا مهما في مستقبل الاتحاد الأوروبي.
[3] حسان التليلي، "استقالة وزير الداخلية الفرنسي.. عطل جديد في البوصلة الماكرونية"، موقع مونت كارلو الدولية، 4 أكتوبر2018. متاح على الرابط التالي:
http://cutt.us/WzMLW
[4] "إرهابيو فرنسا وأمريكا في داعش؛ ما مصيرهم؟" Mena Media Monitor، 24 أكتوبر 2018. متاح على الرابط التالي :
http://cutt.us/M47zn
[5] "داعش يحرض الذئاب المنفردة للعب على وتر احتجاجات فرنسا"، سكاي نيوز عربية، 27 نوفمبر 2018. متاح على الرابط التالي:
http://cutt.us/sGm06