من باريس إلى باليرمو: صراع النفوذ الدولي في ليبيا
2018-11-17

د. زياد عقل
* خبير في علم الاجتماع السياسي بوحدة الدراسات المصرية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

انتهى مؤتمر باليرمو يوم الثلاثاء الماضي 13 نوفمبر (2018)، وهو المؤتمر الذي دعت له الحكومة الإيطالية، وحاولت خلاله حشد أكبر عدد ممكن من القوى الإقليمية والدولية، بالإضافة للفاعلين في الداخل الليبي للمشاركة في المؤتمر. المؤتمر كان حلقة جديدة في سلسلة من الفعاليات السياسية التي يتم تنظيمها من قبل المجتمع الدولي بشأن الأزمة الليبية. وشهد المؤتمر مشاركة مصرية من خلال حضور الرئيس عبد الفتاح السيسي، بالإضافة إلى وزير الخارجية سامح شكري. وكان للمؤتمر الكثير من الدلالات، سواء على مستوى الداخل الليبي، أو المشهد الإقليمي، أو فيما يتعلق بنمط التفاعل الدولي مع الأزمة.

ما قبل المؤتمر

من غير الممكن أن فهم مؤتمر باليرمو دون التطرق لتحليل ما جاء قبله من فعاليات في إطار محاولات التسوية السياسية للأزمة الليبية. مؤتمر باليرمو هو ثالث محاولات المجتمع الدولي لحل الأزمة الليبية؛ إذ سبقه اجتماع الصخيرات في المغرب في ديسمبر عام ٢٠١٥، ثم اجتماع باريس في مايو ٢٠١٨، عُقد بينهما عدد من الاجتماعات في القاهرة وأبو ظبي، لكنها لم تحظ بنفس الاهتمام الإعلامي الذي حظيت به المؤتمرات المقامة في أوروبا. والجدير بالذكر أن الملف الليبي أصبح إحدى ساحات الصراع بين القوى الإقليمية والدولية، خاصة داخل منظومة الاتحاد الأوروبي، وهو ما سنتناوله لاحقًا بقدر من التفصيل.

مؤتمر باليرمو لم يكن له أجندة محددة، كما أنه لم يخرج ببيان ختامي أو إعلان الضوابط المحددة التي أقرت بها الأطراف المتنازعة داخل ليبيا، لكنه كان بمثابة إعادة بناء للمواقف الدولية والإقليمية فيما يتعلق بالأزمة الليبية. مؤتمر باريس في مايو الماضي انتهى بإقرار عدد من الاتفاقات التي كان من المفترض أن تلتزم بها الأطراف المتنازعة داخل ليبيا، لكن الأشهر مرت دون أن تشهد أي تفعيل لما تم الاتفاق عليه، وتنوعت الأسباب والدوافع في هذا الشأن، لكن ظلت الحقيقة واحدة، وهي أن المجتمع الدولي غير قادر على إحداث تغيير ملموس في سياق الأزمة الليبية، ليظل المشهد السياسي في ليبيا خاضعًا لتوافقات الداخل الليبي، أكثر من توافقه مع ضغوط المجتمع الدولي.

صراع النفوذ في أوروبا

الاتحاد الأوروبي يعاني من غياب التنسيق بين الدول الأعضاء بشأن الملف الليبيي، الذي يتقاطع مع عدد من مصالح الدول في منطقة جنوب المتوسط وشمال أفريقيا. إيطاليا وفرنسا، على سبيل المثال، لهما العديد من التحالفات داخل ليبيا، ضمنت لهما الكثير من النفوذ، وكل منهما يتعامل مع مجموعة من الفاعلين الداخليين يرى أنهم الأقدر على رعاية مصالحه. إيطاليا مهتمة بالغرب الليبي، وهو المجال الذي تخرج منه النسب الأعلى من الهجرة غير الشرعية عبر سواحل طرابلس، ولذلك فإنها تتواصل بشكل دائم مع المجلس الرئاسي، والذي سمح لإيطليا بتواجد سفن حربية في المياه الإقليمية الليبية كي تتعامل مع المهاجرين غير الشرعيين، وهو ما أدى بالفعل إلى تقليل عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين وصلوا إلى السواحل الإيطالية خلال العامين 2017، 2018. على الجانب الآخر، الدوافع الفرنسية للعب دور في الأزمة الليبية تختلف كثيرا عن الدوافع الإيطالية. فرنسا في هذه المرحلة تسعى لتحقيق هدفين رئيسين من خلال ملف ليبيا، الأول هو ضمان نفوذ فرنسي في منطقة جنوب المتوسط وشمال أفريقيا، والثاني هو حماية المصالح الفرنسية المتعلقة بالاستثمار في اليورانيوم في النيجر، ولذلك نلاحظ أن فرنسا مهتمة بالجنوب الليبي أكثر من أي فاعل دولي آخر.

والجدير بالذكر أن الاتحاد الأوروبي يمر بحالة من التفكك، حيث بدأت عملية صناعة القرار بشأن القضايا الإقليمية تشهد الكثير من الخلاف. الاتحاد الأوروبي يعاني في اللحظة الراهنة من عدد من الإشكاليات التي تؤثر سلبا على جماعية عملية اتخاذ القرار. فبالإضافة إلى الخلاف على طبيعة الدور الأوروبي في جنوب المتوسط وشمال أفريقيا، هناك ملف البريكست. هذه الملفات جعلت عملية صناعة التوافق عملية صعبة ومعقدة. وبالتالي، بدأت الدول الأوروبية في التصرف بشكل فردي خارج إطار الاتحاد الأوروبي بسبب غياب سياسة واضحة ومحددة للاتحاد بشأن مناطق الصراع في جنوب المتوسط وشمال أفريقيا. هذا النهج خلق حالة من التخبط حيال الموقف الرسمي للاتحاد الأوروبي في المنطقة. ومع دخول فاعلين آخرين مثل روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، بات دور الاتحاد الأوروبي في حاجة لإعادة الصياغة. وهناك عدد من الإشارات التي تجزم بأن صراع النفوذ في أوروبا بدأ يتجلى على الساحة الليبية.

الموقف المصري

بعيدا عن نمط التفاعلات الدولية والخلافات الإقليمية بشأن الملف الليبي، لازالت مصر تتمسك بعدد من التوجهات بشأن هذا الملف (والذي يعد واحدا من أنجح ملفات السياسة الخارجية المصرية). التوجه الأول، هو ضرورة توحيد المؤسسة العسكرية الليبية، من خلال دمج أعضاء التنظيمات العسكرية الذين تلقوا تعليما عسكريا مهنيا، وكانوا أفرادا في القوات المسلحة الليبية، في الجيش الوطني الليبي، وهو توجه يدلل على إيمان مصر بضرورة إيجاد مؤسسة عسكرية موحدة، تقوم على قواعد المهنية والمواطنة، وهو ما لم يعرفه المجال السياسي وهيكل الدولة في ليبيا لسنوات طويلة. التوجه الثاني، الذي تتمسك به مصر، أن يكون مسار التسوية السياسية نابعا من الداخل الليبي، وليس مدفوعًا بضغوط خارجية يمارسها المجتمع الدولي. كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي في مؤتمر باليرمو كانت معبرة عن الموقف الذي تتمسك به مصر منذ بداية الانقسام الليبي في عام ٢٠١٤.

لكن تواجد مصر في فعاليات مؤتمر باليرمو، وحضورها الرسمي في لقاء على هامش المؤتمر مع المشير خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي، وهو الاجتماع الذي لم تدعى له تركيا، وانسحبت من المؤتمر ككل بسبب ما رأته من تهميش لدورها، هذا الحضور يدل على أن الدور المصري في الملف الليبي بات محوريًا على المستويين الإقليمي والدولي. وبات هناك وعي دولي أنه من غير الممكن تناول الملف الليبي دون اللجوء لمصر، فهي الدولة ذات النفوذ الأكبر في المنطقة، والفاعل الذي يتعامل مع كل الأطراف في الداخل الليبي. الرؤية المصرية بشأن ليبيا والانقسام السياسي بها تتمحور حول مكافحة الإرهاب، ورفض التقسيم أو التدخل الأجنبي، ورعاية الأمن الإقليمي وأمن الحدود في المنطقة، وهي أهداف نابعة أيضا من مصالح الأمن القومي المصري.

مستقبل التسوية السياسية

مؤتمر باليرمو كان بمثابة محاولة لإعادة بناء التحالفات الدولية بشأن الأزمة الليبية. لكن يظل السؤال الأهم: إلى أي مدى سيكون لهذا المؤتمر، ولهذا التحالف الدولي، تأثير على مسار الأزمة الليبية وعلى تفاعلات الداخل الليبي، حيث تعاني القوى الإقليمية والدولية المهتمة بالشأن الليبي من نمط متكرر، حيث يتصافح قادة المشهد السياسي في ليبيا في المؤتمرات الدولية ويعدون بإحداث تغييرات وفقًا لمخرجات اللقاء، ثم يعودون إلى ليبيا، لتذوب هذه الوعود في معترك المصالح السياسية. وبالتالي، يجب أن يدرك المجتمع الدولي نمط التفاعل السياسي في ليبيا. ليبيا ليست دولة مؤسسية، هناك أطراف تحظى بشرعية دولية في سياق الصراع، لكنها غير قادرة على القيام بعملية من التفاوض السياسي، حيث إن كل طرف لا يؤمن بشرعية الأطراف الأخرى. جهود المجتمع الدولي في المرحلة المقبلة يجب أن تنتبه لخلافات الداخل الليبي، حيث إنها تمثل الأبعاد المشكلة للصراع. ولكن مؤتمر باليرمو كان يهدف بالأساس إلى إعادة توازنات القوى الإقليمية فيما يتعلق بالأزمة الليبية.

قضية التسوية السياسية في ليبيا مرتبطة بطبيعة صراعات الداخل الليبي، أكثر من ارتباطها بتوافقات المجتمع الدولي حول فرض النفوذ في ليبيا. الوضع في ليبيا في الوقت الحالي يفتقر لآلية قادرة على خلق حالة من التواصل بين القوى السياسية. تلك الآلية لا يمكن خلقها من خلال جهود المجتمع الدولي، ولكن لابد من الربط بين الداخل الليبي والإرادة السياسية للدول المتابعة للملف، كي تخلق واقعًا سياسيًا أكثر مرونة. مستقبل التسوية السياسية في ليبيا يقبع بين محاولات التقارب في الداخل الليبي بين الأطراف المتصارعة، وبين اتفاقات المجتمع الدولي حول النهج الذي سيتبع. 


رابط دائم: