دعت الولايات المتحدة في 31 أكتوبر الماضي (2018) إلى إنهاء الحرب في اليمن وعودة أطراف النزاع إلى طاولة المفاوضات في غضون شهر، وذلك في وقت تتسارع فيه وتيرة تقدم قوات الشرعية اليمنية على أغلب الجبهات المؤدية إلى العاصمة صنعاء والمحيطة بها، بدعم من التحالف العربي. واكب ذلك تغيرات في الحكومة اليمنية، كان أبرزها تعيين وزير للدفاع ورئيس للأركان، في مشهد إجمالي ينعطف نحو تحولات نوعية يتوقع ظهور آثارها في المستقبل القريب.
أولا: متغيرات رئيسية
طرأت على المشهد اليمني خلال الأسابيع القليلة الأخيرة عدة تطورات استراتيجية، سياسية وميدانية، تشكل عامل دفع نحو تحولات رئيسية تقود إلى فصل جديد. ويمكن رصد متغيرين رئيسين في ظل هذه التطورات.
المتغير الأول: دعوات وقف الحرب واستئناف المفاوضات
هذه الدعوات تبدو مختلفة عن سابقتها على أكثر من مستوى. فقد صدرت هذه الدعوات أولا عن الولايات المتحدة لكنها شهدت تضامنًا دوليًا من أطراف وقوى دولية أخرى. كذلك اتسمت هذه الدعوات بأنها حملت طابع التحذير والإلزام، ثم اقترنت بحركة دبلوماسية، سواء من الأطراف التقليديين كالمبعوث الأممى إلى اليمن مارتن جريفث، أو أطراف وافدة كالمبعوث الخاص بيتر سيمباي، فضلا عن السقف الزمنى المحدد بمدة شهر للعودة إلى طاولة التفاوض وإيقاف الحرب.
وجاء طرح الدعوة بشكل متزامن من جانب وزيري الدفاع والخارجية الأمريكيين جيمس ماتيس ومايك بوميو، في تصريحات متواترة ومكررة توحي بأن هناك عزمًا أمريكيًا على التحرك وفقًا لخطة تم الإعداد المشترك لها على المستويين العسكري والدبلوماسي. إلى جانب ذلك بدا إيقاع القوى الدولية منسجمًا مع الطرح الأمريكي، ويشكل جبهة دعم، إذ توالت دعوات مماثلة من جانب وزير الخارجية البريطاني جيرمي هينت، ووزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي، وإن كانت تلك الدعوات ركزت على الأبعاد المختلفة لتبرير أهمية وضع حد للحرب إلا أنها عكست في المجمل وحدة الهدف.
أيضًا هيأت تلك الرسائل لتحريك المسارات التفاوضية، فقد أعقب الإعلان عن الموقف الأمريكي تحرك دبلوماسي من جانب السويد التي أعلنت استعدادها لاستقبال جولة جديدة من المفاوضات، وتم إيفاد المبعوث الخاص بيتر سيمباي إلى عدن في 7 نوفمبر للقاء رئيس الوزراء اليمني يرافقة هانس جراند بيرغ مسئول قسم الخليج في وزارة الخارجية السويدية، في مؤشر على تحرك السويد للوقوف على ما تم من جولات تفاوض سابقة واستطلاع مواقف الأطراف، خاصة التحالف إلى جانب الكويت التي شهدت الجولة الأهم في عام 2016 قبل أن تتجمد المفاوضات ثم تنهار بفعل التطورات اللاحقة، والتي كان أبزرها اغتيال الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح في ديسمبر 2017 بعد عام تقريبا من توقف المفاوضات.
المتغير الثاني: التطورات الميدانية والحكومية
أطلقت الحكومة الشرعية اليمنية، بدعم من التحالف العربي، عملية عسكرية شاملة تشير إلى إعادة هيكلة خطة التحرك العسكري بشكل أكثر انضباطا، وهو ما ظهر في مؤشرين. أولهما، اصطفاف كافة القوى العسكرية الوطنية الموالية للشرعية من الجيش الوطني، وقوات العمالقة، وحراس الجمهورية. ثانيهما، الدفع بتلك القوات بشكل متزامن على كافة الجبهات بعد إعدادها وتجهيزها عسكريا على 6 جبهات تقريبا؛ فبالإضافة إلى الجبهات الرئيسية في الحديدة وصعدة -مسقط رأس الحركة الحوثية– تم التحرك على جبهات تعز والضالع وحجة والبيضاء، ثم تركيز هذه التحركات في العمق. ففي الحديدة، على سبيل المثال لا الحصر، لم يتوقف التحرك على الوصول إلى الميناء وإنما هناك تحرك من أربع مداخل تقريبا، فيما تُرك محور شمالي لانسحاب القوات المعادية منه باتجاه صنعاء.
وتوازت تلك التحركات مع متغيرات على صعيد الحكومة الشرعية، حيث أصدر الرئيس اليمني قرارًا بتعيين كل من الفريق محمد المقدشي وزيرا للدفاع، والفريق عبد الله سالم النخعي رئيسًا للأركان. وفي حين يبدو أن تعيين المقدسي يُعد تثبيتا له في موقعه، حيث كان وزيرًا بالإنابة ومستشارًا عسكريا للقائد الأعلى للقوات المسلحة في ظل شغور المنصب رسميا على خلفية اعتقال الحركة الحوثية لوزير الدفاع السابق محمود الصبيحي، لكن القرار يأتي كرسالة سياسية أيضًا يتعلق جانب منها بالتصور المستقبلي في المرحلة الانتقالية المقبلة.
ثانيا: دلالات مهمة
فيما يتعلق بالمتغير الدولي، يبدو أن هناك رغبة دولية في إنهاء الحرب المتفاقمة في اليمن لأسباب تتعلق ربما بطول أمدها، وما يخلفه ذلك من تداعيات متعددة الأبعاد على الصعيدين المحلي والإقليمي. وفي هذا السياق، لا يبدو أن طرح ماتيس مختلف كثير على مستوى المضمون عن ما سبق أن طرحه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون كيري في آخر زيارة دبلوماسية له إلى سلطنة عمان بعد فشل مفاوضات الكويت في نهاية عام 2016. وبالتالى فإن الدعوة الأخيرة لإنهاء الحرب تبدو تقريبا نسخة مطورة للدعوات السابقة، تختلف فقط في الشق الإجرائي فيما يتعلق بالسقف الزمني وتشكيل آلية دولية ضاغطة متعددة الأطراف لإنهاء الحرب، فخطة كيري كانت تتضمن تسليم الحركة الحوثية للأسلحة الثقيلة لطرف ثالث، فيما يشير وزير الدفاع إلى رقابة دولية. كذلك طرح كيري فترة انتقالية لمدة عامين يعقبها انتخابات عامة، بينما يبدو أن ماتيس يحيل هذا التطور للمستوى الدبلوماسي في ظل مسار التفاوض.
أما على صعيد التغيرات على جبهة التحالف والشرعية والتى ظهرت انعكاساتها ميدانيا في التحرك العسكري الشامل للمرة الأولى منذ إطلاق عملية عاصفة الحزم في مارس 2015، فهناك عدة دلالات، منها على سبيل المثال:
- استثمار عامل الوقت؛فهناك فترة انتقالية محددة ومحدودة زمنيًا تضمنتها الدعوة الأمريكية حتى إطلاق المفاوضات، خاصة أن حديث ماتيس أوضح أن وقف إطلاق النار يجب أن يتم على قاعدة "انسحاب الحوثيين" من الحدود مع السعودية، يتم بعدها وقف إطلاق النار من جانب التحالف. ولم تعلن الحركة الحوثية عن وقف إطلاق الصواريخ كمدخل للتعاطي مع المبادرة، بل على العكس أعلنت رفضها لها بزعم أنها "ضد السيادة الوطنية".
- تغير موازين القوى؛وهو ما يهدف إليه التحالف من التحركات العسكرية الشاملة بهدف التأثير لاحقًا على التسوية المقبلة؛ فدفع القوات العسكرية على مختلف الجبهات يعمل على استنزاف الجبهة الحوثية المعادية، بدلا من التركيز على جبهة واحدة يمكن للحركة الحوثية الصمود بحشد طاقتها على تلك الجبهة، كما يتح لها هامش حركة في اتجاه هجوم مضاد. بمعنى آخر، فإن التحرك الشامل لقوات التحالف يسهم في تشتت الحركة الحوثية عسكريا وتعرضها لحالة من الشلل التام.
- رسائل استباقية؛ لاشكأنالتعيينات العسكرية الجديدة من جانب هادي منصور تعطي رسائل سياسية أيضا، إلى جانب طابعها العسكري، منها عدم إسقاط خيار الحرب رغم إعلان موقف القبول بالتسوية، لكنه لا يعني إسقاط خيار الردع في حال ما لم تلتزم الحركة الحوثية بخيار التفاوض وتتقاعس عن تلبية الالتزامات التى ستترب عليه خاصة في الشق العسكري الذى يفترض ابتداءً أن يكون هناك جيش وطني له هيكل قيادي واضح الملامح.
ثالثا: خيارات محدودة
من المتصور أن كل طرف من الأطراف أمامه خيارات محدودة في التعامل مع المتغيرات الطارئة على المشهد. بالنسبة للحكومة الشرعية يظل عامل الوقت في صالحها هي والتحالف لكن بشكل مؤقت، ما يفرض عليهما ضرورة حسم القدر الأكبر من المواقع الاستراتيجية في غضون أربعة أسابيع تقريبا. وفي حين أن محصلة الأسبوع الأول تشير إلى إحراز تقدم على كافة الاتجاهات، وقطع الطريق على التفاف المليشيات الحوثية مرة أخرى في المناطق التي يتم تطهيرها من هذه الميليشيات، لكن يُخشى من تحدٍ آخر هو تحول فلول هذه المليشيات إلى حرب شوارع، وهو ما تعمل عليه من خلال الدفع بعناصر القناصة التابعة لها. وفي حين أن هناك، على ما يبدو، اشتراطًا دوليًا للتحرك الأخير الخاص بالتحالف يتعلق بضرورة الحفاظ على البنية التحتية للبلاد والحفاظ على المدنيين، فإن المليشيات الحوثية تحاول تشكيل جبهة ضغط دولي في مسار معاكس، من خلال محاولتها رفع تكلفة تقدم قوات التحالف من خلال العمل على الإيقاع بأكبر عدد ممكن من المدنيين لدعم هذا التوجه تكتيكيا. كذلك قد تلجأ المليشيات إلى تفخيخ مواقع استرايتجية مثل ميناء الحديدة أو ميناء رأس عيسى النفطي قبل الانسحاب منه أو على الأقل تخريب البنية التحتية في تلك المواقع.
في المقابل، وفي ظل تحول موازين القوى الراهنة، تواجه الحركة الحوثية خيارات محدودة ميدانيا في إطار الانهيار المتوالي والسريع لمليشياتها على الجبهات، وفقدانها نقاط استرايتجية، وقدراتها النوعية خاصة مع استهداف قواعد الصواريخ التي نشرتها في العديد من الجبهات، واستهداف المخزون الاستراتيجي من السلاح على النحو الذى حدث في الحديدة وصعدة. كذلك فيما يتعلق بمسار المفاوضات يبدو أن خيارات الحركة تقلصت عن ذى قبل، حيث تنتهج سياسية المماطلة والعرقلة إما بالتأخر عن المواعيد أو عدم المشاركة من الأساس وفرض شروط مسبقة. وفي ظل المؤشرات الميدانية والضغط الدولي سيكون من الصعب على الحركة استخدام نفس النهج، إلى جانب تقلص فرص فرض الاشتراطات أو الحصول على مكاسب أكبر بسبب تقلص مساحات الهيمنة والنفوذ، خاصة أنها تدرك أن بقاءها في صنعاء فقط لن يشكل لها مكسبًا استراتيجيا، إذ إن خسارتها جبهات الطوق يعني عمليا خسارتها تلك الورقة بل سيفرض عليها تداعيات أشد وطأة مع خسارتها منفذ الحديدة، ومن ثم ستشكل لها المفاوضات عمليا طوق نجاه.
رابعًا: سيناريو التسوية
إجرائيًا؛ هناك فترة زمنية مطروحة دوليا لبدء المفاوضات حددها وزير الخارجية الأمريكي في 30 يوما، ما يعني أن هناك مهلة حتى نهاية شهر نوفمبر الجاري (2018). الأمر الآخر يتعلق بالموقف الخاص بالمرجعيات الثلاث (المبادرة الخليجية، القرار الأممي 2216، مخرجات الحوار الوطني) في المفاوضات المقبلة، فمن المتصور أنها ستحتل أولوية لكن يحتمل ورود متغيرات فيما يتعلق بالتفاصيل وليس الإطار العام؛ فالمرجعيات الثلاث لا تقصي الحركة الحوثية من المشهد السياسي، بل على العكس يمكن إعادة إدماجها فيه مجددًا. لكن ما قد يهدد هذا السياق هو تفرع بعض التوجهات مثل إقحام صيغة إقليم حكم ذاتي أو شبه ذاتي، وإن كان الواقع العملي يتجاوز ذلك خاصة وأنه وفقا للتصريحات متتالية للمبعوث الأممى مارتن جريفث فإنه لن يبدأ من نقطة الصفر في المفاوضات، وإنما سيكمل البناء على سابقة إسماعيل ولد الشيخ.
بالإضافة إلى ذلك، هناك بعض الإشكاليات الهامشية، منها ما يتعلق بالمستوى الهيكلي للوفود؛ فهناك طرف لا يزال وضعه ضبابي وهو الفريق الخاص بمجموعة المؤتمر الشعبي العام الذى تمزق في رحلة الحرب.
إجمالا، يمكن القول إن المشهد اليمني يتجه إلى تحول نوعي بناء على متغيرات مرحلية قد تقود المشهد إلى مرحلة انتقالية جديدة تجاه خيارى الحرب والتسوية، وإن كان رغم كل تلك المتغيرات يصعب التكهن حتى الآن بأن أحدهما قد تم حسمه قطعيًا؛ فالدعوات الدولية لوقف الحرب لا تزال رهن إرادات قوى على الأرض، وإذا كان ميزان القوى يميل لصالح التحالف والشرعية، لكن لا تزال الحركة الحوثية لديها القدرة على استدراج الأزمة إلى مربع آخر في مسار الحرب، وهو أحد السيناريوهات المحتملة الذي يحتاج إلى سيناريو مقابل من جانب القوى الدولية الضاغطة لإنهاء الحرب.