معضلة الحسم العسكري وفرص التسوية في الحديدة
2018-8-5

د. معتز سلامة
* خبير - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

هل تحولت الحديدة لتصبح جبهة الحرب الأساسية في اليمن؟ وهل تبقى معركة الحديدة لفترة طويلة بلا حسم عسكري؟ على خلاف ما بدا عليه الحال عند انطلاق عملية "النصر الذهبي" في يونيو 2018.

يستند طرح هذا التساؤل إلى طول الفترة الزمنية التي استغرقتها معارك الساحل الغربي بأكثر مما كان متوقعا، وتأخر الحسم العسكري، مع اتجاه جزء معتبر من المجهود الحربي للتحالف وقوات الشرعية والحوثيين إلى جبهة الغرب على البحر الأحمر، وتمترس أطراف الصراع عند مواقفهم الأصلية، وتدخل الأمم المتحدة بمبادرة ليس لتسوية الصراع الكلي، وإنما لفض الاشتباك في الحديدة. كما يدعو لهذا التساؤل أيضا، ما صدر عن المبعوث الأممي لليمن مارتن جريفيث فيإفادته أمام الأمم المتحدة مؤخرا، والذي أكد أن وتيرة الحرب تصاعدت، ولاحظ أن "التركيز في الحرب يجري على معركة الحديدة". ونقل جريفيث عن عسكريين أن "الحديدة صارت مركز ثقل الحرب، والبحر الأحمر بات الآن مسرح حرب".

ورفع من خطورة المعارك مؤخرا إقدام الحوثيين في يوليو 2018 على تهديد الملاحة في البحر الأحمر بعد مهاجمة سفينتين سعوديتين بالمياه الدولية غرب ميناء الحديدة، ما استتبعه إعلان المملكة تعليق مرور شحنات النفط عبر باب المندب. ويجري ذلك في الوقت الذي تستمر فيه هجمات الحوثيين بالصواريخ على عمق الجنوب السعودي، بجانب المواجهات في صعدة، وهو ما يشير إلى أن معارك الحديدة هي جزء من معارك أكبر، وأن هناك تداخلا معقدا بين جبهات الصراع اليمني.

مبادرة "جريفيث"

على الرغم من جهود المبعوث الأممي إلى اليمن مارتن جريفيث، إلا أن معركة الحديدة لا تزال محكومة بالمعادلات الكبرى التي فرضت نفسها منذ اليوم الأول للأزمة اليمنية، وهي الخاصة بالتكاليف العالية لكل بديل، وبعدم قدرة أي من أطرافها على تحقيق نصر أو اختراق عسكري حاسم. ولا يبدو أن مبادرة جريفيث قابلة لتحقيق التسوية حتى الآن؛ ذلك أنه إذا كانت قرارات الأمم المتحدة قد انتصرت للموقف السياسي للتحالف وعارضت تحالف الحوثي - صالح منذ بداية الأزمة، فإن المبادرة تنتهي إلى موقف مختلف من جانب المنظمة الدولية، التي تتعامل الآن من منظور الندية الكاملة بين الحوثي والشرعية على خلاف الموقف الأول للمنظمة.

لقد انطوت مبادرة المبعوث الأممي على 17 بندا، 7 بنود منها تتعلق بدور الأمم المتحدة وموظفيها ومسئوليها؛ فتنص على أن تقوم الأمم المتحدة بدور "قيادي" في عمليات تشغيل موانئ الحديدة وصليف ورأس عيسى، وأن يتم نشر مفتشين من بعثة الأمم المتحدة للتحقق والتفتيش في هذه الموانئ. كما تنص على أن تقوم المنظمة الدولية بنشر مستشارين مدنيين لتقديم الدعم الفني للمجلس المحلي لمدينة الحديدة وغيرها من المؤسسات المحلية للدولة، وعلى أن توفّر الأمم المتحدة التدريب وبناء القدرات اللازم لهذه المؤسسات. وتضمنت بنود المبادرة (من البند 13 وحتى البند 15) النص على أن تقوم الأمم المتحدة بنشر مستشارين شرطيين تابعين لها، وأن تقوم بالدور المناسب فيما يتعلق بذلك بناء على اقتراحات يقدّمها المبعوث الخاص للأطراف، وأن توفّر الضمانات اللازمة للأطراف لتسهيل تنفيذ الاتفاق.

وهكذا، تكرس مبادرة جريفيث وضعية المنظمة الأممية في تسوية الصراع اليمني على نحو يسترجع بعض أدوار المنظمة في مناطق الصراعات الكبرى، وهو ما يوحي بقدر من الحيادية بين أطرافه. لكن إذا كان ذلك ميزة مهمة في هذه المبادرة، إلا أن مضمونها الفعلي يتناقض كثيرا مع شكلها الحيادي، حيث إنها لم تفض إشكالية الخلاف بين الشرعية المعترف بها من الأمم المتحدة في قراراتها السابقة، وبين جماعة الحوثي التي استولت على السلطة بشكل غير شرعي.

وعلاوة على ذلك، فإن المبادرة أولت أهمية لدور الأجهزة والعناصر المحلية، فأكدت على دور موظفي الخدمة المحلية في الحديدة المعينين قبل سبتمبر 2014 (البند الثاني)، ما يعني عدم اعترافها بالأوضاع المؤسسية للحوثيين في المدينة. كما أكدت على أن "تقتصر المسئوليات الأمنية في الموانئ على قوات الأمن المحلية المصرّح لها فقط، على أن تنسحب كافة القوى الأخرى من الموانئ (البند الرابع)، ما يصب في مصلحة التحالف. وفي البند السابع تنص المبادرة على أن "تقع مسئولية إدارة مدينة الحديدة على عاتق المسئولين المنتخبين المحليين وموظفي الخدمة المدنية وفقاً للقوانين واللوائح اليمنية ذات الصلة". وأفردت المبادرة أربعة بنود أخرى للحديث عن مؤسسات الدولة المحلية ودور الشرطة المحلية (البنود 8، 9، 10، 13)، ما يعني تبني المبعوث الدولي رؤية وفلسفة تسعى إلى تأجيل الصراع الراهن والقفز عليه، بإخراج مسألة حسم السيطرة على الأرض من سلطة أي من أطراف الصراع السياسي والعسكري، ووضعه في يد مفتشي الأمم المتحدة والمسئولين المحليين. ومن ثم يعيب المبادرة هنا أنها تفترض استمرار بقاء الأوضاع والولاءات على ما هي عليه منذ العام 2014 وحتى الآن، حيث إنها تفترض في هذه المؤسسات المحلية تمتعها بدرجة الأهلية والاحترافية والصلاحية اللازمة للقيام بواجباتها وعدم تأثرها بفترة السنوات الأربع الماضية التي انحاز فيها أغلبها لطرف من أطراف الصراع على نحو أثر على ولاءاتهم السياسية.  

ويبقى أن أهم ما أوردته المبادرة هو نصها في البند الخامس على أن "تُحوّل جميع إيرادات الموانئ إلى البنك المركزي اليمني من خلال فروعه الموجودة في الحديدة للمساهمة في دفع الرواتب"، وإذا كانت هذه نقطة جوهرية في الصراع القائم، فإنها أضافت قدرا من الغموض، حيث إنه بينما ينص المقترح الأممي على أن الإيرادات يجب أن تذهب لفروع البنك المركزي الموجودة في الحديدة، فإن الحوثيين يريدون أن تذهب الواردات إلى فرع البنك المركزي في الحديدة ثم إلى صنعاء، بينما تريد السلطة الشرعية أن تذهب الإيرادات من الحديدة إلى مقر البنك المركزي في عدن.

وحملت دهاليز وبواطن التفاوض حول المبادرة مع الحوثيين والسلطة الشرعية اليمنية نقاط اختلاف جوهرية؛ فبينما اشترط الحوثيون بقاء عناصرهم في ميناء الحديدة، مع جعل الميناء تحت إشراف أممي وقالوا بأنهم يسمحون للأمم المتحدة بإدارة الميناء مع الإداريين فيه، فإنهم لم يتحدثوا عن انسحاب فعلي من الميناء أو لقواتهم، مكتفين بالتأكيد على أنهم لن يتدخلوا، في حين أكدت الشرعية على ضرورة الانسحاب الكامل للحوثيين من المدينة والميناء، وعلى وجوب انتشار قوات وزارة الداخلية في داخل الحديدة. وبينما ركز الحوثيون على فصل الميناء عن المدينة؛ والقبول بتسليم الميناء مع بقائهم فيه بجانب سيطرتهم على المدينة، أكدت الشرعية أنه من غير الممكن إدارة ميناء الحديدة وتأمينه بمعزل عن باقي المدينة.

سيناريوهات الحديدة

في ضوء ما سبق من تعقيدات المبادرة الدولية، وعراقيل الحسم العسكري، هناك ثلاثة سيناريوهات مطروحة لمعضلة الحديدة.

السيناريو الأول، هو بقاء الحديدة لفترة ساحة مركزية للصراع المسلح دون حسم من أي جانب بسبب التكافؤ النسبي بين الأطراف، ومن ثم قد تصبح الحديدة نسخة مصغرة من الحرب الكلية، التي تعثرت حتى الآن في تحقيق أهدافها السياسية والعسكرية، بحيث تستمر ضربات التحالف الجوية وتتعدد نقاط الاشتباك دون أن يتمكن أي طرف من السيطرة الكلية ميدانيا وعلى الأرض، وتبقى المبادرة الأممية تراوح مكانها بين التهدئة وتجدد الصراع. وهنا يمكن تصور تأجيل التسوية في الحديدة، وتذويب معضلة الحديدة في المبادرة الأكبر للتسوية الخاصة بمجمل الصراع؛ ذلك أن أي تسوية في الحديدة ستكون جزئية وربما مؤقتة، وستكون محكومة ببيئة الصراع وموازين القوى الكلية، ومن ثم يمكن أن تظل الحديدة كجبهة اختبار وأداة لقياس معادلات جبهات الصراع الأخرى، وذلك يعني أنها قد تكون نموذجا للتسوية، يجري تطبيقه على باقي الجبهات، أو ساحة للأطراف لإفراغ طاقتها بشدة، والسعي للانتهاء منها استعدادا لمعارك أخرى.

ويستند طرح هذا السيناريو إلى أنه مع بدء معركة "النصر الذهبي"، تفاجأت الأطراف بمعضلات جديدة لا سبيل لحلها سريعا، وتبنوا مواقف لا سبيل للعودة عنها، حيث من المرجح أن تبقى التعزيزات العسكرية في الحديدة على حالها من التعبئة والجهوزية لفترة، ما يقلص قدرة التحالف والشرعية والحوثيين على السواء على التقدم في الجبهات الأخرى.

هذا السيناريو له انعكاساته، فهو من ناحية يساعد على خنق الحوثيين والضغط عليهم ماليا واستمرار شدهم عسكريا ناحية الحديدة، ما يقلص قدرتهم على باقي الجبهات، لكنه قد يدفع إلى تحويل معارك الحديدة إلى رمزية للحرب وتشكل جبهة لمواصلة الاستنزاف والضغوط بين الأطراف، ومن ثم تتحول إلى ساحة للمواجهات العسكرية الشديدة مؤقتا وحتى يجري الاتفاق.

السيناريو الثاني، هو نجاح المبعوث الأممي في إحداث اختراق ينتهي إلى توافق بين الأطراف، يساعد على ذلك أنه بعد نحو ثلاث سنوات ونصف من الحرب والعمل العسكري لم يعد بالإمكان الرهان على تحقيق نصر سريع من جانب أي من أطرافها، حيث بات يعاني كل طرف من نقاط قصور جوهرية لا سبيل إلى علاجها بالشكل الذي يغير موازين القوى كليا. فعلى جانب قوات التحالف، وعلى الرغم من تحقيقها السيادة الجوية المطلقة، إلا أن هذه السيادة لا تعني الكثير فيما يتعلق بالواقع على الأرض، فضلا عن تكاليفها الإنسانية العالية. وعلى الرغم من تمكن قوات التحالف والشرعية من تحقيق انتصارات في معارك كثيرة وسيطرتها على 85% من مساحة اليمن، فإن المعارك الفاصلة على جبهات صنعاء والحديدة وصعدة لا تزال باقية. وعلى الرغم من القدرات الإضافية التي حازتها قوات التحالف مع تنامي دور قوات الشرعية والمقاومة والأحزمة الأمنية، فضلا عن قوات حراس الجمهورية وألوية العمالقة والألوية  التهامية، فإنه يبدو أن هذه القوات حسنت أوضاع التحالف وقوات الشرعية نسبيا لكنها لم تغير في المجريات الأشمل للصراع على النحو الذي يمكن معه إلحاق الهزيمة الشاملة بالحوثيين.

وبالمثل، فإن الحوثيين غير قادرين على تلافي أوجه الضعف العديدة التي يعانون منها، والمتمثلة بالأساس في عدم التكافؤ بينهم وبين قوات التحالف في مجال القدرات الجوية، ما يضطرهم إلى ضرب العمق السعودي بشكل عشوائي ليس إلا بهدف الانتقام أو الردع بطرق الحروب اللامتماثلة وغير التقليدية. وهناك الدوافع الخاصة بالأطراف لتسكين مواجهات الحديدة تحديدا، دون النقاط الساخنة على الجبهات الأخرى.

السيناريو الثالث، هو سعي أحد الأطراف إلى تغيير استراتيجيته في إدارة الصراع، أو أن يتحقق حسم سريع لأحد الأطراف في جبهة أخرى مركزية، على نحو يؤثر على معارك جبهة الحديدة؛ حيث يمكن تصور أن تقدم قوات التحالف والشرعية على تغيير استراتيجيتهم وتكتيكاتهم العسكرية استغلالا لتطور دراماتيكي سريع أو فرصة سانحة. وضمن هذا السياق، يمكن تصور إقدام قوات التحالف والشرعية على إيلاء الأولوية مجددا لإحداث اختراقات عسكرية في صنعاء، والاكتفاء عند محطة ما بالتزام الحوثيين بالامتناع عن تهديد الملاحة في باب المندب والبحر الأحمر، مع تسكين صراع الحديدة مؤقتا.

وبالمقابل أيضا، وضمن احتمالات التحول في التفكير الاستراتيجي والعسكري، يمكن تصور تحول التفكير الاستراتيجي للتحالف وقوات الشرعية إلى التركيز الشديد على تحقيق انتصار عسكري سريع في الحديدة، يكون مقدمة لانهيارات حوثية مفاجئة على مختلف الجبهات. وجزء من هذا السيناريو سوف يعتمد على قدرة التحالف وقوات الشرعية على كسب أنصار جدد إلى صفوفهم، خصوصا من المجتمعات المحلية والنخب المدنية والثقافية والتجارية والقبلية والسياسية في اليمن. وسوف يبقى هذا السيناريو هو السيناريو الأهم لتفكيك المعضلة اليمنية؛ خاصة أن التحالفات القبلية في اليمن لا تعرف الولاءات الدائمة. وإذا كان جزء من استراتيجية وتكتيك الحوثي يعتمد على التخويف بحروب عصابات وحروب المدن، فإن موقف الأهالي في هذه المدن سيظل هو "السر الكامن"، الذي يمكنه في أي لحظة أن يفك شيفرة الحرب، ويحدث انتكاسة مفاجئة على جبهة أحد أطرافها.


رابط دائم: