مسارات التوتر والصراع بين حاضر تركيا وماضيها لم تحسمها تطورات ما يناهز قرن خلا. غير أن تطورات الحياة السياسية التركية، بعد التحول للنظام الرئاسي في 24 يونيو 2018، وفوز الرئيس التركي بالانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى بنسبة 52.6 في المئة من الأصوات، يشير إلى أن قطاع من الشعب التركي لا يزال يستمزج التجربة الأردوغانية، التي باتت تعبر عن تزاوج تيارين رئيسيين لهما الهيمنة في اللحظة الراهنة، وهما تياري الإسلامي المحافظ، والقومي المتشدد، واللذان حصلا معا في الانتخابات البرلمانية عبر "تحالف الشعب"، المكون من العدالة والتنمية والحركة القومية، على نحو 53.62 بالمئة من الأصوات، فيما حصد "تحالف الأمة" الذي يضم أحزاب الشعب الجمهوري، والخير، والسعادة على 34.04 بالمئة.
الانتخابات الرئاسية تزامنت مع الانتخابات البرلمانية، وبينما قطعت تركيا صلتها بالنظام البرلماني، بمقتضى هذه الانتخابات وما سبقها من استفتاء دستوري، لتدخل البلاد مرحلة الرئاسة التنفيذية، فإنها على جانب آخر انتقلت إلى مستوى الجمهوريات السلطوية، التي يسيطر فيها الرئيس على كافة مقاليد الحكم، وفق صلاحيات شبه مطلقة، لا تعظم وحسب من أدواره، وإنما تجعل مدد حكمه شبه مفتوحة.
محركات المشهد التركي
يصعب حصر أسباب تصاعد الشعبية الأردوغانية وتراجع الكمالية، وفق نتائج الانتخابات التركية الأخيرة، في أن الأولى قدمت نفسها بديلا عن الثانية، ولكنها سعت إلى أن تعبر عن بعض نواقصها ظاهريًا، وإن استهدفت في جوهرها تشكيل بديل حقيقي لها. كما أن البعد الشعبوي في السياسة التركية على الصعيدين المحلي والخارجي أضطلع بأدوار رئيسة في اكتساب زخم وحضور جماهيري، سيما في ظل محاولات الاستفادة شعبيًا من توظيف القوة العسكرية على مسارح عمليات مجاورة. ولا ينفصل ذلك عن محاولة الاستخدام السياسي لعدد من المشروعات النوعية مثل مطار إسطنبول الجديد، وإنتاج سيارة وطنية، ومشروع شق قناة إسطنبول (وصل بحر مرمرة بالبحر الأسود في مسار مواز لمضيق البوسفور).
يتصل ذلك بمحاولات تعزيز صورة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بحسبانه السياسي المخضرم الذي خاض تحديات عديدة خلال مسيرته التي استمرت لمدة 16 عاما فاز خلالها بـ 13 من الانتخابات والاستفتاءات، ربما أثبتت أن أردوغان يجيد تطبيق استراتيجيات إدارة الصراعات الانتخابية، وتكتيكات "تصفية الخصوم". فقد استطاع عبر ضغوط مختلفة إبعاد العديد من الشخصيات التي بدا امتلاكها لطموح سياسي. برز ذلك مؤخرا من خلال "الإبعاد الناعم" والقسري للرئيس التركي السابق، عبد الله جول، من خوض الانتخابات الرئاسية.
هذا بالإضافة إلى إقدام أردوغان على تدشين تحالف مع التيار القومي المتشدد لخوض الانتخابات البرلمانية، والاستفادة من دعمه للفوز بالانتخابات الرئاسية، من دون الحاجة لخوض جولة إعادة. وربما يكون العدالة والتنمية والرئيس التركي أول المستفيدين من المفاجأة التي حققها حزب "الحركة القومية" الذي حصل على نحو 11.1 في المئة من الأصوات بواقع 48 مقعدًا، بما يمثل ضعف النسبة التي مُنحت له بواسطة استطلاعات الرأي. وقد يزيد ذلك من أهمية التحالف بين "العدالة والتنمية" و"الحركة القومية"، في المرحلة التالية، بحسبانه يعني سيطرة قوى اليمين السياسي على السلطة التشريعية. ذلك أنه رغم تراجع نسبة تأييد حزب العدالة والتنمية بنحو 7 في المائة عن الانتخابات البرلمانية السابقة، فقد استطاع "التحالف الشعبي" (العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية) تأمين 53.7 في المئة من إجمالي الأصوات، ومن ثم ضمان السيطرة على 343 مقعدًا (295 مقعد للعدالة والتنمية، 48 مقعدا للحركة القومية)، بينما حصل "تحالف الأمة" على نحو 34 في المئة من الأصوات بواقع 190 مقعدًا. هذا يعني، على جانب آخر، أن "العدالة والتنمية" أصبح مضطرًا إلى الاستمرار في استمالة القوميين، بما قد يضطره إلى تقديم تنازلات مهمة، ليس على صعيد المناصب الحكومية وحسب، وإنما أيضًا على مستوى السياسات، وبما يشير إلى أنه لن تكون هناك أي مراجعة للسياسات التركية تجاه القوى الكردية، محليًا أو إقليميًا.
وربما يعكس ذلك، بصورة أو بأخرى، تصاعد المد القومي على الصعيدين الشعبي والسياسي، بما يجسده من تزايد حضور التيارات القومية في تركيا، ذلك أن أحزاب العدالة والتنمية، والحركة القومية، والخير، كلها أحزاب قومية، وكذلك حزب الشعب الجمهوري، بدرجة ما. وبالتالي، تبقى التيارات القومية واحدة من أكثر القوى ديناميكية في الحياة السياسة التركية. ولطالما كانت الانقسامات العرقية، والطائفية، والهوياتية مصدر ديناميكية مهمة في الانتخابات التركية، ففيما كان حزب الشعب الجمهوري يهيمن على الأصوات العلوية - وإلى حد ما حزب الشعوب الديمقراطي - في آخر انتخابين، فقد تم تقاسم الأصوات الكردية في الغالب بين حزبي "الشعوب الديمقراطي" و"العدالة والتنمية" في الانتخابات الأخيرة. هذا بينما واجهت بقية الأحزاب الأخرى صعوبة في مغازلة الصوت الكردي.
وتقليديا، ينقسم القوميون المحافظون بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، في حين يدعم القوميون العلمانيون والكماليون حزب الشعب الجمهوري. وفي هذه الانتخابات، يجب أن يؤخذ في الاعتبار تأثير "الوافد السياسي" الجديد –المتمثل بالأساس في حزب الخير- في "المعادلة القومية" التي لن تقف حدود تأثيرها على الساحة المحلية، وإنما بالتأكيد ستنعكس ارتدادات تبدلاتها على تحركات تركيا الخارجية.
حكم أردوغان والسلطوية التركية
بإعلان نتائج الانتخابات دخلت تركيا حقبة مغايرة قضت بنهاية ديمقراطية برلمانية عمرها قرن من الزمن، ودشنت للانتقال إلى نظام رئاسي تنفيذي يمنح "نصف السلطان" أردوغان سلطات مطلقة، طالما كان يطمح إليها. فبمقتضى النظام السياسي الجديد سيقوم أردوغان باختيار معاونيه من الوزراء. كما سيحظى بصلاحيات تنفيذية، وسيضع أيضا الميزانية، ويمكنه إصدار المراسيم بقوانين.وسيحق للرئيس التركي، الذي يبلغ من العمر 64 عامًا، حرية الحركة في تنفيذ برامجه وأهدافه، وسيمتلك كذلك سلطة تعيين كبار الموظفين، واختيار نائب أو أكثر، وتعيين أعضاء في المجلس الأعلى للقضاة، ومدعي العموم الذي يتولى بعض التعيينات والإقالات في السلك القضائي. وستكون ولاية الرئيس 5 سنوات، ويجوز له الترشح لفترة ثانية فقط، وولاية ثالثة حالة الدعوة لانتخابات مبكرة قبل انتهاء ولايته الأخيرة، بما يعني إمكانية بقائه لما بعد عام 2029.
وترتبط قدرة الرئيس التركي على وضع سياساته موضع التنفيذ وتبني برامجه على نحو كامل، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الأمني، ليس بمحض مكاسبه الانتخابية، المتوالية، وإنما أيضا بخسائر منافسيه السياسية، المتزايدة أيضا. على سبيل المثال، كشفت نتائج الانتخابات عن معاناة قيادات المعارضة من مظاهر ضعف سياسي، وتراجع حاد في الحضور الجماهيري. فقد حصلت ميرال أكشنار، زعيمة حزب الخير على 7.35 في المئة من الأصوات، أما صلاح الدين ديمرتاش، زعيم حزب الشعوب الديمقراطي، الذي خاض الانتخابات من محبسه، فقد حصل على المركز الثالث بنسبة 8.3 في المئة.
ربما يعكس ذلك ضعف المعارضة وانقسامها وتوظيفها للانتخابات لتصفية خلافاتها السياسية لا لتحقيق مصالح وطنية. ففيما فشلت المعارضة في الاتفاق على مرشح واحد لخوض الانتخابات الرئاسية، فإن صراعات رئيس حزب الشعب الجمهوري مع المرشح الرئاسي محرم إنجه، دفعت بالأول إلى دعم ترشح الأخير - بحسبانه منافسه داخل الحزب - للرئاسة، بغرض الانفراد بالسيطرة على الحزب، لذلك كان أول من وجه له رئيس الحزب انتقادات، عقب خسارة الانتخابات الرئاسية، في محاولة لتجاوز مسألة تراجع شعبية الحزب ذاته في الانتخابات البرلمانية. هذا على الرغم من أن محرم إنجه زادت نسبة الأصوات التي حصل عليها بنحو 8 في المئة عن نسبة الأصوات التي حصل عليها حزبه بشكل مباشر في الانتخابات البرلمانية.
قد يُظهر ذلك أن السلطوية التركية لا تقتصر على الحزب الحاكم، وإنما تمتد إلى أحزاب المعارضة، التي لا تزال ترتبط منافسة أردوغان في الانتخابات الرئاسية، والعدالة والتنمية في انتخابات البرلمان، بصراعاتها السياسية، ومحاولة تأبيد سلطة قياداتها. ومع ذلك، ثمة حاجة إلى عدم إغفال أن المعارضة التركية، في نفس الوقت، تخوض صراع سياسي غير متوازن من جراء توظيف الرئيس التركي لكل مؤسسات الدولة لخدمة مشروعاته السياسية. كما أن أجواء الانتخابات التركية لم تكن نزيهة، في ظل هيمنة أردوغان على التغطية الإعلامية، وإجراء الانتخابات في ظل فرض حالة الطوارئ. ووفقا لنتائج بعثة المراقبة التابعة لـ"منظمة الأمن والتعاون في أوروبا" و"الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا" فإن "الرئيس التركي حصل على مزايا انتخابية تشكك في نزاهة الانتخابات". هذا فيما قالت، سيفيم داجديلين، رئيسة المجموعة البرلمانية الألمانية - التركية في البرلمان الألماني، إن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا "ليست حرة ولم تكن نزيهة".
سياسات ما بعد الانتخابات
تكشف أنماط السياسات التركية أن السلطة الحاكمة تعتمد على استراتيجية خلق الاستقطاب لتعزيز تماسك قاعدة حزب العدالة والتنمية وشعبية الرئيس التركي في مواجهة التحديات التي يواجهها المجتمع التركي. وفي هذا الإطار ربما يكون الأرجح، وفي ضوء تواصل عمليات الاعتقالات التي لم تتوقف بعد الانتخابات، أن تتسع دائرة الصراعات الداخلية والخارجية، في محاور محددة، من ذلك مواصلة الحملة على أنصار جماعة الخدمة، وسن قوانين تستهدف تقييد وسائل الإعلام والتضييق على الحريات الخاصة والعامة. كما ستدخل تركيا مرحلة مركزية الرجل الواحد الذي يتمتع بسلطات واسعة ترسخ تدريجيا نظام حكم ديكتاتوري يقوم على تغيير القوانين واستهداف الخصوم بالداخل، وافتعال المزيد من الأزمات في المحيط الإقليمي والدولي.
وليس من المتوقع أن تصبح السياسة الخارجية التركية أقل حدة، وقد تتخذ نهجًا تصادميًا أكثر، لتشكل الانتخابات نقطة تحول في سياسات تركيا الخارجية، بحسبانها أوضحت قدرة الرئيس على حشد مؤيديه وأنصاره لخدمة مشروعه السياسي. ومن المرجح كذلك تصاعد العمليات العسكرية التركية في كل من سوريا والعراق، خاصة بعد أن أطلقت القوات المسلحة التركية منذ أواسط شهر مارس 2018 عملية عسكرية، لـمواجهة عناصر تنظيم العمال الكردستاني، وتدمير مواقعه المنتشرة في مثلث حدودي تركي عراقي إيراني.
وفيما يخص العلاقات المصرية- التركية، فمن غير المرجح أن تشهد تهدئة نسبية، بالنظر إلى سياسات تركيا الداعمة لجماعة الإخوان، واستمرار القنوات الإعلامية التي تهاجم الدولة المصرية، انطلاقا من الأراضي التركية. وربما تتجه ملفات وقضايا العلاقات المصرية– التركية نحو مزيد من التعقيد، على نحو دراماتيكي، بسبب تصاعد أوجه الصراع حول ملف الطاقة في شرق المتوسط، وتباين رؤى الدولتين حيال العديد من التطورات في هذا السياق، سيما أن تركيا تعي أن مصر تستهدف أن تتحول إلى مركز لنقل الطاقة إلى الدول الأوروبية، بما من شأنه التأثير على مكانة تركيا الجيو-استراتيجية.
وفيما يخص العلاقات التركية– الروسية، فمن المتوقع أن تشهد تطورات إيجابية بفعل الانسجام الثنائي بين الرئيس التركي ونظيره الروسي، الذي اتصل بأردوغان وهنأه على إعادة انتخابه. كما عبر الرئيس الروسي عن استعداده لمواصلة "العمل المشترك والحوار مع أردوغان".
وفيما يخص علاقات تركيا الدولية، فمن المتوقع أن تتعامل القوى الغربية مع رجل تركيا، خلال المرحلة المقبلة، انطلاقًا من سياسات الأمر الواقع، وعبر استراتيجيات التكيف النسبي، مع حالة من التعايش والتأقلم مع انتقادات عالية المستوى يوجهها كلا الجانبين للطرف للآخر، من دون أن يعني ذلك احتمالية أن تتصاعد أوجه التوتر على نحو غير مسبوق، إلا في حال أقدمت تركيا على استلام منظومة S-400 من روسيا. فقد يعني ذلك توقف العديد من أطر التعاون الغربية – التركية، سيما على المستوى العسكري.
وبناء على سبق، فمن المرجح أن تشهد سياسات تركيا المحلية والخارجية، توترات متصاعدة، بدرجات متفاوتة، ربما يتمثل الدافع إلى تهدئة حدتها في أوضاع تركيا الاقتصادية، التي باتت تستوجب إعادة صياغة السياسات المحلية، والمقاربات الإقليمية والدولية، بما يحد من الارتدادات السلبية لسياسات القيادة التركية على أوضاع البلاد المضطربة على الصعيد الاقتصادي والمالي