إيران والانتخابات اللبنانية: رسائل مباشرة وخيارات مؤجلة
2018-5-30

د. محمد عباس ناجي
* رئيس تحرير الموقع الإلكتروني - خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

قرأت إيران نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية التي أُجريت في السادس من مايو 2018 على أنها "انتصار" لحلفائها جاء في وقت بالغ الحساسية والأهمية، في ظل الضغوط الإقليمية والدولية التي يتعرض لها المحور الذي تقوده إيران حاليا في المنطقة. إذ تصاعد نطاق استياء كثير من دول المنطقة من التدخلات الإيرانية المتواصلة، سواء في الشئون الداخلية لهذه الدول أو في الأزمات الإقليمية المختلفة، على نحو فاقم من هذه الأزمات وزاد من حدة التهديدات الأمنية التي تواجهها تلك الدول، والتي اتجه بعضها إلى إدانة الذراع العسكرية الإيرانية ممثلة في فيلق القدس التابع للحرس الثوري وفرض عقوبات على بعض حلفائها، خاصة حزب الله، بتهمة تهديد أمنها واستقرارها.

وتوازى ذلك مع اتجاه إسرائيل إلى فتح مواجهة عسكرية مباشرة معها في سوريا، بسبب الجهود التي تبذلها إيران لتكريس وجودها العسكري على الأرض داخل وسوريا، باستغلال التطورات الأخيرة التي شهدها الصراع السوري ومالت فيها توازنات القوى لصالح النظام السوري وحلفائه.

وجاء انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات الأمريكية على إيران ليفاقم من حجم الضغوط التي تتعرض إيران لها في المرحلة الحالية، خاصة بعد أن عولت على هذا الاتفاق في الحصول على عوائد مالية وتكنولوجية كبيرة، وانتزاع اعتراف غربي بدورها كقوة إقليمية رئيسية لا يمكن استبعادها في عملية إعادة صياغة الترتيبات السياسية والأمنية في المنطقة.

رسائل عديدة

في هذا الإطار، سعت طهران إلى استثمار النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات النيابية اللبنانية في توجيه رسائل عديدة لأطراف مختلفة داخل لبنان وخارجها. يمكن أن نوجز هذه الرسائل فيماي لي:

1- مواصلة تعزيز النفوذ:تشير نتائج الانتخابات، في رؤية طهران، إلى أن هذه الضغوط المتواصلة التي تتعرض لها مع حلفائها لم تقلص من قدرتها على تعزيز نفوذها في المنطقة، خاصة بعد أن نجح حلفاؤها في انتزاع مكاسب سياسية أكبر على حساب خصومهم السياسيين، لاسيما تيار المستقبل، الذي فقد نحو ثلث مقاعده التي حصل عليها في الانتخابات السابقة، لصالح حصول حلفاء إيران مجتمعين على أكثر من نصف عدد المقاعد.

2- استمرار الانخراط العسكري:تعكس نتائج الانتخابات أيضا دلالة مهمة تتعلق بأن إصرار حزب الله على مواصلة الانخراط في الصراع العسكري داخل سوريا، بالتنسيق مع إيران بالطبع، لم يخصم من وزنه السياسي في الداخل، رغم كل الحملات التي تعرض لها الحزب من جانب القوى السياسية المناوئة له، والتي اعتمدت على اتهامه بانتهاك سياسة "النأي بالنفس" التي اتبعتها الدولة اللبنانية في التعامل مع تطورات الأزمة في سوريا منذ تصاعدها في مارس 2011.

3- سياق سوري مواتٍ:ترى طهران أن نتائج الانتخابات اللبنانية تتوافق سياسيا مع المعطيات الجديدة التي فرضتها التطورات الأخيرة التي طرأت على الساحة السورية، ويتصل أبرز ملامحها بانتزاع النظام السوري وحلفائه زمام المبادرة من قوى المعارضة والتنظيمات الإرهابية والمسلحة، بمساعدة روسيا وإيران، وتزايد قدرته على السيطرة على مزيد من المناطق التي كانت تتواجد بها الأخيرة.

فقد كان لافتا أن بعض النواب القريبين من النظام السوري حققوا نتائج بارزة في الانتخابات ووصلوا إلى البرلمان، بكل ما يمكن أن يفرضه ذلك من معطيات جديدة على صعيد العلاقات بين لبنان وسوريا خلال المرحلة القادمة، والتي تحظى باهتمام خاص من جانب طهران في المرحلة الحالية، لاعتبارات عديدة، يتعلق أبرزها بمحاولة إعادة صياغة الترتيبات السياسية للتعامل مع التصعيد الجديد بين إيران من جهة، والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى.

خيارات مؤجلة

مع ذلك، فإن إيران ليست في وارد استغلال نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية، على الأقل في المرحلة الحالية، في سياق محاولاتها الرد على الضغوط الإقليمية والدولية التي تتعرض لها، بسبب برنامجها النووي ودورها الإقليمي. وربما توعز طهران إلى حلفائها بتسهيل عملية تشكيل الحكومة الجديدة التي كُلف بها رئيس الوزراء سعد الحريري، رغم أنهم لم يقوموا بتسميته لهذا المنصب في المشاورات الأخيرة التي أُجريت في هذا السياق.

وقد تكون التهدئة السياسية داخل لبنان هو الخيار "المؤقت" الذي تتبناه إيران في الفترة الحالية، بالتوازي بالطبع مع ضمان تشكيل حكومة جديدة يكون لحلفائها تأثير ونفوذ قوي فيها، وذلك بهدف توجيه رسائل تحدي إلى القوى المناوئة التي فرضت عقوبات عديدة على الحزب في الفترة الأخيرة.

وقد كان الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، حريصا، في 25 مايو 2018، على تأكيد أن تلك العقوبات (يقصد الأمريكية على إيران) لن تؤثر في تشكيل الحكومة، وهو المغزى نفسه الذي فُهم من تصريحات أدلى بها سعد الحريري، قبل ذلك بأربعة أيام، وقال فيها أن العقوبات يمكن أن تسهم في الإسراع بتشكيل الحكومة.

ومن دون شك، فإن الظروف الحالية لا تهيئ المجال أمام دعم فرص وصول إحدى الشخصيات القريبة من حلفاء إيران إلى رئاسة الحكومة، سواء بسبب الضغوط والمشكلات الاقتصادية القوية التي تواجهها الدولة في المرحلة الحالية، أو بسبب المفاعيل العكسية التي سينتجها ذلك على التصعيد بين طهران من جهة، وواشنطن وتل أبيب من جهة أخرى. إذ إن ذلك سيوجه رسالة "خاطئة في توقيتها" إلى الخصوم، مفادها أن إيران معنية في الوقت الحالي بتأجيج الوضع داخل لبنان واستثمار ذلك في استعراض قدراتها الإقليمية ومواجهة الضغوط التي تتعرض لها، وهو خيار لا يبدو أن إيران تفضل الاستناد إليه حاليا.

ملفات المواجهة

فضلا عن ذلك، فإن لبنان ربما لا يكون، على الأقل في المرحلة الحالية، هو الملف الأهم الذي يمكن أن يشهد تصعيدا من جانب إيران، للرد على تلك الضغوط. فإيران تواجه خيارات صعبة في سوريا رغم التطورات الأخيرة التي فرضت تغييرات ملموسة في توازنات القوى لصالح النظام السوري. إذ إنها لم تتمكن حتى الآن من الرد على الضربات القوية والمتتالية التي وجهتها إسرائيل إلى مواقعها العسكرية داخل سوريا، رغم التهديدات المتكررة التي وجهها مسئولوها العسكريون في هذا السياق، وهو ما لا يمكن فصله عن محاولاتها عدم منح الفرصة للقوى المناوئة لها من أجل إلقاء الضوء بشكل أكبر على التهديدات التي يفرضها وجودها العسكري في دول الأزمات، واستغلال ذلك في سياق التصعيد معها حول برنامجيها النووي والصاروخي.

وبمعنى آخر، فإن المواجهة الحالية هى مع واشنطن وتل أبيب وليست مع القوى الإقليمية المناوئة لنفوذها في لبنان، على غرار المملكة العربية السعودية، بما يجعلها أكثر ميلا نحو عدم "تفجير" الملف حاليا، باعتبار أن استقرار الوضع الداخلي يتوافق مع رؤيتها لمسارات التطورات الإقليمية، طالما أن الأولوية بالنسبة لها في الوقت الحالي هى مواجهة ضغوط هذه الأطراف، التي لم تعد تنحصر في خيار العقوبات وإنما وصلت إلى خيار الضربات العسكرية.

كما أن طهران تبدو منهمكة في الفترة الحالية في تعزيز إجراءات مواصلة العمل بالاتفاق النووي، الذي تعتبره دوائر سياسية عديدة بمثابة "الإنجاز" الوحيد الذي نجحت حكومة الرئيس حسن روحاني في تحقيقه خلال الفترة التي تولى فيها رئاسة الجمهورية، حيث تواصل اجتماعاتها مع الدول الأوروبية والآسيوية من أجل تحقيق هذا الهدف الذي يواجه عقبات عديدة لا تبدو هينة في الوقت الحالي.

احتمالات قائمة

لكن خيار التهدئة في لبنان قد يكون مؤقتا، بانتظار تبلور استحقاقات سياسية وأمنية جديدة، سواء على صعيد التفاعلات السياسية داخل لبنان، أو على مستوى المسارات المحتملة للتصعيد الحالي بين طهران وواشنطن حول الاتفاق النووي. إذ قد تتعمد إيران تعزيز احتمالات نشوب أزمة سياسية جديدة داخل لبنان في حالتين:

الحالة الأولى، هي اتجاه القوى السياسية المناوئة لحلفائها إلى فتح ملف "سلاح المقاومة" أو انخراط حزب الله في الصراع السوري، وهو احتمال لا يمكن استبعاده في مرحلة لاحقة، رغم حرص بعض تلك القوى أيضا على تبني خيار التهدئة في المرحلة الحالية.

الحالة الثانية، هي توقف العمل بالاتفاق النووي وعودة إيران إلى تنشيط برنامجها النووي من جديد، حيث إنه لا يمكن استبعاد احتمال اندلاع مواجهة مباشرة بين إيران من جهة وكل من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل من جهة أخرى، في حالة اتجاهها إلى تفعيل هذا الخيار، خاصة أن إعادة رفع مستوى عمليات تخصيب اليورانيوم بنسبة تفوق الـ20% يقربها مرة أخرى من مرحلة امتلاك القدرات اللازمة لإنتاج القنبلة النووية.

في هذه الحالة فإن خيار التصعيد داخل لبنان قد يكون هو الأكثر ترجيحا، خاصة أن هذه المواجهة المحتملة لن تقتصر على إيران فحسب، بل ستمتد إلى حلفائها أيضا، خاصة حزب الله، الذي يحظى دوره الإقليمي في المرحلة الحالية باهتمام خاص من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل والعديد من القوى الإقليمية الأخرى.

احتمالات متداخلة كلها سوف تتوقف على المسارات المتوقعة للتصعيد الحالي بين طهران وواشنطن، خاصة بعد أن انتقل هذا التصعيد من الخلاف حول الاتفاق النووي -رغم أهميته- إلى الصراع حول دور إيران في المنطقة.


رابط دائم: