لا تقوم العلاقة بين تركيا وجماعة الإخوان المسلمين فقط على الروابط القوية التي تجمع النخبة السياسية الحاكمة في تركيا مع مختلف جماعات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وفي مقدمتها جماعة الإخوان، وإنما تتأسس أيضا على ذلك النمط من الروابط التي تتجاوز الإطار السياسي إلى النسق الأيديولوجي الذي يجعل الجانبين ينتميان لتيار عقائدي واحد، وذلك منذ أن أقدم نجم الدين أربكان على تأسيس حركة "المللي جورش" في ستينيات القرن الماضي، والتي تمثل الجناح التركي لجماعة الإخوان. ومن رحم هذه الحركة خرج العديد من الأحزاب السياسية، من ضمنها العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، رغم أنه مثًل التيار التجديدي الذي انقلب على تيار أربكان داخل حزب الفضيلة عام 2001.
هذا التيار قاده الثنائي عبد الله جول، الرئيس السابق لتركيا، ورجب طيب أردوغان، الرئيس الحالي، والذي استطاع عبر خطوات تدريجية أن يهيمن على معادلة الحكم داخل تركيا، وكذلك داخل الحزب الحاكم، بعد عمل متواصل عبر سنوات خلت من أجل إبعاد الحرس البراجماتي لصالح التيار المؤدلج الذي يؤمن بفكرة "الرئيس الخليفة" الذي يتخذ من الشعارات القومية سبيلا لتعظيم حضور تركيا في وسط آسيا والقوقاز، ويتخذ من الشعارات الدينية منهجا لإعادة صياغة روابط تركيا مع دول العالم العربي. كل ذلك بهدف استعادة تركيا ميراث الدولة العثمانية، ليس فقط بالمعنى الروحي عبر إعادة تأطير الصورة الذهنية لتركيا، وإنما أيضا بالمعنى العملي عبر إعادة سيطرة تركيا على أجزاء من الأراضي التي افتقدتها بعد الحرب العالمية الأولى بدعم من وكلاء محليين يهيمن عليهم عناصر من جماعة الإخوان في ميادين ملتهبة بالجوار التركي.
أولا: أطر العلاقة ومحركاتها
تعود إشكالية الروابط بين نخبة تركيا الحاكمة وعناصر جماعة الإخوان المسلمين بالأساس إلى كونها علاقة تاريخية لا تتأسس فقط على روابط النسب التي تجمع بين بعض العناصر في الجانبين، أو العلاقات الشخصية بين قيادات الطرفين بسبب حضور العديد من رموز جماعة الإخوان في الدول العربية للمؤتمرات السنوية التي كانت تعقدها الأحزاب السياسية التي أسسها الراحل أربكان، وإنما تتأسس أيضا على العلاقات المشتركة التي تطورت في ظل المناخ العلماني الإقصائي الذي ترعرعت فيه نخب العدالة والتنمية.
ففي ظل هذا المناخ العلماني الإقصائي دفع نخبة العدالة والتنمية إلى النشأة السياسية والدينية على كتابات الكثير من قيادات جماعة الإخوان في نسختها المصرية، حيث لم يُسمح آنذاك في تركيا بتأليف أو طباعة الكتب الدينية، بما أوجد علاقات مركبة بين الجانبين، يتحكم فيها العديد من المحركات العملية التي ترتبط بالمصالح المشتركة، كما تتعلق بعناصر التنشئة السياسية، ونمط الإدراك المتبادل لمحورية كل طرف بالنسبة لمصالح - بل وبقاء - الطرف الآخر.
وقد صاحب ذلك اعتراف من جانب جماعة الإخوان بأن تركيا تمثل النموذج القابل للاستنساخ، سيما في مرحلة ما بعد الثورات العربية. لم يعن ذلك تأسيس أحزاب تستلهم تجربة العدالة والتنمية حتى على مستوى المسمى الحزبي وحسب، وإنما تتعلق أيضا بشيوع مصطلح الأمة على حساب مفهوم الدولة. وشمل ذلك أيضا اعترافا بأن مركز الثقل الإسلامي في عاصمة الخلافة الإسلامية - التي تحولت تدريجيا من نظام ديمقراطي إلى دولة سلطوية يسيطر عليها نظام أبوي يتبنى أيديولوجية محافظة دينيا ومتشددة قوميا - يقوم على تركيز السلطة واستحضار فكرة "القائد الخليفة".
وقد شاع في أوساط الإخوان، وعبر وسائل الإعلام التي يسيطرون عليها، وصف أردوغان بـ"الخليفة". عبر عن ذلك، على سبيل المثال، يوسف القرضاوي، الزعيم الروحي للإخوان المسلمين، الذي قال إن أردوغان يمثل الخليفة والممثل لنموذج الحكم الإسلامي في العصر الحديث، وأنه هو الذي سيفرض الإسلام في كل أنحاء العالم. مضيفا: "اتحاد فقهاء الإسلام أعلن أن الخلافة يجب أن تتشكل في إسطنبول لأنها عاصمة الخلافة... تركيا الجديدة هي التي تدمج بين الدين والدولة، القديم والجديد، العربي وغير العربي وتوحد الأمة في أفريقيا، وآسيا، وأوروبا، والولايات المتحدة، وكل مكان. الشخص الذي أحدث ذلك في تركيا هو رجب طيب أردوغان.. هو القائد الذي يعرف الله، ويعرف نفسه، ويعرف شعبه، ويعرف الأمة، ويعرف العالم. عليكم الوقوف الى جانب هذا الشخص وتقديم الولاء له والقول له: سر إلى الأمام".
وعلى الرغم من أن الرئيس التركي لا يعبر عن ذاته بحسبانه مرشد الجماعة أو خليفة المسلمين، غير أن تصريحاته ومواقفه حيال العديد من التطورات تشير ضمنيا إلى أنه يعتبر نفسه المرشد لجماعات الإخوان عبر الإقليم. وثمة العديد من الأدبيات التي تشير إلى أن ذلك لا ينسجم مع أيديولوجيا الحكم التركي وحسب، وإنما يجسد أيضا فكرة أن هذه الجماعة تحولت خلال العقد الأخير لتغدو إحدى أدوات تركيا لشرعنة دورها كدولة قائد لدول العالم الإسلامي.
ورغم ما تثيره هذه العلاقة من إشكاليات في إطار روابط تركيا مع العديد من الفاعلين الإقليميين التي تنظر لتركيا بحسبانها دولة تدعم الجماعات الإرهابية، غير أن الإصرار التركي على عدم الإضرار بهذه العلاقة يرتبط بكون جماعة الإخوان باتت تشكل أحد الأدوات التي يوظفها أردوغان لدعم شعبيته على الساحة المحلية، بما يجعل تركيا ليس بوارد التخلي عن الجماعة أو التضييق على عناصرها.
ولعل هذه الرسالة قد أكدتها القيادة التركية عبر العديد من المواقف خلال السنوات الماضية، ومن ضمنها التأكيد على أن حزب تركيا الحاكم ليس ببعيد عن مبادئ تنظيم الإخوان، الذي احتفل مؤخرا بالذكرى التسعين لتأسيسه في إسطنبول، بمشاركة "العشرات" من قياداته في العالم.
ثانيا: تركيا والإخوان... أثر المحرك الخارجي
على الرغم من أن أردوغان أظهر تقديره لميرات أتاتورك الثقافي، غير أن العديد من سياساته أظهرت تناقض مواقفه واتجاهاته مع الميرات السياسي والثقافي لمؤسس تركيا المعاصرة، الذي ألغى الخلافة عام 1924، فيما يبدو أنه أكثر انسجاما مع أفكار حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان في عام 1928، والذي أعلن العمل على استعادة الخلافة التي أسقطها أتاتورك.
يفسر ذلك سياسات تركيا الخارجية حيال العديد من الدول العربية، سيما أن السياسات التوسعية التركية على الساحة الإقليمية ارتكزت على الأدوار التي أدتها الجماعة لخدمة حكم أردوغان، ليس على الساحة المحلية وحسب - عبر التجييش الداخلي في الخطابات الشعبوية والاستمرار في السيطرة على مقاليد الحكم - وإنما في نفس الوقت من خلال استخدامه لهم في مشروعه الخارجي، القائم على التغلغل في المنطقة العربية، والتأثير على سلمية تفاعلاتها، واستغلال قضاياها الصراعية، بما يحقق مصالح تركيا المتنوعة.
وتوظف تركيا قضايا جماعة الإخوان لاستنساخ استراتيجية طهران في رعاية التنظيمات الشيعية، حزبية كانت أو عسكرية، من أجل خدمة نفوذها الإقليمي، وتمدد قواتها العسكرية خارج حدودها الجغرافية. لذلك لجأت تركيا إلى استخدام قدراتها المالية وإمكانياتها الإعلامية لخدمة مشروع الإخوان في مصر القائم على استهداف الدولة المصرية، والعمل على عدم استقرارها سياسيا وأمنيا واقتصاديا، وهو مشروع تركي يرعاه أردوغان ويوظف الإخوان في إطاره، سيما أنهم بحاجة للملاذ الآمن الذي يؤمن لهم القاعدة للانطلاق في تطبيق أفكارهم، واللجوء إلى العنف المسلح لضرب الدولة الوطنية والانقضاض عليها بعد ذلك.
الإرهاب هو سلاح الإخوان، والجماعة هي في نفس الوقت أحد أدوات تركيا للتوسع في المنطقة وضرب استقرارها، إلا أن المفارقة تتمثل بأن "الإرهاب" يمثل أيضا ذريعة تركيا للتمدد عسكريا في ساحات الدول العربية، كما توظف قضية فتح الله كولن لمهاجمة الدول التي ترفض تسليمه عناصر جماعته التي تتهمها السلطات التركية بالوقوف وراء محاولة الانقلاب في يوليو 2016، وفي الوقت نفسه، تفتح ذراعيها لمتطرفين من شتى دول المنطقة.
ثالثا: ارتدادات التحالف بين تركيا والإخوان
مدخل استغلال العلاقة مع الإخوان لدعم مشروع تركيا الإقليمي لا تقتصر ارتداداته على العلاقة مع مصر. فقد شكل ذلك ملامح الاقتراب التركي في التعاطي مع الأزمة السورية منذ عام 2011، حيث جعلت أنقرة من أراضيها منطلقا لتحرك المعارضة السورية، سيما جماعة الإخوان. ولاحقا، وظفتها عسكريا من خلال عملياتها العسكرية في الميدان السوري، وهى استراتيجية سبق أن اختبرتها في العراق، عبر قوات "الحشد الوطني" التي ضمنت من خلال علاقاتها معها ذريعة البقاء في مخيم بعشيقة في مدينة الموصل.
كما عملت تركيا على تبني ذات النهج حيال إخوان ليبيا، وكذلك حركة حماس، التي تمثل الفرع الفلسطيني من جماعة الإخوان. فقد عمدت تركيا إلى توسيع هامش المناورة أمام الحركة في مواجهة بقية الفصائل الفلسطينية، وكذلك في مواجهة الدولة المصرية، وتبنت أنقرة مواقف هذه الحركة دون غيرها من الفصائل الفلسطينية، واختصرت دعم القضية الفلسطينية وتمثيلها بحماس من منطلق إخواني. كما شكلت علاقاتها مع حزب الإصلاح اليمني أحد محددات مواقفها من حرب اليمن.
وعلى الرغم من أن جماعة الإخوان شكلت محددا في سياسات تركيا الخارجية حيال الدول العربية، غير أنها لم تبدو كذلك حين أقدمت أنقرة على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وذلك على نحو دفع الجماعة إلى إصدار بيان رسمي يحاول إعادة تلوين الحدث، وذلك عبر استغلال قضية الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة للتغطية على عودة العلاقات الإسرائيلية - التركية إلى مسارها التعاوني. وقد أورد البيان أن جماعة الإخوان المسلمين ترحب بمساعي السلطات التركية لتخفيف الحصار عن غزة، وأضاف "إن أي جهد لفك الحصار عن غزة هو جهد مشكور". ولم تنس الجماعة أن تعرب عبر بيانها ذلك عن تطلعها إلى "مزيد من العمل من أجل إنهاء الحصار بشكل كامل، واسترداد كافة الحقوق الفلسطينية".
وعلى جانب آخر، فقد ارتكزت العلاقة التركية – القطرية على الروابط المركبة بين الجانبين مع تنظيم الإخوان، سيما أن الدولتين قامتا بعقد العديد من الاجتماعات مع أعضاء جماعة الإخوان للتنسيق المشترك حيال تطورات الأوضاع في مصر، وتعاونا معا بعد سقوط حكم الإخوان في مصر، سواء من خلال استضافة رموز الجماعة والمحسوبين عليها، أو توفير المنابر الإعلامية لنشر أفكارها وشحذ أنصارها، كما وظفا القضية الفلسطينية (زيارات قطاع غزة) لخدمة نفوذهما الإقليمي، وللضغط على نحو غير مباشر على الدول العربية الرئيسية. وقد شكَل الموقف التركي – القطري المشترك أحد محركات الموقف التركي من الأزمة الخليجية – القطرية، التي استغلتها أنقرة لتأسيس أول قاعدة عسكرية خارج حدودها الجغرافية.
ويبدو أن ذلك مثل أحد محركات الموقف الذي عبر عنه، ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان حينما تحدث عن "مثلث الشر"، والذي يشمل تركيا، إلى جانب قطر وطهران. وقد تبنت العديد من الدول العربية سياسات إعلامية مشابهة للسياسات المصرية بسبب التوجهات التركية حيال جماعة الإخوان. وربما يشير ذلك إلى أن هذه الجماعة كما مثلت فرصة للسلطات التركية في ساحات الصراع المجاورة، فإنها شكلت عبئاً ثقيلا على الدولة في إطار علاقاتها مع القوى الإقليمية الرئيسية.