مستقبل الدور التركي في الشرق الأوسط: السيناريوهات المتوقعة ومحددات التحرك المصرى - عرض العدد رقم 26 من دورية "بدائل"
2018-3-31

نــورا فخـري أنور
* باحث مساعد - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

لم تعد منطقة الشرق الأوسط بالنسبة لتركيا منطقة جوار فقط تحدد على أساسها أولوياتها الاستراتيجية والعسكرية، ولكنها أصبحت أيضا من أهم محددات الهوية التركية التي إذا أدركناها جيًدا نستطيع أن نستنبط أهداف السياسة الخارجية التركية، ومعرفة العديد من السناريوهات المستقبلية حول دورها في منطقة الشرق الأوسط.

في هذا السياق، يهتم العدد الجديد من دورية "بدائل"، التي تصدر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، بمراجعة الدور الإقليمي لتركيا الذي مر بالعديد من التطورات في الشرق الأوسط منذ إعلان الجمهورية التركية في عام 1924. كما تعتمد الدراسة في تحليلها لتطور الدور التركي علي مفهوم الدور الإقليمي الذي يعني بالأساس ما تضطلع به دولة ما من أفعال مع جوارها الإقليمي، وفقا لما تراه النخبة الحاكمة لتعزيز مكانة هذه الدولة وتحقيق مصالحها.

وفي هذا الإطار، توضح الدكتورة إيمان رجب، الخبيرة في الأمن الإقليمي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ورئيس تحرير بدائل، فى افتتاحية العدد التي تحمل عنوان "إعادة تقدير أهمية العلاقات بين مصر وتركيا"، أن تركيا تعد من الدول المؤثرة في إقليم الشرق الأوسط، لأسباب ربما ترتبط بمقدرات القوة الشاملة للدولة، فضلا عن تبينها طوال السنوات الماضية مقاربة للتأثير في تفاعلات الإقليم، سواء التأثير السلبي أو التأثير الإيجابي.

كما تشير إلى أن هذا الوضع يجعل تركيا من الدول ذات الوزن الاستراتيجي المهم في المنطقة، لذلك تحتاج مصر إلى تطوير مقاربة مختلفة في التعامل معها على نحو يخدم المصالح الاستراتيجية للدولة. ولكن هذه المقاربة ربما تتطلب تحييد الخلاف الخاص بموقف الرئيس التركي من ثورة 30 يونيو 2013، حيث كان لموقف لهذا الموقف وما تلاه من سقوط حكم الإخوان تأثيره على دخول العلاقات بين مصر وتركيا في حالة من التوتر وربما الصراع السياسي، وهو ما كان له أثره كذلك على مساحات الحركة المتاحة لمصر في قضايا المنطقة التي تعد تركيا طرفا رئيسيا فيها.

وقد أعدت الدكتورة شيماء ماجد، المدرس بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، الدراسة الرئيسية لهذا العدد والتي تحمل عنوان "مستقبل الدور التركي في الشرق الأوسط: السيناريوهات المتوقعة ومحددات التحرك المصرى". وتنقسم الدراسة إلى ثلاثة أقسام. يتناول القسم الأول "السمات العامة للسياسة التركية في الشرق الأوسط"؛ فيما يناقش القسم الثاني "محددات الدور التركي". أما القسم الأخير فيتناول السيناريوهات المتوقعة لمستقبل الدور التركي في المنطقة خلال الخمس سنوات المقبلة. وفيما يلي عرض مفصل للأقسام الواردة فى هذه الدراسة.


 

السمات العامة للسياسة التركية في الشرق الأوسط

تشير الدكتورة شيماء ماجد في هذه الدراسة إلي مطلع عام 2000، الذي يعتبر هو بداية التحول الفكري والمنهجي للسياسة الخارجية التركية بشكل عام ولدور تركيا في الشرق الأوسط بشكل خاص. فهناك العديد من أوجه الاستمرارية في السياسة الخارجية الخارجية التركية منذ 2000 عما كان الحال عليه قبلها، ولكن أصبح هناك تأسيس لمرجعية فكرية واضحة تعمل بها الدولة التركية على المستوى الخارجي دون أن تجعل سياستها الخارجية خاضعة بالأساس لضغوط خارجية أو هواجس أمنية.

وترى الدراسة أن الفضل الأول في ذلك يرجع إلى وزير الخارجية التركي أحمد داوود أوغلو من خلال ثلاثة كتب محورية، أهمها كتابه "العمق الاستراتيجي"، الذي يعد المرجع الذي كان يتبعه حزب العدالة والتنمية في رسم السياسة الخارجية التركية لاسيما في منطقة الشرق الأوسط. وتدور الفكرة الرئيسية للكتاب حول إعادة النظر في الدور التركي كدولة عازلة على المستوى الإقليمي الذي لا يمكن أن تركن فيه تركيا إلى دور القوة المتوسطة التي تسعي إلى تحقيق الاستقلال التام عن الدول الكبرى في إطار مساعيها لتحقيق أمنها واستقرارها مع دول الجوار. ولا يمكن أن تكتفي بدور الدولة الداعمة التابعة للقوى العظمى في رسم سياستها وتوجهاتها الإقليمية والدولية في إطار ما تمليه مصالح الدول الكبرى ورغبة في استمرار التحالف معها.

وعندما يأتي الحديث عن الدولة العازلة، توضح الدكتورة شيماء أنه في سياق تحليل السياسة التركية على المستوى الداخلى والخارجي، فإننا بالأساس نشير إلى دولة سعت النخب الحاكمة إلى بلورة دورها الريادي كدولة عازلة على المستوىات الثلاث السياسية والاقتصادية والفكرية منذ عشرينيات القرن العشرين. وبالتالى تؤكد الدراسة بالأساس على أن دور الدولة العازلة يعتبر المرحلة  الأخيرة أو ناتجا عن بلورة الدور الخارجي التركي الذي بدأ كقوة متوسطة ومر بدور الدولة الداعمة حتى وصل لدور الدولة العازلة.

وفي هذا الإطار، تشير الدراسة إلي أن مفهوم الدور الإقليمي كدولة عازلة ملائم للسياق الإقليمي التركي لأنه بالأساس يعكس توازنات القوة الداخلية والخارجية التي دفعت بحزب العدالة والتنمية لإدخال إطار مفاهيمي ومعرفي جديد علي السياسة الخارجية التركية. فعلى المستوى الداخلي، كان لتصعيد الطبقة الاقتصادية للنخبة السياسية والاجتماعية في الثمانينيات دور كبير في مواجهة القوي العلمانية المسيطرة على مؤسسات الدولة، لاسيما الجيش الذي تم تفويض العديد من امتيازاته السياسية بفضل الدعم الذي أعطته هذه النخبة المستجدة للحزب والذي بدوره لم يجد صعوبة في إحلال النخبة الاقتصادية الجديدة المقبلة - الملقبة بالنمور الآسيوية- محل النخبة العلمانية في المؤسسات التركية. أما على المستوى الخارجي، فإن ظهور حزب العدالة والتنمية كحزب محافظ ذو خلفية دينية في دولة علمانية وجد رواجا لدى الغرب لاسيما الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة اللذان رأيا أن هذا الحزب لديه إمكانية أن يمثل نموذجا للإسلام الوسطي في الشرق الأوسط بدلا من الإسلام السني أو الشيعي المتشدد في العديد من دول المنطقة.

محددات الدور التركي في الشرق الأوسط

تري الدراسة أن السياسة التركية تهدف في الشرق الأوسط إلى التركيز على تركيا كدولة مركزية وفاعلا مؤثرا على الساحة الدولية، مرورا بدورها في المناطق المجاورة خصوصا منطقة الشرق الأوسط. فعند الحديث عن منطقة الشرق الأوسط بالنسبة لها، نجد أن تصفير المشاكل وتعددية التوجه والاستباقية والتوازن والمواءمة، كلها مبادئ يجب أن تراعى في تطبيقها العديد من الأمور، على النحو التالى:

- موازين القوى في المنطقة بين الدول المحافظة القريبة من الأوساط الأمريكية من ناحية، ودول الممانعة المناوئة للولايات المتحدة من ناحية أخرى.

- الموازين العرقية/ الطائفية في المنطقة بين شيعة وسنة.

- وأخيرا، غياب آليات تنسيق وتعاون أمني بين دول المنطقة تساعد على تحقيق وضمان الأمن والاستقرار والتقارب بين الأطراف المتنازعة.

وفي ضوء ذلك تشير الدكتورة شيماء إلى أنه عند النظر لهذه العوامل نجد أن مسار الدور التركي كدولة عازلة يعمل على تجاوز هذه الإشكاليات من خلال سد الفجوات المؤسسية والأمنية في المنطقة. وفيما يتعلق بدورها الريادي، نجد أنه نظريا يقوم على الإسراع بتقديم مبادرات فكرية وعملية لتطبيقها في المنطقة بين العديد من الأطراف. ويتمثل الدور الريادي لتركيا في قيامها بالإسراع  في حل مشكلاتها مع دول الجوار لا سيما سوريا والعراق، والعمل على تقديم رؤى لحل النزاعات مثلما هو الحال في الصراع العربي -الإسرائيلي إلى جانب مصر وقطر، والعمل على توقيع اتفاقيات ومعاهدات تجارية واقتصادية بين دول المنطقة.
وفي هذا الإطار، تشير الدراسة إلى أن ضعف دور الدولة العازلة التي نجحت تركيا في القيام به قبل اندلاع ثورات الربيع العربي، أصبح الدور الإقليمي التركي - بعد هذا الثورات-  يقوم على عنصري القوة والأمن القومي العسكري في سياستها الإقليمية ورفض الحياد في دبلوماسيتها مع الدول المجاورة. وأنه مع تضاؤل المصالح الاقتصادية والسياسية التركية في المنطقة لاسيما مصر وسوريا وليبيا التي كانت تمثل نسبة كبيرة من الاستثمارات التركية في المنطقة وتزايد التهديدات الأمنية بسبب هجمات "داعش" في العديد من دول المنطقة وتراجع الاتحاد الأوروبي عن استكمال مفاوضات الانضمام مع تركيا، أصبح الدور الإقليمي التركي في صدام مباشر مع العديد من دول المنطقة وقائم على القيام بتحالفات عسكرية مع إيران والعراق وقطر.

السيناريوهات المتوقعة لدور تركيا الإقليمي في المنطقة

تجادل الدكتورة شيماء ماجد بأن التطورات التي شهدتها المنطقة طوال السنوات التالية علي موجة الثورات العربية ولدت العديد من التحديات والضغوط التي جعلت تركيا غير قادرة على ممارسة دور الدولة العازلة الذي اعتادت على ممارسته منذ فترة، أي لعب دور الوسيط المرجعي والفكري والمنهجي بين القوى الدولية وبين دول المنطقة التي تشكل تهديدا لهذه القوى الكبرى.

وتحدد الدراسة ثلاثة سيناريوهات متوقعة للدور التركي في المنطقة خلال السنوات الخمسة المقبلة، على النحو التالى:

السيناريو الأول، يتمثل في عسكرة الدور التركي، بمعنى اتجاه تركيا إلى مزيد من عسكرة سياساتها الخارجية تجاه المنطقة، من خلال الدخول في تحالفات عسكرية تعمل في المنطقة أو إنشاء قواعد عسكرية تابعة لها فيها.

السيناريو الثاني، يتمثل في تبني نموذج الدولة التنموية، التي تعتمد على التعاون الاقتصادي وإبرام مشروعات مشتركة مع دول المنطقة.

السيناريو الثالث، يتمثل في تراجع الدور التركي في المنطقة، بسبب عدم تحقيق أي من السيناريوهين السابقين، أي عدم نجاح تركيا في إبرام تحالفات ذات طابع عسكري أمني، أو في لعب دور إقليمي ريادي يعتمد على تحقيق تعاون اقتصادي يساعد دول المنطقة على تحسين أوضاعها السياسية والاقتصادية، داخليا وخارجيا.

وفي ضوء ذلك،  ترجح الدراسة قيام تركيا بتعزيز دورها الإقليمي من خلال الاستمرار في التحالفات العسكرية مع العديد من الدول في المنطقة.

وفيما يتعلق بمصر، ذهبت الدراسة إلى أنه يجب أخذ كل السيناريوهات في الاعتبار، ومن ثم تناول مردود تلك السيناريوهات على صانع القرار المصري من حيث التأثير ورد الفعل. وانتهت الدراسة إلى أنه في كل الأحوال سيكون لمصر عائد كبير إذا قامت بمراعاة الاعتبارات الآتية:

- على المستوى السياسي والأمني، نجد أن كل من تركيا ومصر تمثلان حلا إقليميًا مهمًا لكل منهما على المستوى الأمني في المنطقة لمواجهة خطر الإرهاب مما يستدعي ضرورة التنسيق الأمني والاستخباراتي.

- على المستوى الثقافي، يلاحظ أن تاريخ تركيا في التنمية السياسية والاقتصادية وتبنيها لمشروع الدولة القومية يعد مسارا حداثيا للتقدم وحسم مسألة الإسلام السياسي ما يجعلها نموذجًا من الممكن أن تستفيد منه مصر في مجال التنمية السياسية داخليًا.

- على المستوى الاقتصادي، نجد أن تركيا شريك اقتصادي لا غنى عنه، وهو ما تؤكد عليه العلاقات الاقتصادية التي استمرت في الازدهار بين البلدين حتى في عهد الرئيس الأسبق مبارك الذي لم يكن على توافقسياسي  مع النظام التركي، فلا يمكن التغافل عن الميراث التاريخي والعمق الجغرافي المشترك للدولتين ومساهمة ذلك في إيجاد أسواق مشتركة وموائمة سهلة للذوق العام في السلع الاستهلاكية.


رابط دائم: