التصعيد الأوروبى الأمريكى ضد روسيا... لماذا الآن ؟
2018-3-28

صافيناز محمد أحمد
* خبيرة متخصصة فى الشئون السياسية العربية ورئيس تحرير دورية بدائل - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

شهدت العلاقات الروسية- البريطانية خلال الأسابيع الماضية توترا ملحوظا على خلفية اتهام لندن لموسكو بالتورط في اغتيال العميل الروسي "سيرجي سكريبال" باستخدام غاز سام، في الرابع من مارس الجاري (2018)؛ حيث عمل سكريبال جاسوسا لصالح بريطانيا. التوتر الحادث في العلاقات الثنائية بين البلدين بناء على تلك الحادثة اتخذ أبعادا جديدة بعد أن شنت العديد من الدول الأوروبية هجوما إعلاميا حادا على روسيا باعتبارها قد خرقت القانون الدولي، وانتهكت سيادة الدولة البريطانية. وأعقب الهجوم الإعلامي طرد عدد من الدبلوماسيين الروس العاملين ضمن البعثات الدبلوماسية لروسيا لدى عدد من الدول الأوروبية، فضلا عن التهديد بفرض عقوبات جديدة على موسكو. هذا التطور في العلاقات الأوروبية- الروسية كان قد سبقه توتر في العلاقات الروسية- الأمريكية على وقع حالة التنافس بين الدولتين بشأن إدارة الأزمة السورية؛ خاصة بعد أن أعلنت واشنطن في مطلع العام الجاري عن استراتيجيتها الجديدة في سوريا، والتي أقرت عبرها استمرار تواجدها العسكري في مناطق الشرق والشمال الشرقي السورى. كما ازداد هذا التوتر مع التصعيد العسكري الذي شنه النظام السوري بدعم جوي روسي ضد الغوطة الشرقية خلال الشهرين الماضيين، واتهام واشنطن لموسكو بمسئوليتها عن استخدام النظام السوري للغاز السام ضد المدنيين في الغوطة، بخلاف تهديد فرنسا وبريطانيا بالقيام بعمل عسكري ضد النظام السوري حال إدانته باستخدام هذا النوع من الأسلحة المحرمة دوليا.

أولا: دوافع وأسباب التصعيد الأوروبي ضد روسيا

كانت العلاقات الأوروبية الروسية الأمريكية قد شهدت العديد من الأزمات الأكثر أهمية من أزمة اغتيال سكريبال، والتي لم تشهد تصعيدا لنبرة التهديد الأوروبية الأمريكية لروسيا كتلك التي ارتبطت بأزمة الجاسوس التي تعتبر نقطة في قائمة خلافات بينية طويلة. وانحصر رد الفعل الأوروبي بشأن بعض تلك الأزمات في فرض عقوبات نوعية على موسكو؛ كأزمة أوكرانيا، وضم روسيا للقرم من ناحية، فضلا عن الاتهامات الأمريكية لروسيا بالتورط في قضية الانتخابات الرئاسية من ناحية ثالثة، بالإضافة إلى أزمة الدروع الصاروخية للناتو وموقف روسيا المتشدد بشأنها، من ناحية ثالثة. لكن هذا التصعيد الشديد في العلاقات بين روسيا وكل من الدول الأوروبية والولايات المتحدة حاليا أوضح أن الأمر يتجاوز مجرد حادثة اغتيال لجاسوس، ليرتبط بمشهد دولي شديد التوتر والتعقيد في العلاقات بين تلك الأطراف في ساحات الضغط الاستراتيجية لنفوذ كل منها، وتحديدا في إقليم الشرق الأوسط وفي أوروبا. بما يدعو إلى التساؤل حول الدوافع والأسباب الكامنة وراء حالة التصعيد تلك، وما يعنيه هذا التصعيد في التوقيت الحالي؟  

الدافع الأول، يرتبط إلى حد كبير بالخطاب الذي ألقاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مطلع مارس الجاري أمام البرلمان الروسي بمجلسيه. فرغم أن التوقيت الذي ألقى فيه بوتين الخطاب يعد توقيتا تقليديا جرت عليه العادة بصورة سنوية، إلا أن المحتوى الذي تضمنه الخطاب لم يكن محتوى عاديا أو تقليديا، وذلك على خلفية ما تضمنه من العديد من المفاجآت على صعيد القدرة العسكرية الروسية المتطورة؛ حيث تباهى بوتين بما أصبحت تمتلكه روسيا من أسلحة فائقة التكنولوجيا والجودة اعتبرها بوتين أسلحة "استراتيجية" نوعية جديدة ستحدث انقلابا في موازين القوى العسكرية. بمعنى آخر، ستصبح العلاقات الروسية الأمريكية الأوروبية العسكرية التقليدية القائمة على حالة الردع الاستراتيجي أمام حقائق عسكرية  جديدة. وهو ما اعتبرته الدول الأوروبية تهديدا مبطنا لها من قبل بوتين ولأمنها القومي ولمصالحها في أي منطقة من العالم، واعتبرته كذلك مؤشرا على مرحلة جديدة من العلاقات مع روسيا تتسم بالتصعيد على المستوى العسكري كلما أمكن ذلك. وجدير بالذكر، أن بريطانيا تعد من أكثر الدول الأوروبية انتقادا للسياسة الروسية في أوروبا، خاصة ضم شبه جزيرة القرم باعتباره عملا غير شرعيا، هذا بخلاف تأييدها لاستمرار العقوبات الأوروبية المفروضة على موسكو، وقيامها بتعزيز قوتها العسكرية المتواجدة في قواعد حلف الناتو بجمهورية استونيا بأوروبا الشرقية خلال عام 2017 الماضي، في أكبر عملية انتشار للقوات البريطانية في شرق أوروبا.

أما بالنسبة لبوتين فقد استهدف من ذلك الخطاب ليس فقط تهديد الدول الأوروبية بعدم الانجرار وراء السياسات الأمريكية، وتحديدا تلك التي تمارسها في الشرق الأوسط، خاصة الملف السوري – تهديد فرنسا وبريطانيا باستهداف النظام السوري– وإنما استهدف أيضا الضغط على أوروبا لدفعها لمفاوضات بينية بشأن مصالح روسيا في أوروبا بعيدا عن الولايات المتحدة، التي تعتبر موسكو عملية التفاوض معها ستكون أشد تعقيدا لارتباطها بجوانب متعددة من الصراع على الهيمنة على النظام العالمي، حيث تقوم وجهة النظر الروسية بالنسبة للنظام العالمي على فكرة تعدد الأقطاب واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شئونها. وأراد بوتين أيضا توصيل رسالة مضمونها أن موسكو بصدد انتهاج سياسات أكثر تشددا مع الولايات المتحدة وأوروبا فيما يتعلق بقضايا الأمن.      

الدافع الثاني؛ يتعلق بالعلاقات الأوروبية- الروسية المتوترة على وقع التعاطي الروسي مع الملفالسوري، لاسيما بعد الحرب التي يشنها النظام السوري بمساندة روسيا على الغوطة الشرقية مؤخرا. فبالرغم من تطابق وجهات النظر الأوروبية والروسية بشأن محاربة الإرهاب، والقبول الأوروبي في مرحلة ما من مراحل تطور الأزمة السورية ببقاء بشار الأسد في السلطة باعتباره شريكا فاعلا في محاربة الإرهاب، إلا أن الاستخدام المفرط للقوة العسكرية من قبل النظام السوري والطيران الروسي ضد المدنيين في الغوطة الشرقية استفز الدول الأوروبية، لاسيما بعد تقارير حول تورط النظام في استخدام أسلحة غازات سامة محرمة دوليا. الأمر الذي زاد من مخاوف أوروبا بشأن ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية التي سبق وأن رعت روسيا بشأنها مبادرة دولية مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية تضمنت تدمير هذه الترسانة في عام 2013، وهي الاتفاقية التي أحبطت ضربة أمريكية كانت على وشك أن توجهها إدارة الرئيس الأمريكي السابق أوباما ردا على استهداف الأسد المدنيين في ريف دمشق من العام المذكور نفسه.

ومن ثم وجدت أوروبا أن النظام السوري لم يكن جادا في التخلص من ترسانته الكيماوية، أو أنه حصل على السلاح الكيماوي من روسيا. هذا بخلاف أن بريطانيا قدمت العديد من مشاريع القرارات لمجلس الأمن بشأن الأوضاع الإنسانية في سوريا، وتم وقفها من جانب روسيا عبر استخدام الفيتو. هذه النقطة تحديدا تُضاف إلى سلسلة إخفاقات مجلس الأمن في وقف الاندفاعة الروسية في الغوطة الشرقية، والتي تستهدف منها موسكو تنقية دمشق كاملة من أي تواجد لفصائل المعارضة السورية لتصبح كل سوريا المفيدة خالصة للنفوذ الروسي. وهنا يتخوف البعض من أن تكون الوجهة الروسية المقبلة في سوريا هو التوجه للشرق السوري حيث تتواجد القوات العسكرية الأمريكية في خطوة، إن تمت، ستكون بمثابة ضغط روسي هائل على واشنطن لحملها على تغيير استراتيجياتها الجديدة في سوريا. هذا بخلاف ما يمثله سقوط الغوطة من وجهة النظر الأمريكية والأوروبية من تهديد للحليف الإسرائيلي؛ حيث إن سقوطها سيضغط على الجبهة الجنوبية الغربية القريبة من حدود الجولان المحتل من قبل إسرائيل، وهي المنطقة الخاضعة لمبادرة خفض التصعيد وتلتزم بتنفيذها فصائل المعارضة السورية الموجودة بها، وبالتالي فإن الضغط على المعارضة في الغوطة قد تدفعهم للتوجه نحو الجبهة الجنوبية في درعا بما يهدد المصالح الأمريكية البريطانية المشتركة في الجنوب. يضاف إلى ذلك الرفض الأمريكي المتصاعد لحالة التنسيق الروسي الإيراني داخل سوريا، لتعارضه مع سياستها بشأن إجهاض المشروع الإقليمي لإيران عبر العراق وسوريا. ورفضها كذلك لحالة التنسيق الروسي التركي لتعارضه مع سياستها بشأن التعاون العسكري مع الأكراد السوريين في الشمال السوري.

الدافع الثالث؛ يتعلق بوجود مؤشرات تقول بأن ثمة رغبة أوروبية- أمريكية مشتركة بالربط بين ملف الأسلحة الكيماوية السورية وملف روسيا الكيماوي؛ على خلفية اتهامات بأن المادة المستخدمة في اغتيال سكريبال شبيهة بتلك التي كان يتم إنتاجها خلال الحقبة السوفيتية. وأن الغاز المستخدم من قبل النظام السوري في الغوطة مصدره روسيا. وهو ما يعني مزيدا من الضغط الأمريكي الأوروبي على موسكو قد يصل إلى حد اتهامها بتهديد الأمن والسلم الدوليين، وقد يتبعه حملة دولية تمهد لفرض مزيد من العزلة على روسيا، خاصة أن التغييرات التي طالت الإدارة الأمريكية الحالية بإقالة مستشارين معتدلين لصالح تعيين آخرين متشددين تزيد من احتمالات إقدام هذه الإدارة على سياسات متشددة قد تُدخل المنطقة في دوامة لا نهائية من العنف وعدم الاستقرار. في هذا السياق، ثمة من يرى أن حالة التصعيد الأوروبية- الأمريكية ضد روسيا على خلفية حادثة الجاسوس سكريبال تستهدف تهيئة المجتمع الدولي لقبول ضربة عسكرية بريطانية أمريكية محتملة ضد النظام السوري خلال المرحلة المقبلة، بهدف كسر الهيبة الروسية الداعمة للأسد من ناحية، وتوضيح أن الانتصار الروسي في سوريا ليس انتصارا كاملا، من ناحية ثانية. وهو ما تعتبره روسيا احتمالا ممكنا، لذلك أعلنت هيئة الأركان الروسية في تصريح غير مسبوق بأن "إقدام الولايات المتحدة أو أيا من الدول الأوروبية على استهداف دمشق سيكون له عواقب وخيمة"، في مؤشر على احتمال استهداف روسيا للوجود العسكري الأمريكي في سوريا.

ثانيا: مستقبل العلاقات في ظل التصعيد

حالة التصعيد المستمرة بين روسيا وبريطانيا، من ناحية، وبينها وبين الولايات المتحدة، من ناحية ثانية، تفرض تساؤلات بشأن مستقبل العلاقات المتأزمة بين هذه الأطراف وسيناريوهاتها المحتملة:

السيناريو الأول، هواستمرار حالة التصعيد في إطارها الدبلوماسي ؛كالطرد المتبادل للدبلوماسيين التي بدأتها بريطانيا ودعمتها الدول الأوروبية بخطوات مماثلة، أو في إطار العقوبات الاقتصادية كتجميد الأصول الروسية في عدد من الدول الأوروبية، واستهداف أنشطة تجارية لرجال أعمال روس داخل بريطانيا وباقي الدول الأوروبية، إلى جانب استمرار فرض العقوبات الاقتصادية على الحكومة الروسية نفسها. هذا السيناريو يفترض توقيع المزيد من العقوبات النوعية على موسكو تدريجيا، أي الدخول في حالة من حالات الحرب الباردة بين أطراف الأزمة.

السيناريو الثاني، هو استهداف المصالح الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط؛ وذلك عبر توجيه ضربة عسكرية للنفوذ الروسي في سوريا، باستهداف النظام السوري على خلفية القناعة الأوروبية بأنه يستخدم الغاز السام ضد المدنيين في الغوطة. ويلاحظ أن هذا السيناريو لا يعني تحول التصعيد من مرحلته الدبلوماسية إلى مرحلة الاستخدام الفعلي للقوة بين روسيا والقوى الأوروبية، ممثلة في بريطانيا بالأساس، لوجود ما يسمى بحدود الدور الذي يجب أن تقف عنده خيارات كل طرف تجاه الآخر، وهي الخيارات المرتبطة بعدد كبير من المصالح في العديد من الملفات.  

السيناريو الثالث، هو احتواء أطراف الأزمة لخلافاتهم عبر عقد قمة روسية- أوروبية، وقمة روسية- أمريكية ؛ فثمة رأي يقول بأن حالات التصعيد الحادة في علاقات الدول بعضها ببعض قد تستهدف في أحد دوافعها عقد قمة على مستوى القيادات لاحتواء الأزمات، من خلال طرح كافة أوراق الضغط المتبادلة في الملفات الخلافية للتوصل لتسوية بشأنها.

وفي النهاية فإن العلاقات الروسية- البريطانية- الأوروبية، والعلاقات الروسية- الأمريكية مرشحة لمزيد من التصعيد خلال المرحلة القادمة، وأن حادثة اغتيال سكريبال كانت بمثابة الفتيل الذي دفع العلاقات بين تلك القوى للاشتعال والتأزم، وأدخلتها في حالة حرب باردة متصاعدة المراحل. فهل سنشهد تحولات نوعية في مسار تلك الأزمة تدفعها نحو الاحتواء والانفراج خلال الأيام القادمة، أم سيظل التأزم في العلاقات دافعا نحو حافة الهاوية؟!. 


رابط دائم: