انطلاقا من ضرورة الاهتمام بالتحولات الراهنة في نمط وهيكل التفاعلات الدولية والنظام العالمي، والتي تكشف مع الوقت عن مركزية الدور الصيني، على المستويين الاقتصادي والسياسي، عقدت وحدة الدراسات الدولية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ورشة عمل تحت "عنوان تحديات الهيمنة الغربية على ظاهرة العولمة: عولمة بملامح صينية؟" يوم الأربعاء الموافق 28 فبراير 2018 بقاعة السيد ياسين بمقر المركز لتسليط الضوء على التحولات الراهنة التي تشهدها ظاهرة العولمة، والتي تنبئ بملامح جديدة للظاهرة قد تُفضي إلى الفكاك من أسر الهيمنة الغربية على العولمة والعمليات المرتبطة بها.
استهلَّت مديرة وحدة الدراسات الدولية والخبيرة بالشئون الأفريقية الدكتورة أماني الطويل ورشة العمل بالتأكيد على أهمية الموضوع محل النقاش، ليس بالنسبة لدارسي وباحثي العلوم السياسية فحسب، وإنما للدولة المصرية أيضًا في إطار الحرص على إدراك أكثر شمولًا وأوسع أفقًا للقوى الصاعدة في النظام الدولي، الذي أضحى يتجه نحو التعددية القطبية لا سيما في ظل توجُّهات الإدارة الأمريكية الحالية وسياسات ترامب الحمائية، فضلًا عن بزوغ العديد من المؤسسات الاقتصادية والتمويلية، تقودها الصين، والتي باتت تلعب دورًا موازيًا للمؤسسات التمويلية التقليدية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
التحولات على مستوى "المؤسسية" الاقتصادية الدولية: دور متزايد لمجموعة العشرين
ألقى الدكتور محمد فايز فرحات، الخبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، المداخلة الأساسية لورشة العمل انطلاقًا من فرضية أساسية مفادها أنه ليس ثمة إدعاء بأن هناك قطيعة مع ظاهرة العولمة، التي تراكمت على مدى زمني طويل، وأسهم فيها مختلف الفاعلين في النظام الدولي، أو تحوُّل لجُلّ مكوناتها، بقدر رصد لمحاور بعينها في تطوُّر هذه الظاهرة. هذه المحاور تنبئ بملامح جديدة لظاهرة العولمة كما أنها تُعَد إيذانًا بأفول حقبة الهيمنة الغربية على عمليات العولمة.
في هذا السياق، سلَّط الدكتور فرحات الضوء على التحولات الجارية في المؤسسية الاقتصادية الدولية المتمثَّلة بصفة أساسية في البنك وصندوق النقد الدولييْن، والتي مارست دورًا أساسيًا منذ أنْ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها منتصف أربعينيات الألفية الماضية في تكريس الهيمنة الغربية على كافة الدول التي تعاني من مشكلات اقتصادية. وتمثَّل ذلك بشكل أساسي في المشروطية الاقتصادية والسياسية، وفرض برامج الإصلاح والتكيف الهيكلي التي ارتبطت بالقروض والمساعدات المالية التي منحتها هذه المؤسسات للدول النامية.
وقد رأى الدكتور فايز فرحات أن هناك صعودا لمؤسسات اقتصادية وتمويلية جديدة باتت تلعب الدور الأكبر على الساحة الاقتصادية الدولية، كالبنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية، وبعض المجموعات الاقتصادية كمجموعة العشرين G20 والبريكس.
إنَّ مجموعة العشرين، حسبما ذهب الدكتور فايز فرحات، أضحت تضطلع بدور متزايد في الاقتصاد العالمي لا سيما في أعقاب الأزمة المالية العالمية في عام 2008، والتي دحضت الاعتقاد السائد منذ الأزمة الاقتصادية الآسيوية 1996-1997 بأن الاقتصاديات الناشئة هي السبب الرئيس لما يشهده العالم من أزمات اقتصادية. فمجموعة العشرين تضم العديد من القوى الاقتصادية الصاعدة كالصين والدول الأعضاء بمجموعة البريكس. وتجاوزت اهتماماتها القضايا الاقتصادية؛ إذ أضحت تناقش أيضًا القضايا الأمنية منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، مما مهَّد السبيل أمام توسيع أجندة مجموعة العشرين وتعزيز دورها في الاقتصاد العالمي في مقابل تراجُع ملحوظ لدور مجموعة السبع الصناعية G7.
وفي معرض الحديث عن مستقبل العلاقات بين مجموعة السبع الصناعية ومجموعة العشرين، عرض الدكتور فرحات لسيناريوهات ثلاث للعلاقة بين المجموعتين؛ أولها: التنافس والصراع بين المجموعتيْن في إطار السعي الحثيث لكلٍ منهما للعب الدور الأكبر على الساحة الاقتصادية الدولية. السيناريو الثاني، ينطوي على حدوث نوع من التكامل بين المجموعتيْن؛ بحيث ينعقد دور مجموعة السبع في مناقشة القضايا الأمنية؛ كأمن الطاقة والغذاء، على أن تكون القضايا ذات الطابع الاقتصادي والتجاري المحض من اختصاص مجموعة العشرين. هذا السيناريو- كما ذهب دكتور فرحات- غير دقيق ولا يعبر عن التطور الفعلي للعلاقة بين المجموعتين، كون مجموعة العشرين أضحت تناقش القضايا الأمنية على النحو ما سبق الإشارة إليه. أما السيناريو الثالث فينصرف إلى ذوبان مجموعة السبع داخل مجموعة العشرين وتحولها إلى مجموعة فرعية داخل مجموعة العشرين.
البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية: العولمة التنموية
في سياق الحديث عن المؤسسات الاقتصادية والتمويلية الصاعدة، أشار الدكتور فايز فرحات إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية، الذي أُعْلِن عن تأسيسه بمبادرة صينية في عام 2015 بإجمالي رأس مال قدره 100 مليار دولار في إطار توجُّهات الصين الرامية إلى إقامة مؤسسات اقتصادية وتمويلية تعبِّر عن مصالح الاقتصادات الناشئة. وهو بنك متعدد الأطراف يضم في عضويته حوالي 61 دولة، وتسهم الصين فيه بنحو 29 مليار دولار أي بنسبة 31% من رأس مال البنك، وتحظى بحوالي 21% من الثقل التصويتي لأعضاء البنك. ويضم البنك في عضويته حوالي 40 دولة آسيوية (الأعضاء الإقليميين)، بجانب 21 دولة غير إقليمية أي من خارج الأقاليم الآسيوية.
والجدير بالملاحظة، كما أشار الدكتور فايز فرحات، إلى أنه ثمة تكالب أوروبي للانضمام إلى عضوية البنك، ولم ترضخ الدول الأوروبية للضغوط الأمريكية بعدم الانضمام للبنك. وهذا يدلِّل على أمريْن في غاية الأهمية؛ أولهما: قناعة تلك الدول بالدور الذي سيلعبه البنك الآسيوي على الساحة الدولية؛ كونه قد يصبح بديلا للمؤسسات الاقتصادية التقليدية في توفير التمويل وتقديم القروض. الأمر الثاني يكمن في تزايد الهوُّة بين الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.
وفيما يتعلق بفلسفة البنك الآسيوي في تقديم القروض، أوضح الدكتور فايز فرحات أنه في حين تربط المؤسسات الاقتصادية والتمويلية التقليدية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تقديم القروض والمساعدات المالية بالمشروطية الاقتصادية والسياسية، يربط البنك الآسيوي تقديم القروض بالمشروعات الاستثمارية في مجال البنية الأساسية. ويتبنى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية العديد من المبادئ التي تشكِّل في مجملها قطيعة مع فلسفة المؤسسات الاقتصادية والتمويلية التقليدية، وأبرزها: التأكيد على تعاون الجنوب- الجنوب، وإعادة الاعتبار لمفهوم التنمية، وحق كل دولة في اختيار نموذجها التنموي الذي يتوافق مع ظروفها الداخلية، فضلا عن إيلاء القدر الأكبر من الاهتمام لتنمية البنية الأساسية.
مبادرة الحزام والطريق الصينية
في إطار الحديث عن المبادرات الصينية التي تولي القدر الأكبر من الاهتمام لتوطيد تعاون الجنوب- الجنوب وتمثِّل مصالح الاقتصاديات الناشئة بمنأى عن الهيمنة الغربية التقليدية، تطرَّق الدكتور فايز فرحات إلى مبادرة الحزام والطريق التي أعلنها الرئيس الصيني في أواخر عام 2013. وتهدف المبادرة بالأساس إلى إنشاء شبكة من الطرق البرية والبحرية على قدر كبير من التعقيد، تتضمن تشييد شبكات من السكك الحديدية وأنابيب النفط والغاز، وخطوط الطاقة الكهربائية وغيرها من البنى الأساسية بغية مزيد من انفتاح الأقاليم الصينية على العالم بما يجعل الصين مركز العالم خلال سنوات قليلة.
وفيما يتعلق بتأثير هذه المبادرة الصينية المهمة على مصر، أشار الدكتور فايز فرحات إلى أن هذه المبادرة تحمل الكثير من الجوانب الإيجابية بالنسبة لمصر. ويتضح ذلك بصورة جليَّة في كون قناة السويس جزءًا من المكون البحري لطريق الحرير، ومن ثم إتاحة الفرصة أمام الجانب المصري للحصول على تمويل لمشروعات البنية الأساسية لتنمية محور قناة السويس لتطوير الموانئ وشبكات الطرق وخدمات التجارة والملاحة. كما أنَّ هناك فرصة سانحة لدمج اكتشافات الغاز في البحر المتوسط في المشروعات المرتبطة بالمباردة وأسواق الطاقة الإقليمية المتوقعة.
وعقب انتهاء المداخلة الرئيسية للدكتور محمد فايز فرحات، فتحت الدكتورة أماني الطويل باب النقاش لإثراء الحديث. وقد بدأت المداخلات بتساؤل طرحته الأستاذة شيماء منير، الباحث بوحدة الدراسات الدولية، حول إمكانية تعزيز الهوية العربية في ضوء أفول نجم المؤسسات الاقتصادية التقليدية والهيمنة الغربية على النظام الدولي، فضلا عن التشابه بين ملامح الحضارة الصينية والحضارة العربية، وإلى أي مدى ستؤثر هذه المشروعات الصينية على مسار الصراع العربي- الإسرائيلي؟
وتساءلت الدكتورة أميرة عبد الحليم، الباحث بوحدة الدراسات الدولية، حول دلالات إنشاء الصين لقاعدة عسكرية في جيبوتي، وهل سينذر ذلك بتحوُّل في فلسفة الصين التي تقضي بعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول أم سيكون بداية لدور عسكري متزايد للصين على الساحة الدولية؟ وطرح الدكتور عادل عبد الصادق، الباحث بوحدة الدراسات الدولية، تساؤلا حول إمكانية استمرار المشروعات الصينية الطموحة دونما وجود لقوة عسكرية صينية تحمي المكتسبات الصينية خاصة في ظل الفجوة الكبيرة بين القوة العسكرية الأمريكية والصينية، إلى جانب التساؤل حول إمكانية نجاح تلك المبادرات في ضوء النزاعات والملفات العالقة بين الصين ودول الجوار.
وفي إطار الحديث حول تصاعد المؤسسات الاقتصادية والتمويلية التي تقودها الصين كي تحل محل المؤسسات التقليدية، تساءلت الدكتورة أمل مختار، الباحث بوحدة الدراسات الدولية، حول احتمال أن تخلق تلك العولمة بملامحها الصينية صراعات دولية كبرى بين الولايات المتحدة والصين، وإلى أي مدى يمكن لتلك المؤسسات الصاعدة أن تضطلع بدور المؤسسات التقليدية في الاقتصاد العالمي؟
في ختام ورشة العمل، كان التعقيب النهائي للدكتور محمد فايز فرحات، والذي أوضح من خلاله أن المبادرات والمشروعات الصينية الطموحة كالبنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية، ومبادرة الحزام والطريق والبنوك الصينية كبنك التنمية الصيني وبنك الصين للصادرات والواردات وغيرهما، قد أكسبت مفهوم "العولمة التنموية" حالة من الزخم الحقيقي، ونجحت في استقطاب كثير من الدول في ضوء تأكيدات الخطاب الصيني على عدم المساس بسيادة الدول أو التدخل في الشئون الداخلية، وحق كل دولة في تبني نموذج اقتصادي يتناسب وخصوصية أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، والمضي قدما في دفع تعاون الجنوب- الجنوب والالتزام بالعولمة الاقتصادية في إطار تعاوني تكاملي يمهِّد السبيل إلى نظام دولي متعدد الأقطاب، ويمهد الطريق أمام طبعة صينية من ظاهرة العولمة.