التفاوت الكبير في ردود الأفعال حول الأنباء التي تواردت في منتصف شهر فبراير الماضي (2018) بشأن الاتفاق التجاري، الذي أعلنته مجموعة "ديليك" الإسرائيلية للطاقة، حول تصدير64 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي (بقيمة حوالي 15 مليار دولار) إلى شركة "دولفينوس" المصرية على مدار العشر سنوات القادمة، يجب أن يُعطي إشارة تنبيه وحذر حول التفاؤل بشأن إمكانية بزوغ عصر جديد لمنطقة الشرق الأوسط يقوم على التعاون الاقتصادي في مجال الغاز والطاقة، نتيجة الاكتشافات الهائلة من الغاز الطبيعي في منطقة شرق البحر المتوسط، والتي وصل إجمالي حجمها حتى الآن حوالي 1.89 تريليون متر مكعب (فضلا عن إمكانية وجود اكتشافات أخرى في مناطق أخرى مثل لبنان وقطاع غزة الفلسطيني وسوريا وقبرص).
في الوقت الذي أقام فيه العاملون في الشركات المطورة لحقلي الغاز الطبيعي الإسرائيليين "تمار" و"ليفاثيان"، الاحتفالات نتيجة الارتفاع الصاروخي في أسهم هذه الشركات في بورصة تل أبيب للأوراق المالية، رفض مسئولو شركة "دولفينوس"، الطرف المصري الذي سوف يشتري الغاز الإسرائيلي، التعليق على هذه الأنباء. وبينما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي يمدح الصفقة ويصفها بـ"التاريخية" وهو يكاد يرقص فرحا (رغم اتهامه بالفساد مؤخرا)، كان الوضع مخالفا تماما في مصر، حيث ساد الهدوء في مختلف الأوساط الرسمية، إلى أن ألمح الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى أن مصر أحرزت "هدفا" في مجال أن تصبح مصر مركزا إقليميا لتجارة الغاز في المنطقة. أما مسئولو وزارة البترول المصرية فقد رفضوا منح تفسيرات مفصلة لهذه الصفقة، مكتفين بتوضيح أن الاتفاق يخص شركة خاصة لا تتبع الحكومة.وربما كان رد الفعل الرسمي المصري الأبرز، تجاه هذه الصفقة، هو تصريحات وزير البترول والثروة المعدنية، طارق الملا، التي قال فيها "نحن لا نمانع استيراد الغاز من إسرائيل، ولكن بشروط"، في إشارة إلى رغبة الدولة المصرية في إلغاء قرار التحكيم الدولي بتغريم مصر 1.76 مليار دولار، لصالح شركة الكهرباء الإسرائيلية، كتعويض عن قطع إمدادات الغاز عنها منذ عام 2012.
صحيح أن صفقة الغاز المصرية الاسرائيلية، إن تمت، يمكن أن تحدث تحولا جذريا في منطقة الشرق الأوسط، حسبما يأمل عدد من الخبراء المتابعين لاكتشافات الغاز في شرق البحر المتوسط، إلا أن ذلك سوف يتوقف، في الغالب، على من سيكون له الغلبة والانتصار في هذه المنطقة المضطربة من العالم في المدى القريب.. الاقتصاد أم السياسة؟
صعوبة الإبحار في العواصف السياسية
اقتصاديا، تحل صفقة الغاز المصرية- الإسرائيلية المشكلة الوحيدة المتبقية لتصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا. فجميع البدائل الأخرى أمامها عراقيل مالية وأمنية وسياسية ضخمة.
أحد البدائل المتاحة، والذي تمت الموافقة عليه من الناحية المبدئية في 5 ديسمبر 2017 بين إسرائيل وعدد من الدول الأوروبية، هو ضخ الغاز الإسرائيلي والقبرصي مباشرة إلى أوروبا عبر ممر الغاز الجنوبي (بطول ألفين كيلومتر تقريبا) من خلال تنفيذ مشروع خط شرق المتوسط Eastern Mediterranean Pipeline (EMP)، الذي سوف يربط كلا من إسرائيل وقبرص باليونان، عبر جزيرة كريت. إلا أن هذا الخيار يواجه العديد من التحديات المالية والفنية والتجارية، منها وصول تكلفته إلى حوالي 7.4 مليار دولار، وهي تكلفة عالية جدا في ضوء ضآلة الكمية التي سوف ينقلها الخط من الغاز الطبيعي إلى أوروبا. ومن الناحية السياسية، من المتوقع أن يواجه هذا البديل معارضة شديدة من جانب روسيا (الحريصة هي الأخرى على منع دخول أي مصدر كبير جديد للغاز الطبيعي إلى أوروبا، وبالتالي فهي مستعدةلخفض سعر الغاز الطبيعي الروسي للتأثير على الجدوى الاقتصادية لإنشاء أية خطوط أنابيب جديدة تتجه إلى أوروبا).
البديل الثاني، هو نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا من خلال خط أنابيب إلى تركيا. ويتمتع هذا البديلبجدوى أفضل، حيث إنه الأرخص والأسرع من حيث المدة اللازمة للإنشاء. لكن هذا المسار يمنح بلدين - هما قبرص وتركيا - السيطرة على صادرات الغاز الإسرائيلية، وهاتان الدولتان ليستا لهما علاقات جيدة مع بعضهما البعض. كما أن علاقات تركيا مع إسرائيل ظلت في وضع سئ لفترة طويلة في السنوات الأخيرة، رغم تطلع تركيا لكي تصبح مركزا للطاقة في المنطقة.
البديل الثالث، هو التخلي عن نقل الغاز عن طريق الأنابيب، والاعتماد على تسييله ثم نقله بالسفن إلى الأسواق الأوروبية والآسيوية. ومن هنا كان اللجوء إلى مصر هو الخيار الأمثل (بالنسبة لإسرائيل وقبرص) في الوقت الحالي. يرجع ذلك إلى امتلاك مصر محطتين لتسييل الغاز الطبيعي في ادكو ودمياط، (وهما حاليا في وضع الخمول، نتيجة توقف مصر عن تصدير الغاز الطبيعي نتيجة تراجع الإنتاج وتعاظم الطلب المحلي) فضلا عن امتلاك مصر شبكة متطورة من خطوط الأنابيب لنقل الغاز الطبيعي، مما يؤهل مصر لتصبح مركزا إقليميا لتصدير الغاز. لذا، نظرت إسرائيل وقبرص إلى مصر بإعتبارها المفتاح الرئيس لمستقبل مشرق للغاز الطبيعي في شرق المتوسط، في ظل عدم قدرتهما على الحصول على موارد مالية ضخمة من أجل إقامة البنية الأساسية اللازمة لتصدير الغاز إلى الخارج، سواء في شكل محطات لتسييل الغاز الطبيعي (العائمة أو الأرضية) أو في شكل مد أنابيب الغاز إلى القارة الأوروبية. لكن هذا البديل يعترضه عقبة سياسية مهمة، وهي عدم التوصل إلى اتفاق جديد، حتى كتابة هذه السطور، بين القاهرة وتل أبيب بشأن إلغاء حكم التعويض الصادر ضد الجانب المصري لصالح شركة الكهرباء الإسرائيلية، نتيجة التوقف المصري عن تصدير الغاز للجانب الإسرائيلي في عام 2011. وفي ضوء ذلك، يؤكد كثير من المراقبين أن صفقة الغاز المصرية- الإسرائيلية لم تكن سوى مجرد إشارة على "استعداد" القاهرة للتعاون، في حالة التوصل إلى اتفاق سياسي بين القاهرة وتل ابيب بشأن إلغاء هذا التعويض.
وتنطبق أولوية البعد السياسي على الاقتصادي في تحقيق الاستفادة من اكتشافات الغاز الطبيعي الهائلة في منطقة شرق البحر المتوسط، بالنظر إلى طبيعة العلاقات الحالية بين تركيا وقبرص من ناحية، وبين إسرائيل ولبنان، من ناحية أخرى. وتمثل الخلافات العميقة والصراعات المزمنة بين هذه الدول ، والتي ربما تتفاقم نتيجة اكتشافات الغاز في المنطقة، أحد المعوقات المهمة أمام تطوير اكتشافات الغاز الطبيعي في شرق المتوسط. فمن ناحية، تتجه تركيا، استنادا إلى قوتها العسكرية، إلى منع قبرص من تطوير مواردها في المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة بها، طالما لم يتم حل المشكلة القبرصية، وذلك على أساس أن موارد الغاز الطبيعي في المياة القبرصية، يجب أن تتم مشاركتها بين القبارصة الأتراك والقبارصة اليونانيين. ومن هنا كانت "دبلوماسية البوارج الحربية"، التي شهدها العالم مؤخرا من جانب أنقرة لمنع شركة ايني من العمل في المياة القبرصية، مؤشرا واضحا على رغبة تركيا في إيصال هذه الرسالة، خاصة مع تصاعد المخاوف التركية من تزايد التقارب العسكري والاستراتيجي بين اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر. ففي 6 فبراير 2018، نشرت القوات المسلحة التركية مذكرة تعلن فيها عن إجراء مناورات عسكرية في كافة المياة المواجهة لجنوب قبرص حتى 22 فبراير. وفي 9 فبراير، منع الجيش التركي سفينة حفر تابعة لشركة إيني من الإبحار في المنطقة الواقعة بين القطاعين 6 و 9، كما مددت تركيا مناوراتها العسكرية حتى 10 مارس 2018.
كذلك، أكدت أنقرة رفضها لجميع الاتفاقيات التي توصلت إليها قبرص لترسيم حدودها البحرية، بما في ذلك تلك الاتفاقات التي توصلت إليها مع مصر وإسرائيل. ويتوقع كثير من الخبراء أن تستمر تركيا في موقفها المعادي بشأن أنشطة البحث والاستشكاف عن الغاز الطبيعي في المياة القبرصية، خاصة بعد انهيار محادثات إعادة توحيد الجزيرة القبرصية في يوليو 2017. بل وربما تتجه تركيا إلى استخدام أول سفينة حفر حديثة لديها، وهي سفينة Deepsea Metro II ، لدعم مطالبها السياسية في المنطقة، مثلما تفعل الصين في بحر الصين الجنوبي، حيث يشير عدد من المصادر إلى أن شركة البترول الوطنية التركيةTPAO تخطط للقيام بأنشطة الاستكشاف في المنطقة المتنازع عليها مع قبرص، وذلك بمرافقة سفن البحرية التركية.
ويشار في هذا الصدد إلى أن أنقرة كانت قد هددت في عام 2012 بوقف كافة تعاملاتها الاستثمارية مع أي شركة تستكشف النفط أو الغاز الطبيعي في قبرص. هذا في الوقت الذي يوجد فيه لدى شركة إيني استثمارات كبيرة في تركيا، بما في ذلك مشروع خط أنابيب "بلو ستريم"، الذي ينقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى تركيا. وبالتالي، إذا أحرزت قبرص مزيداً من التقدم نحو الاستغلال التجاري لاكتشافاتها من الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، بمساعدة شركة أيني، فمن المرجح أن تواصل أنقرة مضايقتها وضغوطها على الشركة.
من ناحية أخرى، تبرز أولوية السياسة على الاقتصاد أيضا في تطوير اكتشافات الغاز الطبيعي في شرق المتوسط بالنظر إلى التفاعلات اللبنانية- الإسرائيلية في هذا الخصوص. فقد يؤدي اختلاف الرؤى اللبنانية والإسرائيلية حول الحدود البحرية إلى تهديدات متبادلة بإمكانية اللجوء إلى القوة في حالة قيام الطرف الآخر بانتهاك الحدود التي يرى كل طرف أنه يمتلك حق السيادة عليها. ففي يناير 2017، أقر مجلس الوزراء اللبناني قانونين كانا ضروريين لعقد الجولة الجديدة من مناقصات التنقيب عن الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، كما وافق البرلمان اللبناني أيضا على قانون ضرائب النفط والغاز الطبيعي في سبتمبر 2017. وبفضل هذه اللوائح الجديدة، أجرى لبنان أول جولة للمناقصات في الربع الأخير من العام 2017، والذي تم بمقتضاها منح القطاعين رقمي 4 و 9 إلى كونسورتيوم (تحالف شركات) بقيادة شركة توتال الفرنسية، ويشمل شركتي إيني الإيطالية و نوفاتيك الإيطالية.
لكن في أوائل فبراير 2018، أصدرت إسرائيل تحذيرات صارمة إلى هذا "الكونسورتيوم"، مشيرة إلى أن أية أنشطة هناك ستكون "صعبة للغاية واستفزازية". وردا على ذلك، هدد حزب الله اللبناني بمهاجمة البنية التحتية للفط والغاز الطبيعي في إسرائيل، في حال تحركت إسرائيل لمنع أعمال التنقيب في المياة اللبنانية.
فإذا ما أضيف إلى هذه العلاقات المتوترة إمكانية أن تسعى بعض القوى الإقليمية (خاصة تركيا وقطر)، إلى زيادة عدم الاستقرار والفوضى في المنطقة (من خلال دعم الحركات الإرهابية) من أجل عرقلة تصدير الغاز من منطقة شرق المتوسط إلى أوروبا لتأثيره السلبي على مصالحهما الحالية والمستقبلية في تجارة الغاز، يمكن تفهم مدى تعقد البيئة السياسية والإستراتيجية لتطوير وتصدير الغاز الطبيعي من المنطقة في المدى المنظور. وبالتالي، يرى عدد من الخبراء أنه دون حل المشاكل السياسية العالقة بين دول منطقة شرق المتوسط، فسوف تظل هذه الدول، على الأرجح، غير قادرة على الاستفادة المثلى من العوائد الاقتصادية المتوقعة من الاكتشافات الهائلة للغاز الطبيعي في المنطقة. وربما يؤدي ذلك، إن آجلا أو عاجلا، إلى زيادة احتمالات المواجهة العسكرية بين دول منطقة شرق المتوسط، خاصة مع ميل معظم هذه الدول إلى استخدام كافة الوسائل الممكنة (بما فيها الخيار العسكري) من أجل الدفاع عما تعتقد أنها "حقوق" لها في هذه الاكتشافات.