في الأول من ديسمبر الجاري (2017) حان موعد النظر في قرار الكونجرس الأمريكي الصادر في عام 1995، والخاص بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس. ولأسباب بدت غامضة قام الرئيس دونالد ترامب بتأجيل قراره إلى يوم غد الأربعاء 6 ديسمبر. كما هو معروف يعاد عرض هذا القرار كل ستة أشهر على الرئيس للتوقيع على أمر بتنفيذه، أو استغلال الحق -الذي منحه له الكونجرس- في تأجيل تطبيقه لدواعي تخص الأمن القومي الأمريكي. ومنذ صدور هذا القرار عن الكونجرس اتخذ الرؤساء الأمريكيون، منذ كلينتون، ومرورًا ببوش الابن وأوباما، وحتى ترامب نفسه في يونيو الماضي، قرارًا بتأجيل نقل السفارة إلى القدس.
تأجيل موقف ترامب من القرار الآنف الذكر لمدة ثلاثة ايّام فقط أحدث موجة من التكهنات حول ما ينوي اتخاذه فعلا، وإذا الأمر سينتهي باتخاذ الموقف التقليدي والمعتاد للرؤساء الأمريكيين منذ أكثر من عشرين عامًا، فلماذا لم يعلن عنه في موعده المعتاد، وقام بتأجيله لبضعة ايّام؟ أما إذا كان يجهز لقرار مختلف، فهل سيكون هذا القرار متعلقا بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، أم سيكون قرارا تمهيديا من نوع حث الحكومة الأمريكية على إعداد مبنى السفارة في القدس دون الإعلان عن نقلها في الحال؟ أو ربما سيكون قرارا تعترف فيه الولايات المتحدة بأن القدس مدينة موحدة وغير قابلة للتقسيم وعاصمة إسرائيل؟
قبل تناول هذه الاحتمالات من الضروري الإجابة عن سؤال أولي: ما هي دوافع ترامب للخروج على المواقف التقليدية للإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدى أكثر من عشرين عامًا بشأن هذه القضية؟
دوافع ترامب لإعلان تراجيدي
من وجهة نظر ديفيد ميللر - الذي عمل في أطقم الوساطة الأمريكية بين إسرائيل والفلسطينيين في عدة إدارات – فإن ترامب لم يكن ليؤخر قراره بشأن نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس ثلاثة أيام إلا لأنه يجهز قرار يريد أن يكون تحولًا تراجيديا يجذب أكبر قدر من اللغط من حوله، أي أن يتخذ موقفا مغايرا لمواقف الرؤساء الأمريكيين منذ عام 1995، والذين دأبوا على تأجيل تطبيق القرار كلما حان موعد النظر في تطبيقه. بمعنى آخر، يريد ترامب أن يكون أول رئيس أمريكي يعد أثناء حملة انتخابه بتطبيق القرار ويقوم بتنفيذه بالفعل.
ما يقوله ميللر في تحقيق نشرته Times of Israel في الثاني من ديسمبر الجاري، يتفق مع تفسيرات رائجة ترى أن ترامب، ونتيجة اشتداد الخناق من حوله بعد اعتراف مستشاره السابق مايكل فلين بالكذب على المحققين الذين يفحصون اتصالاته مع روسيا أثناء الحملة الانتخابية لترامب، يريد تحقيق هدفين رئيسين. الأول، هو تشتيت الانتباه بقرار يثير شهية الإعلام للابتعاد عن قضية الاتصالات مع روسيا إبان الحملة الانتخابية. الثاني، هو الدفع باللوبي اليهودي، صاحب النفوذ القوي في الكونجرس، للوقوف خلفه في مواجهة خصومه الذين يسعون للإطاحة به عبر عزله عن طريق الكونجرس كما حدث من قبل مع الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في أعقاب انكشاف فضيحة ووترجيت عام 1974.
رغم وجاهة هذا الربط بين حاجة ترامب لدعم اللوبي اليهودي له داخل الكونجرس، وبين اتخاذ قرار يرضي إسرائيل، إلا أنه تفسير لا يأخذ في الاعتبار أربعة عوامل أخرى قد تقلل من فائدة قرار نقل السفارة حال اتخاذه من جانب ترامب.
1- أنه على الرغم من وجود أحزاب إسرائيلية -مثل حزب البيت اليهودي الذي يعمل من داخل الائتلاف الذي يقوده ناتانياهو- تضغط هي وجماعات أخرى من أجل قيام إدارة ترامب بتنفيذ قرار نقل السفارة، إلا أن الموقف الإسرائيلي الرسمي لا يضغط في هذا الاتجاه ، بل ربما تحبذ الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تأجيل إدارة ترامب نقل السفارة كما فعلت سابقاتها بسبب الخشية من اشتعال انتفاضة فلسطينية تقود إلى مواجهات عنيفة وممتدة، قد تؤدي إلى مخاطر أمنية شديدة على إسرائيل، وقد تورطها في حرب إقليمية أكثر اتساعا. بمعنى آخر، لا يمكن استبعاد أن اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة قد يتفق مع التقديرات الأمنية الإسرائيلية بهذا الشأن، وبالتالي فلن يشعر بامتنان تجاه ترامب في حالة اتخاذه هذا القرار إن لم يكن يسعى فعليا لإقناعه بتأجيله.
2- أن افتراض أن اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة محصور بمنظمة الإيباك التي تتبع المواقف الإسرائيلية الرسمية على الدوام ، يتجاهل التطور الكبير الذي شهدته الساحة الأمريكية منذ عام 2008 مع صعود تأثير حركة الشباب اليهودي اليساري التوجه المعروفة باسم j- street، وتمكنها من التأثير في إدارة أوباما، بل وتجنيد التأييد لأكثر من 30 عضو كونجرس في الانتخابات الماضية. وتدعو هذه الحركة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وتفكيك المستوطنات، وتدعم حل الدولتين. كما دخلت في السنوات الأخيرة في معارك مفتوحة مع الإيباك واليمين الأمريكي، وحتى المسؤلين المتشددين في حكومة ناتانياهو حول هذه القضايا، وكانت آخر هذه المواجهات مع نائبة وزير الخارجية الإسرائيلي تسيبي حوتوبلي التي هاجمت الشباب اليهودي الذي تظاهر ضدها أثناء زيارتها للولايات المتحدة مؤخرا، وهو ما أزعج ناتانياهو بشده لما قد يحمله ذلك من تأثير سلبي على علاقة اليهود الأمريكيين بإسرائيل في المدى المنظور. بمعنى أكثر وضوحا، سيكون انحياز ترامب للإيباك - بافتراض أن الإيباك يدعم قرار نقل السفارة الآن - بمثابة الدخول في صدام مع حركة j-street المدعومة من الشباب الأمريكي، خاصة في الجامعات مما يزيد من حجم المعسكر المعادي داخل أوساط الشعب الأمريكي، وهو ما لا يريده ترامب بالتأكيد.
3- أن إسرائيل التي تخشى من أن يؤدي القرار إلى تفجير انتفاضة فلسطينية ثالثة في مواجهتها، تخشى بالقدر نفسه أن تتعرض الولايات المتحدة ومصالحها في الخارج لعمليات إرهابية يتم تبريرها من جانب مرتكبيها بأنها ردا على قرار ترامب بنقل سفارة بلاده إلى القدس، وهو ما يعني تحمل إسرائيل لاتهامات -تعالت في السنوات الأخيرة- من قبل بعض النخب الأمريكية التي ترى أن الولايات المتحدة لا يجب أن تدفع ثمن حمايتها للقرارات التي تساند إسرائيل وتتسبب أيضا في الإضرار بالأمن والمصالح الأمريكية.
4- مازالت التحليلات التي تتحدث عن حاجة ترامب لقرار يسحب الأضواء من حول الاتهامات التي تطارد إدارته بالسماح لروسيا بالتدخل في الانتخابات الأمريكية الماضية، تراهن على أن المخرج الوحيد لترامب لتحقيق ذلك، هو العمل على المسار الفلسطيني – الإسرائيلي، خاصة فيما يتعلق بمصير القدس التي لا تعتبر قضية مهمة في السياسة الخارجية الأمريكية فقط، بل قضية تهم قطاع المتدينين في الولايات المتحدة الذين يتبعون الكنائس المدعومة مما يسمي بالمسيحية - الصهيونية، بما يعني أن أي قرار يتعلق بالقدس سيضمن لترامب تأييدا داخليا قد يعادل الخسائر المتوقعه خارجيا وربما يفوقها. يعيب هذا التصور أنه لا يراعي تنوع المواقف داخل الإدارة الأمريكية، ووجود حسابات مختلفة في تكلفة القرار سواء للخارجية الأمريكية أو البنتاجون والأجهزة الأمنية الأمريكية، مما يعني أن ترامب والبيت الأبيض ليس العنصر الوحيد في اتخاذ القرار المعني. كما أن قرار نقل السفارة ليس بالضرورة هو القرار الوحيد الذي يمكن أن يحقق لترامب ما يريده لنفسه ولصالح استقراره في البيت الأبيض.
سيناريوهات مُحتملة
تتنوع السيناريوهات المتوقعه لما سيعلنه ترامب غدا الأربعاء السادس من ديسمبر 2017 ما بين الأكثر تراجيدية إلى الأقل، وصولا للموقف التقليدي والمتكرر بتأجيل تنفيذ قرار نقل السفارة لستة أشهر أخرى.
السيناريو الأول، تصديق ترامب على قرار نقل السفارة
يعد هذا الاحتمال هو الأضعف، قياسا على ما ذكرناه سابقا من تعدد مراكز صناعة القرار داخل النظام السياسي الأمريكي، وأنه لن يحقق لترامب سوى تغييب أخبار الملاحقات القضائية لأتباعه لفترة قد تكون قصيرة، لأن الديمقراطيين لن يسمحوا بأن تفلت ورقة اتهام ترامب بالتعاون مع روسيا للتدخل في الانتخابات الأمريكية الماضية من أيديهم، وسيعودون سريعا للتركيز على هذا الملف. وقد تخدمهم التطورات في حالة وقوع عمليات إرهابية في الداخل أو ضد المصالح الأمريكية في الخارج ردا على قرار نقل السفارة، لكي يتهموا ترامب بعدم الأهلية للاستمرار في قيادة الولايات المتحدة.
السيناريو الثاني، تحديد موعد لافتتاح السفارة
هناك احتمال أن يدعو ترامب وزراة الخارجية الأمريكية للشروع في بناء السفارة الأمريكية في القدس، وأن يطلب أن ينتهي البناء في موعد أقصاه يونيو القادم (الموعد القادم لعرض قرار نقل السفارة). وكانت القناة الثانية الإسرائيلية قد تناولت في الأسابيع الثلاث الماضية تحقيقات موسعة عن وصول مسؤولين أمريكيين للقدس لمعاينة موقع السفارة الذي تم اختياره في أحد الفنادق القديمة، واستعرض الفريق الأمريكي التصميمات المقدمة من مكاتب استشارية أمريكية وإسرائيلية. بل زعم أحد هذه التحقيقات الذي نشره موقع المصدر الإسرائيلي في الثاني من ديسمبر الجاري أن التصميمات المقدّمة إلى هيئات التخطيط المحلية المسئولة، تشير إلى أن الخطة الأمريكية لبناء السفارة قد بُلوِرَت حقا. وتشمل الخطة رسم وبناء غرف محصّنة، وطرقا للهروب، ومداخل ومخارج جديدة ليست قائمة حاليا في مبنى الفندق، وغرفا تحت الأرض، وغرفا آمنة، وتحصينات للموقع، وإضافة عناصر أمنية خارج الخط الأمامي للمبنى، مثل الجدران والكاميرات الإلكترونية ونقاط الحراسة.
يبدو تحقق هذا الاحتمال متوسطا؛ فهو لن يغضب العواصم العربية والإسلامية كونه أجل توقيع قرار النقل لستة أشهر كما فعل الرؤساء الأمريكيون السابقون. وفِي الوقت ذاته سيكون قد منح الإسرائيليين خطوة لم يقدم عليها أي رئيس أمريكي سابق. وسيشكل القرار في جانب آخر ضغطا على الفلسطينيين والعواصم العربية المؤيدة لاستئناف مسيرة المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين لكي يبلورا استجابة سريعة لخطة ترامب المنتظر طرحها لحل المعضلة الفلسطينية والمسماة إعلاميا "صفقة القرن"، وإلا سيكون البديل هو نقل السفارة وتحمل تبعات القرار سياسيا وأمنيا، وتحميل الفلسطينيين والعرب مسؤولية ضياع فرصة تسوية - حتى لو كانت غير عادلة للفلسطينيين - كان من شأنها إعادة ترتيب التحالفات الإقليمية لمواجهة مخاطر التمدد الإيراني والتنظيمات الإرهابية التي باتت تهدد أكثر من بلد عربي.
السيناريو الثالث، التأجيل والاعتراف
يمكن صياغة هذا الاحتمال على الوجه التالي: تأجيل التصديق على قرار نقل السفارة، والإعلان في الوقت نفسه عن اعتراف واشنطن بالقدس عاصمة لإسرائيل على أن تُناقش مسألة وضع الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في المفاوضات التي ستجرى وفقا لـ"صفقة القرن"، والتي يبدو أن إخراج القدس منها سيكون أمرا واقعا في كل الأحوال. ويبدو هذا الاحتمال فوق المتوسط، كونه سيقلل المشاعر العدائية المنتظرة من جانب الشعوب الإسلامية بسبب عدم اعترافه بولاية إسرائيل على الأماكن المقدسة، وعلى الجانب الآخر يمكن تحمل بعض مظاهر الاحتجاج من جانب الجماعات السياسية سواء في إسرائيل أو العالم العربي والإسلامي والتي ستكون وقتية بسبب انشغال هذه الشعوب بأوضاع بلدانها الداخلية والتي تتقدم في أولوياتها على القضايا القومية منطقيا وفعليا.
السيناريو الرابع، العودة للقرار الروتيني
أي أن يعلن ترامب تأجيل نقل السفارة لستة أشهر أخرى وفقط، وهو احتمال يبدو ضئيلًا للغاية ولا يتسق مع سعي ترامب لتشتيت الانتباه عن مشاكله الداخلية، ولا يتسق مع تأجيله قرار كان يمكن أن يتخذه في موعده المحدد أثناء عطلة نهاية الأسبوع الماضي لو كان قرارًا روتينيا، ولكنه فضل تأجيله ليضمن جذب اهتمام إعلامي وشعبي به في ذروة النشاط الأسبوعي، بما يعني أنه ربما يحمل جديدا في هذا الملف.
وفِي كل الاحتمالات الثلاثة الأولى سيكون اتخاذ أي قرار هو جزء من حسابات أوسع تتعلق بالصفقة التي يجهزها ترامب منذ وصوله للبيت الأبيض (صفقة القرن).