إن مواجهة الدول العربية للانحراف الفكري الديني المصاحب لعودة المقاتلين/ الإرهابيين من العراق وسوريا بعد هزيمة تنظيم داعش هناك، تتطلب بناء رؤية استراتيجية باستخدام مفهوم الأمن الفكري، بحيث يسير جنبا إلى جنب مع المعالجة الأمنية للإرهاب. فمن المتوقع أن يكون أعداد العائدين من داعش غير قليلة بعد هزيمته في العراق وسوريا. ومن المحتمل أن تزداد بعد الخروج التالي من ليبيا مستقبلا.
فقد تكشف خبرة التعامل مع العائدين من أفغانستان عن أن إهمال تطوير إستراتيجية للتعامل معهم فكريا كانت سببا فى استمرار جاذبية أفكارهم المنحرفة لأجيال مختلفة من الشباب، فضلا عن تحولهم لممارسة العنف فى أوطانهم.
وفى هذا السياق،يقدم العدد الجديد من دورية "بدائل" التي تصدر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية،رؤية إستراتيجية للدول العربية من أجل تحقيق المواجهة الفكرية لأفكار الإرهابيين العائدين من تنظيم داعش بعد هزيمته في العراق وسوريا. وتنقسم الدراسة إلى ثلاثة أقسام رئيسية، يناقش القسم الأول طبيعة وأسباب الانحراف الفكري لدى الشباب، ويحلل القسم الثاني أهمية ودور الأمن الفكري،ويقترح القسم لثالث رؤية إستراتيجية لوقاية الشباب من الانحراف الفكري في مرحلة ما بعد هزيمة داعش.
وتوضح الدكتورة إيمان رجب، الخبيرة في مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجيةورئيس تحرير الدورية، فى افتتاحية العدد التى تحمل عنوان "أهمية المواجهة الفكرية للتطرف" أن تزايد تأثير أفكار داعش فى العديد من دول العالم أدى إلى انشغال الدوائر الأكاديمية والسياسية خلال الفترة الحالية بسؤال محدد مرتبط بمدى فاعلية السياسات التي تبنتها العديد من الدول لمواجهة التهديدات التي يطرحها هذا التنظيم، وتقصد بالفاعلية هنا قدرة تلك السياسات على تقليص أو الحد من جاذبية أفكار التنظيم. كما تشير إلى دور وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعى فى انتشار هذه الأفكار، ومساهمة تلك الوسائل فى تحويل المدة اللازمة لتجنيد أتباع جدد من فترة لا تقل عن ستة أشهر إلى مدة لا تتطلب أكثر من أسبوع.
كما توضح الدكتورة إيمان رجب أن هذا الوضع يجعل مواجهة تنظيم داعش تتطلب صياغة حملات فكرية قادرة على تفنيد أفكار التنظيم وأيضا طرح أفكار بديلة لها، وهو ما يؤدي إلى تزايد أهمية تبني المدخل الفكري في التعامل مع الأفكار المتطرفة والمنحرفة لتنظيم داعش، وذلك مع استمرار المواجهات العسكرية معه في العراق وسوريا والتي يقودها التحالف الدولي.
وقد أعد الدكتور عبدالغفار الدويك الأستاذ المشارك للعلوم الإستراتيجية والأمنية بجامعة نايف للعلوم الأمنية، الدراسة الرئيسية لهذا العدد والتى تحمل عنوان "رؤية إستراتيجية لتحقيق الأمن الفكري في مرحلة ما بعد هزيمة داعش"، وفيما يلي عرض مفصل للأفكار الواردة فى هذه الدراسة.
طبيعة وأسباب الانحراف الفكري لدى الشباب
يرى د. الدويك أن الانحراف الفكري الديني صورة من صور التطرف،والذي يعرفه بأنه الفكر الذي "يحيد عن ويخالف تعاليم الدين الإسلامي السمحة بما لا يتفق مع المقاصد العامة للدين الإسلامي". كما يوضح أن هناك عدة سمات يتصف بها الشخص المنحرف ومنها فقدان البصيرة وعدم القدرة على الاستبصار والابتكار والجمود والتصلب العقلي والوجداني، وعدم القدرة على تحمل الغموض واللجوء إلى سلوك العنف كتعبير عن وجهة النظر الشخصية. ويمكن القول إن تلك السمات قد تؤدي إلى إحساس الشخص المنحرف بالاغتراب والعزلة وإيجاد حالة من القطيعة مع الأسرة والأصدقاء، ومن ثم المجتمع والدولة، مما يولد لديه شعور بأنه يعيش في سجن داخلي وهو ما يحمله دوافع انتقامية ضد المجتمع والدولة على نحو يجعله أكثر عرضة للاستقطاب من قبل الجماعات المتطرفة.
وترى الدراسة أن أشكال ومظاهر الانحراف الفكري السائدة بين الشباب في المجتمعات العربية تعبر عن حالة من الاقتناع بكون العنف هو الوسيلة الوحيدة التي تحقق الأهداف، وهو ما ينتج عنه القيام بالعمليات الإرهابية، وأن الانحراف الفكري الذي يعبر عنه داعش هو نتاج مجموعة من العوامل، منها ضعف الانتماء الوطنى، وتغييب الهوية الفكرية والثقافية، والتغير في أنماط السلوك، مما أضعف قناعات المواطنين الدينية والوطنية والأيديولوجية.
وتحدد الدراسة مجموعة من المؤشرات والمظاهر للانحراف الفكرى ومنها: الانطواء على النفس وتكفير المجتمع والغلو والتشدد في الدين والرغبة في ممارسة الإرهاب والعنف، وتبني مفهوم مضلل للجهاد وتبرير الاعتداء على رجال الأمن بدفع الصائل والرغبة في إقامة دولة "الخلافة الإسلامية"، وتكفير الانضمام للمنظمات الدولية والفهم المغلوط للأحكام الشرعية، وتبني فتاوى القتل والعنف، والتعصب للرأي وعدم قبول الآخر والاغتيال المعنوي للعلماء. وبالتالى تكمن خطورة الانحراف الفكري عندما ينتقل من مرحلة الأفكار والآراء المتشددة إلى مرحلة الممارسة الفعلية باستخدام وسائل العنف من قتل واغتيالات وتفجيرات لتحقيق أهداف هذا الفكر المنحرف، ومن ثم يتحول الانحراف الفكري إلى الإرهاب مما يمثل تهديدا للأمن القومي للدولة بأبعاده المختلفة.
أهمية الأمن الفكري في مرحلة ما بعد داعش
يتبنى دكتور الدويك مفهوم "الأمن الفكري" باعتباره المفهوم الرئيسي الذي ترتكز عليه الرؤية التي يقترحها في هذه الدراسة. ويرى أن أي مواجهة فكرية لأفكار داعش والعائدين منه تتطلب شراكة حقيقية بين مؤسسات الدولة الأمنية والمؤسسات الثقافية والدينية في المجتمع، فضلا عن منظمات المجتمع المدني، بحيث تستهدف في جوهرها بث أفكار دينية تعكس التعاليم السمحة للدين الإسلامي من خلال مؤسسات التنشئة المختلفة. ولهذا تعتمد الدراسة على توظيف مفهوم الأمن الفكري كقيمة مضافة لتصحيح مسار الانحراف الفكري بعيدا عن التطرف والإرهاب، وترى أن هناك فرصة متاحة للعديد من الدول في مرحلة ما بعد داعش لم تكن متاحة من قبل مع موجة العائدين من أفغانستان أو العراق في السابق.
وتعود أهمية "الأمن الفكرى" كمدخل لمكافحة الفكر الدينى المنحرف لتنظيم داعش وللعائدين منه إلى حاجة العديد من الدول العربية خلال المرحلة الحالية للتحول من التنظير إلى المكافحة الفعالة للإرهاب من خلال الاهتمام بالبعد الفكرى وذلك من منطلق التعامل مع الأسباب لا النتائج، خاصة وأن الانحراف الفكرى الدينى من أخطر أنواع الانحراف المهددة لأمن واستقرار المجتمع.
وترى الدراسة أن تحقيق الأمن الفكري يتطلب العمل على ثلاثة مراحل رئيسية. تتمثل المرحلة الأولى في مرحلة الوقاية من الانحراف الفكري، بينما تتعلق المرحلة الثانية بمرحلة المناقشة والحوار، وتتمثل المرحلة الثالثة في مرحلة التقويم والعلاج، وقد تطبق تلك المراحل من خلال الدور المهم الذي تقوم به المؤسسات التربوية مثل المدرسة والجامعة في معالجة هذا الفكر الداعشى. وترى الدراسة أنه لا بد أولا تحديد أبعاد البنية الفكرية للعائدين من هذا التنظيم، حتى يمكن الاستفادة من هذه المراحل في مكافحة الانحراف الفكري للعائدين من داعش وحماية الشباب من التأثر بأفكارهم. وفى هذا السياق، يمكن التصنيف نظريا للعائدين من داعش إلى ثلاث حالات هي: العائد المحبط، والعائد المتردد، والعائد المنتقم.
كذلك ترى الدراسة أن هدف قادة تنظيم داعش سوف يظل هو الحفاظ على التنظيم كفكرة بعد الانحسار والهزيمة العسكرية في سوريا والعراق، مع الانتشار الإقليمي والدولي، مستغلين في ذلك كل وسائل الإعلام الجديد ووسائل التواصل الاجتماعي في العالم الافتراضي، مع استهداف الشباب خاصة المحبطين والمهيئين للانحراف الفكري، كما سوف يستمر التنظيمفي الدعوة تحت زعم ما يسمى بعالمية الجهاد ودولة الخلافة على اتساع الإقليم والعالم.
رؤية إستراتيجية مقترحة لتحقيق الأمن الفكرى لدى الشباب
تتعامل الرؤية الإستراتيجية المقترحة في هذه الدراسة مع تحقيق الأمن الفكري على أنه واجب وطني ومسئولية تضامنية بين الدولة والمجتمع بجميع شرائحه ومؤسساته. وقد قام الدكتور الدويك بعرض تلك الرؤية من خلال خمسة عناصر متمثلة فى: أهداف الرؤية، ومنطلقات الرؤية، والغاية والإجراءات، والفئة المستهدفة (الكتلة السائلة)، ومحاورتحقيق الأمن الفكري للشباب، وتشمل التشريع ووسائله وأدواته (الحوارية/ والتصحيحية للمفاهيم)، والمحور الدعوي ووسائله وأدواته (الإرشادية والتحذيرية والإنذارية)، ومحور علاجي ووسائه وأدواته (المناصحة والرجوع للفطرة الدينية)، ومحور العقاب ووسائله وأدواته (التجريمية والجزائية).
كما قدمت الدراسة عدة توصيات مقترحة عند صياغة البرامج التنفيذية لتحقيق الرؤية في كل دولة عربية على حده، وبما يتلاءم مع أوضاعها الداخلية، تتمثل فى:
- تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني في تحقيق الأمن الفكري.
- الاستفادة من تجارب برامج المناصحة والمراجعات الفكرية التي تمت بنجاح وأتت ثمارها في مكافحة الإرهاب.
- رفع كفاءة أعضاء هيئة التدريس بالمدارس والجامعات لتطوير أدائهم بما يضمن معالجة هذا النوع من الانحراف الفكرى.
- العمل على اكتشاف أعراض الانحراف مبكرا لدى الطلاب.
- تعزيز دور الأسرة مع ضرورة وضع إستراتيجية إعلامية عربية موحدة لمحاربة الفكر الديني المنحرف.
وفى النهاية، يمكن القول إن الانحراف الفكرى الديني ينبع من داخل الفرد وذلك نتيجة للعوامل والبيئة التى نشأ بها، مما يدفع الفرد للانحراف نحو الأفكار المتطرفة التى يجد فيها تحقيق ذاته، ومن جهة أخرى تستغل تلك الجماعات هؤلاء الشباب فى زعزعة واستقرار الأمن وتحقيق أهدافهم من السيطرة على العالم ونشر ما يسمونه بالخلافة الإسلامية.