على الرغم من أن استراتيجية ترامب تتبنى وجهة النظر الخليجية بشأن إيران بشكل عام، والاتفاق النووي بشكل خاص، وتتجه لتحقيق كل المطالب التي طالما تبنتها دول مجلس التعاون بهذا الشأن، إلا أن دول المجلس ربما هي الآن أحوج ما تكون لتبني استراتيجية بديلة أو رؤية تصحيحية لهذه الاستراتيجية لأجل حرفها قليلا وإبعادها عن محطة الحرب، التي قد تدفع إليها شخصية ترامب أو انحراف التعاطي المؤسسي الأمريكي، وهو أمرممكن على غرار غزو العراق 2003، ما قد يدفع بمنطقة الخليج إلى حرب إقليمية أخرى قد تذهب بثمار عقود الحقبة النفطية. فمهما كان من تقدير بشأن عودة العلاقات الاستراتيجية بين دول المجلس والولايات المتحدة، إلا أن هناك مستجدات سلبية ستظل قائمة ولا يمكن التقليل منها، رسختها حقبة الرئيس أوباما، وتجد جذورها منذ أحداث 11 سبتمبر.
فهل يكون من الأفضل لدول مجلس التعاون أن تسعى إلى ترشيد استراتيجية ترامب، من خلال استراتيجية وسط تستهدف "تكميش إيران"؟.ذلك ما يسعى هذا الموضوع للبحث فيه.
أولًا: خلفيات الموقف الخليجي من استراتيجية ترامب
لم تكن ردود الفعل الخليجية على استراتيجية ترامب مفاجئة مطلقا؛ فعلى الرغم من أن كل دول مجلس التعاون أعلنت حين إبرام الاتفاق في إبريل ويوليو 2015 عن موافقتها عليه وتمنياتها بأن يحقق الاستقرار وعودة إيران كدولة "طبيعية" إلى المنطقة، إلا أن أغلبها اضطر في وقته إلى إخفاء مآخذه وشعوره بالكمد من إدارة أوباما التي أهدرت مصداقيتها لديهم منذ اليوم الأول لها في الحكم. وجاء الاتفاق ليزيد من الشكوك الخليجية من هذه الإدارة التي لم تأخذ مخاطرهم الأمنية في الاعتبار عند إبرام الاتفاق.
وعزز من ذلك خطوات ومؤشرات كثيرة، كرست الإحساس الخليجي بتراجع الضمانة الأمريكية بشأن أمن الخليج على نحو خلق أزمة وحاجزًا نفسيا تجاه إدارة أوباما، خصوصًا بعد الإعلان منذعام 2009 عن استراتيجية الاستدارة شرقًا و"إعادة التموضع" الأمريكي في آسيا والمحيط الهادي على حساب منطقة الخليج، ومع تبني الإدارة الاستراتيجية ممالأة لإيران، وسياساتها إزاء أنظمة دول الثورات العربية في 2011، دون مراعاة للموقف الخليجي، وتراجع أسعار النفط على أثر جهودها في زيادة إنتاج النفط الصخري، وكل ذلك أدى إلى انهيار جسور الثقة في تلك الإدارة.
وبشكل عام، كانت النظرة الخليجية لإدارة أوباما أنها إدارة لا يمكن الوثوق بها، وأنها تستبطن شرًا بدول الخليج، ولأجل ذلك كان التوجه الخليجي السريع شرقًا وغربًا ويمينًا ويسارًا لأجل إبرام شراكات استراتيجية دولية جديدة لضمان أمن الخليج، تفاديا لأزمة أمنية طارئة أو خلل استراتيجي مفاجئ.
ومنذ اليوم الأول للاتفاق النووي كان هناك الكثير من القلق لدى دول مجلس التعاون، وهو ما عبرت عنه النخبة المثقفة في الخليج بوضوح منذ لحظة إبرام الاتفاق وحتى الآن؛ فلم يؤد الاتفاق إلى تغيير في الرؤية الاستراتيجية السياسية أو المجتمعية لإيران في دول المجلس. فقد ركزت أغلب وجهات النظر في نقد الاتفاق على أنه لم يأخذ في الحسبان هواجس ومخاوف الدول الخليجية من إيران، وتعامل في المقابل، فقط، مع التهديد الذي تشكله إيران للغرب وهو المسألة النووية، وحتى في هذه المسألة فإنه فتح الباب لاحتمالات إيران النووية في المستقبل، بينما أهمل القدرات الصاروخية للجمهورية الإسلامية ولم ينتبه إلى الممارسات السلبية للحرس الثوري وتدخلاته في دول الجوار سواء من خلال خلايا التجسس أو دعم جماعات العنف أو التأثير في المكون الشيعي بدول المجلس أو الدعاية التحريضية الهادفة إلى تصدير الثورة، وترك إيران في حالة من الحصانة الإقليمية والفجاجة السياسية التي برزت في ادعائها احتلال أربع عواصم عربية، جميعها ذات صلة لصيقة بأمن الخليج.
هكذا، اختلف الخليجيون مع أوباما حول أمرين أساسيين: أولهما، الاستراتيجية التفاوضية، التي عزلت المسألة النووية عن باقي حزمة الأخطار والتهديدات الإيرانية، وفصلت هموم دول الخليج عن الهموم الغربية، وعالجت الثانية دون أن تعر أي اهتمام للأولى. ثانيهما، الاختلاف حول شخص أوباما نفسه وسياساته، وهو الذي أصبح التعامل معه في السنوات الأخيرة له في الحكم من جانب الخليجيين في ظل فقدان ثقة كامل، الأمر الذي وضح في مؤشرات قليلة، منها مثلا غياب الملك سلمان وملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة عن قمة كامب ديفيد الخليجية الأمريكية، والذي اعتبر توبيخًا لأوباما[1]، وعدم استقبال الملك سلمان لأوباما في مطار الرياض خلال زيارته للسعودية في إبريل 2016، خاصة مع استقبال العاهل السعودي –في الوقت ذاته- للزعماء الخليجيين في المطار.
وبشكل عام، فقد انتاب دول الخليج الشعور بأنّ الغرب والولايات المتحدة الأمريكية قد بالغا في قدرات إيران النووية مما قاد الإيرانيين إلى استغلال ضعف المعلومات الغربية حول البرنامج واستخدام هذه الورقة لمقايضات سياسية وتحقيق مكاسب خارج إطار الملف النووي[2]. وكان لدول الخليج الرغبة في إشراكها في المفاوضات، وكان لديها أمل بفشل الاتفاق، وهما ما لم يحدثا.
لكل ذلك، نظرت أغلب دول الخليج للاتفاق على أنه سلبي بالنسبة لهم، وعبروا عن القلق من أن يؤدي إلى تقوية شوكة إيران وتشجيعها على تعزيز نفوذها بالمنطقة، وأن يكون سببًا في تخفيف الضغط الدولي عنها، ما قد يمنح طهران مجالًا أرحب لتصدير الفكر الثوري وتسليح وتمويل وكلائها في المنطقة، حيث إن رفع العقوبات سيساعد إيران ويزيدها جرأة[3].كما اعتبر الخليجيون أن التقارب الإيراني الأمريكي سيكون على حسابهم، وأنه يعد بإمكان عودة إيران إلى ممارسة دور شرطي الخليج لحساب الولايات المتحدة والغرب. وكان الانطباع الخليجي الأساسي هو أن "أوباما يبدي ميلا إلى الفرس، وإلى الحضارة الفارسية، دون أن يكون لديه الميل نفسه نحو دول الخليج العربية"([4])، وذلك ما عبر عنه أوباما نفسه عندما امتدح إيران وانتقد أنظمة دول المجلس. ولقد أسهم كل ذلك في تعميق مخاوف بعض دول مجلس التعاون من أن واشنطن لم يعد يعول عليها في مساندة حلفائها القدامى ومراقبة أنشطة الخصوم المشتركين[5].
ثانيًا: الخليجيون والاتفاق النووي 2015... الغضب المكتوم
من خلال رصد مواقف دول مجلس التعاون الخليجي من الاتفاق النووي في إبريل ويوليو 2015، يتضح أن أغلبها لم يركز على نتائجه في المسألة النووية، وإنما ربطت دول المجلس ترحيبها به برغبتها بأن يؤدي إلى الأمن والاستقرار في المنطقة، وذلك ما برز واضحًا في مواقف كل من الإمارات والسعودية والبحرين؛ فدولة الإمارات التي كانت الأولى خليجيًا في إعلان موقفها من الاتفاق أكدت وفق مسئول لها أن الاتفاق "يمثل فرصة حقيقية لفتح صفحة جديدة في العلاقات الإقليمية والدور الإيراني بالمنطقة"، داعية طهران إلى مراجعة "سياستها الإقليمية، بعيدا عن التدخل في الشئون الداخلية" للمنطقة[6].
أما المملكة العربية السعودية، فقد كان موقفها من الاتفاق أكثر ميلا إلى الخوف من جوانبه السلبية. فقد أكد مصدر سعودي مسئول، أن إيران -باعتبارها دولة جوار- فإن السعودية تتطلع إلى بناء أفضل العلاقات معها في كل المجالات، والمبنية على مبدأ حسن الجوار وعدم التدخل في شئون الآخرين".وأكدت على وجود آلية لإعادة فرض العقوبات على نحو سريع وفعال في حالة انتهاك إيران للاتفاق، وأنه في ظل هذا الاتفاق فإن على إيران أن تستغل مواردها في خدمة تنميتها الداخلية وتحسين أوضاع الشعب الإيراني عوضًا عن استخدامها في إثارة الاضطرابات والقلاقل في المنطقة[7]. في حين أعربت الحكومة البحرينية عن تقديرها "للجهود الكبيرة" التي بذلتها مجموعة (5+1) من أجل التوصل إلى الاتفاق، وتمنت أن تشهد الفترة المقبلة "تغيراً نوعيا" في السياسة الإيرانية في اتجاه عدم التدخل في الشئون الداخلية لدول المنطقة خصوصا دول مجلس التعاون الخليجي[8].
أما قطر، فقد أكد وزير خارجيتها (آنذاك) خالد العطية أن بلاده تدعم الاتفاق الذي توصلت إليه إيران حول برنامجها النووي مع مجموعة (5+1)، معتبرا أن "الاتفاق ليس مهما للعالم فقط، بل للمنطقة أيضا"، مضيفا أن قطر كانت من أول الدول التي شجعت جميع الأطراف باستمرار على الوصول إلى حل سلمي بالحوار للقضية النووية الإيرانية". في حين بعث أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر ببرقيتي تهنئة إلى الرئيس الإيراني والمرشد الأعلى هنأهما بـ"الاتفاق التاريخي"، وتاليا في سبتمبر 2016 أفصحت الكويت عن نظرتها الإيجابية للاتفاق، مؤكدة أنه سيسهم في تخفيف حالة الاحتقان وتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة[9].وعلى غرار قطر والكويت، رحبت سلطنة عمان بالاتفاق ورأت أنه يشكل "مرحلة أساسية ومهمة".
ولم تؤد القمة الخليجية الأمريكية في كامب ديفيد مايو 2015 إلى تهدئة المخاوف الخليجية، ففي تلك القمة عمل الرئيس أوباما على تقديم ضمانات توحي وكأن لا شيء تغير في علاقات أمريكا بالخليج؛ فأكد نص البيان الختامي للقمة على شراكة استراتيجية بين الولايات المتحدة ومجلس التعاون لبناء علاقات أوثق في كافة المجالات، بما فيها التعاون في المجالين الدفاعي والأمني. ورغم التأكيد صراحة على أن"سياسة الولايات المتحدة -باستخدام كافة عناصر القوة لحماية مصالحنا الرئيسية المشتركة في منطقة الخليج وردع ومواجهة أي عدوان خارجي ضد حلفائها وشركائها، كما فعلت في حرب الخليج- هي أمر لا يقبل التشكيك[10]، فلم يفلح ذلك في تهدئة المخاوف الخليجية.
ولعل ذلك ما عكسته بيانات قمتي الرياض والمنامة الخليجيتين 2015، 2016، اللتين أكدتا تزايد شعور عدم الثقة بإيران وبالاتفاق النووي؛ فبينما كانت قمم دول المجلس السابقة على هاتين القمتين تتحدثان عن موضوع احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث، وعن العلاقة مع إيران على نحو يركز على ضرورة بنائها على حسن الجوار، وعن التمني بنجاح الاتفاق النووي، فإنه خلال بياني الرياض 2015 والمنامة 2016 برزت مخاوف دول المجلس الزائد، وحديثها المفصل عن تدخلات الحرس الثوري، ومخططات من جانبه تستهدف تنفيذ سلسلة من الأعمال الإرهابية في مملكة البحرين، واحتضان إيران وإيوائها للجماعات الإرهابية على أراضيها، وانتهاكها سيادة دول المجلس واستقلالها، ومحاولة بث الفرقة وإثارة الفتنة الطائفية بين مواطنيها.
كما برزت مؤشرات عديدة على تزايد نبرة الرفض الخليجية من سياسات إيران، من ذلك مثلا الرسالة التي وجهتها دولة الإمارات وعشر دول عربية تتضمن: دول مجلس التعاون الخليجي، ومصر والسودان واليمن والأردن والمغرب، إلى رئيس الدورة (71) للجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي عبرت عن القلق إزاء استمرار إيران في اتباع سياسات توسعية ومواصلتها القيام بدور سلبي في المنطقة، وتدخلها الدائم في الشئون الداخلية للدول العربية، وعبرت عن القلق من الدستور الإيراني الذي يدعو إلى تصدير الثورة، معتبرًا أن إيران هي دولة راعية للإرهاب وأنها المتسبب في حالة الاحتقان وعدم الاستقرار في المنطقة[11]. ومن ذلك أيضا تزايد اللهجة السعودية المباشرة ضد نظام طهران وتأكيد الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي على "نقل المعركة إلى الداخل الإيراني" واستنكاره التصالح مع نظام طهران، الذي يقوم"على أيديولوجيا متطرفة منصوص عليها في دستوره وفي وصية الخميني؟"، تؤكد على نشر المذهب الديني الرسمي في جميع أنحاء العالم الإسلامي حتى يظهر المهدي المنتظر، وتحدث عن نقل المعركة إلى داخل إيران.
في ظل ما سبق، تتضح خلفيات المواقف الخليجية الأخيرة من استراتيجية ترامب، والتي جاءت في ظل أقصى فترة لوصول الغضب الخليجي المكتوم من طريقة معالجة إدارة أوباما للملف الإيراني إلى قمته؛ لذلك يمكن القول بأن استراتيجية ترامب جاءت متوافقة مع مزاج خليجي غير ودي تجاه إيران، سواء بسبب بروز النتائج السلبية للاتفاق وعدم اتجاه إيران لمرحلة "الدولة الطبيعية"، أو بسبب السياسات الإيرانية على الأرض التي ازدادت تدخلية من ناحية ممارسات الحرس الثوري في دول الجوار وبالإقليم، وثالثا من ناحية تفاعلات الأزمة القطرية، والسلوك الإيراني الذي لم يكن مطمئنا بالتحالف مع قطر، بما حمله ذلك من إمكانية تشكل محاور جديدة في المنطقة عابرة للمذاهب تقوم على دعم ورعاية تنظيمات ما دون الدولة السنية الشيعية لأجل الضغط على الدول القائمة.
فهذه الاستراتيجية الجديدة لإدارة ترامب لا تأخذ فقط وجهة النظر الخليجية في الحسبان، بل إنها تتبناها تماما، وتتحرك أبعد من هموم اللحظة الخليجية، لتعود بالمسألة الإيرانية إلى الماضي البعيد ومنذ قيام الثورة، وهو ما يشير إلى أن إدارة ترامب لا تستهدف معالجة المخاوف الخليجية، وإنما إحياء مرارات الولايات المتحدة نفسها مع النظام والثورة في إيران، ما أشار إليه حديث الرئيس ترامب عن الأحداث الكبرى في العلاقات مع نظام الجمهورية الإسلامية، كحادث السفارة واحتجاز الرهائن الأمريكيين عام 1979أو حوادث الجنود الأمريكيين في لبنان عامي1983 و1984. وتمثل العناصر الأساسية في الاستراتيجية نقاط ذات أهمية بالغة لدول الخليج، وهي التي تتضمن: العمل من أجل مواجهة أنشطة النظام الإيراني المزعزعة للاستقرار والداعمة للإرهاب في المنطقة، وفرض عقوبات إضافية على النظام لوضع حد لتمويله الإرهاب، والتعامل مع إقدام النظام على نشر الصواريخ والأسلحة التي تهدد جيرانه والتجارة الدولية وحرية الملاحة، ومنع النظام من الوصول إلى كل ما يمكن أن يجعله يمتلك سلاحًا نوويًا.وهذه باختصار جوهر مطالب دول الخليج التي تعلن عنها في بيانات قممها كل عام، وهو ما أعلنته بوضوح في قمتي الرياض والمنامة الأخيرتين[12]. بل يبدو من لغة خطاب ترامب أنها تعود بالموقف مع إيران إلى مربع العداء الأيديولوجي والعقائدي، ولا تتعامل مع المسألة الإيرانية على نحو إجرائي يتأسس على مطالب وشروط على إيران تحقيقها على نحو ما سعت إدارة أوباما.
وفي الحقيقة، فإنه، لا يمكن فصل رؤية ترامب واستراتيجيته عن القمة الخليجية الإسلامية الأمريكية في مايو 2017، وهي التي وضعت اللمسات الكبرى لتوجهات إدارة ترامب نحو المنطقة وإزاء إيران، وبعض بنود القمة المتعلقة بإيران كانت نسخة كربونية من بيانات قمم مجلس التعاون الخليجي خصوصا قمتي 2015 و 2016.
ثالثا: استراتيجية خليجية لـ "تكميش إيران"وترشيد استراتيجية ترامب
على الرغم من أن التعامل مع مخاوف دول مجلس التعاون الخليجي وعدم حصر المشكلة مع إيران في المسألة النووية، كان مطلبا خليجيا في ظل إدارة أوباما، إلا أنه ربما يكون من الأنسب الآن لدول المجلس أن تبذل جهودها نحو ترشيد استراتيجية ترامب، فإلى حد كبير، فإن استراتيجية الرئيس الأمريكي مندفعة بشخصيته، وليس معروفا حتى الآن حدود التوافق أو النفور المؤسسي داخل إدارته، حول هذه الاستراتيجية، وهي أمور قد تأخذ بالاستراتيجية مسارات أخرى مختلفة تماما. وعلى الرغم من الخطوط الإيجابية التي تتلاقى فيها الاستراتيجية مع مطالب دول الخليج، إلا أنه يتعارض معها أو يواجهها ثلاثة حسابات أساسية، ينبغي أخذها في الاعتبار:
الحساب الأول، يتعلق بالتباين في الموقف الخليجي من إيران الذي وسعته الأزمة مع قطر. فقد عكست المواقف الخليجية من استراتيجية ترامب مقدارا كبيرا من التباين في مواقف دول المجلس، ويتضح ذلك في أنماط ردود الفعل على الاستراتيجية، ففي الوقت الذي أكدت السعودية "تأييـدها وترحيبها بالاستراتيجية الحازمـة الـتي أعلنها ترامب، مشيدة برؤيته في هذا الشأن والتزامه بالعمل مع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة لمواجهـة التحديات المشتركة وعلى رأسها "سياسات وتحركات إيران العدوانية"، وفي الوقت الذي أعلنت الإمارات دعمها بشكل كامل للاستراتيجية وجددت التزامها بالعمل مع واشنطن لمواجهة دعم إيران للتطرف والتعامل مع السياسات الإيرانية المقوضة للأمن والاستقرار، وفي الوقت الذي أعلنت البحرين ترحيبها بكل الجهود التي تهدف لمنع إيران من تمويل الميليشيات الإرهابية وباستراتيجية الرئيس ترامب، وحرصت على التأكيد على أنها من أكثر الدول تضررا من السياسة التوسعية للحرس الثوري، فقد التزمت كل من قطر وسلطنة عمان الصمت تجاه الاستراتيجية، بينما لم تزد الكويت عن دعوتها إيران إلى "بناء الثقة" واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، ولم ينس المصدر الكويتي التأكيد على أن بلاده رحبت بالاتفاق النووي لحرص الكويت على الأمن والاستقرار في المنطقة.
ومع استمرار الأزمة مع قطر، تتجه استراتيجية ترامب مع إيران لأن تدور مع دورة هذه الأزمة، وصحيح أنه يمكن القول إنه قد لا تتمكن دول خليجية معترضة من تبني سياسات مخالفة من شأنها إجهاض استراتيجية ترامب، أو الاعتراض عليها علانية، لكنها لن تكون معها سياسيا، وهو ما ينال من الموقف الجماعي لدول المجلس، خصوصا إن دارت هذه الأزمة في دورة الصخب الإعلامي القطري مع كل من السعودية والإمارات والبحرين.
الحساب الثاني، يتعلق بعدم القدرة على تحديد قوة ومؤسسية استراتيجية ترامب. فعلى الرغم مما يبدو على الرئيس ترامب بشخصيته المميزة من قوة وجرأة، إلا أن هناك مساحة تختلط فيها الجرأة بالتهور، وهو ما يدفعه أحيانا إلى التراجع عن سياساته. واتجاه دول الخليج للتوافق مع شخصية ترامب من منطلق المصلحة السياسية والاستراتيجية هو أمر قد يكون مفيدًا، لكنه غير مأمون العواقب، خصوصا مع بوادر تشققات في إدارته تؤكد أنه لا يقف على أرضية صلبة، وهو ما برز في إدارته للأزمة مع قطر، لذلك من المهم أن تفكر دول المجلس في الموقف الداخلي لإدارة ترامب وأن تسعى لتنويع شبكة علاقتها مع مجمل المؤسسة الأمريكية لتستوثق من التبني المؤسسي الشامل لتوجه الإدارة. ومن المهم لدول المجلس أن تأخذ في الاعتبار السيناريوهات المختلفة لإدارته والشكوك بشأن إمكانية استمراره من عدمه، وأيضا من ناحية إمكان قدوم إدارة ديمقراطية تالية تتبنى مواقف مخالفة، وقد تتهم دول الخليج بأنها دفعت الرئيس الأمريكي لأزمة في السياسة الخارجية أو وظفت المال لإغراء الإدارة أو دفعها لحرب جديدة قد تمتد تأثيراتها لعقود. وإذا جاءت إدارة "أوبامية" جديدة، فإنها قد تعيد الاستدارة شرقا أو غربا وتترك دول الخليج لانتقامات الجار الإيراني في عصر مقبل، قد لا تستطيع فيه دول المجلس الإنفاق على معارك أو حروب جديدة في ظل تراجع عصر النفط.
الحساب الثالث، يتعلق بتأثير استراتيجية ترامب على الداخل الإيراني. فعلى الأرجح أن يؤدي تنفيذ هذه الاستراتيجية إلى إعادة تقليب التربة السياسية في إيران، ومن الصعب فعليا، معرفة ما إن كانت هذه الاستراتيجية ستدفع بالمتشددين إلى الواجهة أكثر فتزيد من حملة الدعم الداخلي للنظام، أم أنها ستشد أزر الإصلاحيين والمعارضين فتزيد من أنشطتهم وحماستهم لأجل إسقاطه، والأرجح أن مثل هذه الاستراتيجية ستدفع بالاتجاهين معا، وبشكل عام فإنها سوف تدفع لمزيد من الحركية التعبوية داخل إيران، وهو ما قد يدفع لمزيد من الاضطرابات وتوظيف لأدوات القمع، وإمكان إقدام النظام على أخطاء في السلوك وأنشطة معادية في دول الجوار الخليجي. وسوف تزداد هذه الأنشطة والأعمال مع كل خطوة يفسرها النظام على أنها تقربه من المواجهة العسكرية. وهذه العمليات جميعها التي سوف تعتمل داخل إيران من المهم حسابها وتقديرها بشكل دقيق داخل مؤسسات صنع القرار الخليجية، لأنها قد تنتهي إلى مرحلة طويلة من عنف الحرس الثوري قبل شن الحرب، أو ممارسات عنف ممتدة لعناصره بمجرد إطلاق شرارة الحرب، وهي أمور يمكن أن يكون لها تأثيرها السلبي على البنية التحتية لدول الخليج الثرية، فليس لدى إيران ما تخسره من الحرب، بينما لدى دول الخليج ثمار خمسة عقود من التنمية في ظل النفط يصعب تعويضها، مع المسار الانحداري لعصر النفط.
الخلاصة
هذه الحسابات الثلاثة مؤسسة على احتمال توجه إدارة ترامب إلى عمل عسكري ضد إيران، وهو ما قد لا يكون في الحسبان في صياغة هذه الاستراتيجية، لكن بشكل عام فإن الإعلان عن هذه الاستراتيجية في السنة الأولى لإدارة ترامب، يعني أن ثلاث سنوات باقية من عمر إدارته سوف تزيد الأمور اضطرابا في منطقة الخليج، وهو أمر ينبغي التحسب له خليجيا، وفي سياق الأزمة الخليجية الراهنة مع قطر قد يجري توظيفه سلبيا ضمن علاقات دول المجلس وبعضها.
لذلك فإنه إذا كانت دول مجلس التعاون، وخصوصا السعودية والإمارات والبحرين، يصعب عليها أن تعترض على استراتيجية ترامب أو ترفضها، وهي التي بذلت جهودا مضنية من أجل أن يجري إقرارها وتبنيها من إدارته، فربما يكون من المهم للدول الثلاث أن تعمل على ترشيد الاندفاعات غير المحسوبة في المسارات التنفيذية لتلك الاستراتيجية، المؤسسة على الحسابات الثلاثة السابقة.
وقد يكون من الأنسب لدول الخليج في ظل عملية الترجيح الاستراتيجي للبدائل والخيارات أن تسعى إلى دفع إدارة ترامب إلى تبني استراتيجية لـ "تكميش إيران"، كاستراتيجية خليجية لترشيد "استراتيجية ترامب"، فترك إدارة ترامب تمضي قدما في تنفيذ هذه الاستراتيجية- وسواء كان ضمن تخطيطها الوصول عند نقطة ما إلى محطة للحرب مع إيران، أو سواء كان ذلك غير قائم في الاستراتيجية-سوف يحمل مخاطر أكثر على دول الخليج في حالة عدم انتهاء أي استراتيجية إلى الإطاحة بالنظام، أما إذا انتهت هذه الاستراتيجية إلى إسقاط النظام قسرا وبالحرب، فإنها سوف تترك الخليج على فوهة بركان وعداوات وحروب قد تستمر لعقود وربما مئات السنين.
وبشكل عام، فمن مصلحة الاستقرار الاستراتيجي في الخليج، ألا تنهزم القومية العربية هزيمة كاسحة أو مذلة إزاء إيران أو تنهزم القومية الفارسية هزيمة كاسحة ومذلة إزاء العرب، ويزيد الأمر سوءا إن جرى ذلك بأشكال يمكن تفسيرها لاحقا بنظريات المؤامرة.
وأخيرًا، فإن استراتيجية "تكميش" إيران المطلوبة والبديلة، أو النسخة الخليجية المعدلة من استراتيجية ترامب، تستهدف الوصول بإيران إلى مرحلة من الانكماش الطبيعي والتدريجي من خلال مسار سلمي ممتد، ينتهي إلى إحياء وتعظيم القناعات لدى الداخل الإيراني باستحالة الوصول إلى "إيران طبيعية" في ظل استمرار النظام الراهن، كما أن انكماش إيران ينتهي إلى الوصول بالقوة الإيرانية إلى محطة وسطية من التوازن والانكفاء الوطني بين إيران الشاه التي تمددت بالقومية الفارسية وإيران الثورة التي تمددت بالأيديولوجيا الطائفية.
[1] قمة كامب ديفيد: زعماء خليجيون يتغيبون "توبيخا" لأوباما، بي بي سي عربي، 12 مايو/ أيار 2015.
http://www.bbc.com/arabic/middleeast/2015/05/150512_campdavid_summit_gulf_leaders_usa_rebuff
[2] د. محمد بن صقر السلمي،"دول مجلس التعاون والسيناريوهات المستقبلية للاتفاق النووي مع إيران"، مجلة دراسات، مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة، المجلد الثاني العدد 1، 2015، ص 30.
[3] ترحيب السعودية باتفاق لوزان يخفي قلقاً مستتراً إزاء إيران، DW، 3/4/ 2015.
[4] انظر رأي الباحث الإيراني كريم سجادبور في: "الاتفاق النووي - تقارب أميركي إيراني على حساب السعودية؟"، DW، 17،1، 2016.
[5] "ترحيب السعودية باتفاق لوزان يخفي قلقاً مستتراً إزاء إيران"، DW، 3/4/ 2015.
[6] انظر: "الإمارات تهنئ إيران باتفاقها النووي التاريخي مع القوى الغربية"، فرانس 24، 14/7/ 2015.أيضا القدس، 14 يوليو 2015.
[7] "السعودية تطالب إيران باستغلال الاتفاق النووي في خدمة شعبها لا إثارة القلاقل"، صحيفة الشرق الأوسط، 15 يوليو 2015.
[8] "اتفاق النووي الإيراني وردود الفعل عليه 4-4-2015"، مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية- لندن، 21،10،2017.
[9] انظر: كلمة مساعد وزير الخارجية لشؤون المنظمات الدولية ورئيس وفد الكويت جاسم المباركي، التي ألقاها أمام أعمال الدورة الـ59 للمؤتمر السنوي العام للوكالة الدولية المنعقد حاليا في فيينا . في: الكويت: اتفاق «النووي الإيراني» التاريخي سيخفّف الاحتقان ويعزّز الأمن في المنطقة، صحيفة الراي الكويتية، 16 سبتمبر 2015.
http://www.alraimedia.com/ar/article/local/2015/09/16/620283/nr/kuwait
[10] البيان الختامي الخليجي الأميركي المشترك لقمة كامب ديفيد، الشرق الأوسط، 16 مايو 2015.
[11] "ردا على ادعاءات طهران الباطلة: الإمارات و10 دول: إيران ترعى الإرهاب وتنتهج سياسات توسعية"، صحيفة عكاظ، 12 نوفمبر 2016.
[12] انظر: "ترامب وإيران.. تفاصيل الاستراتيجية الجديدة"،سكاي نيوز عربية،14 أكتوبر 2017.