في أغسطس 2016 صدر في إسرائيل كتاب بعنوان مثير: The Angel: The Egyptian Spy Who Saved Israel، لمؤلفه البروفسور الإسرائيلي يوري بار- جوزيف. وبعدها بعام (في أغسطس 2017) صدرت الترجمة العربية للكتاب بنفس العنوان: "الملاك... الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل"!
صدور الطبعة العربية من الكتاب أثار جدلًا واسعًا في الصحف ووسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي. وعلى حين مال البعض إلى تصديق رواية بار- جوزيف بشكل كامل، معربين عن حزنهم وأسفهم على وقوع شخص مثل أشرف مروان - الذي كان زوجًا لابنة الزعيم جمال عبد الناصر، والذي لازال يحظى بتبجيل واحترام كبيرين- في بئر الخيانة لوطنه، أو معلنين شماتتهم في المؤسسات والرموز التي طالتها اتهامات الكتاب بالغفلة وتدني الكفاءة، بل والخيانة، مال آخرون إلى الشك واعتبار أن المخابرات الإسرائيلية تستهدف زرع اليأس والاحباط في نفوس المصريين، وخاصة الأجيال الشابة التي لم تعش هذه الفترة، وهو ما دأبت عليه إسرائيل من خلال اختلاق روايات تستهدف الرموز الوطنية والمؤسسات الأكثر احترامًا وعلى رأسها الجيش والمخابرات العامة. والهدف في النهاية إجراء عملية إسقاط من الماضي الذي تم تشويهه واختلاق الأكاذيب حوله إلى الحاضر الذي يشهد بدوره محاولات من جانب بعض التيارات الأيدولوجية والسياسية لنزع الشرعية عن رموز المؤسسات ذاتها، والإدعاء بأنها لم تكن جديرة بحكم البلاد في الماضي، فلماذا يتم الرهان عليها في الحاضر أو المستقبل؟
الواقع أن أغلب من تبنوا هذين الموقفين ربما لم يقرأوا الكتاب، وربما فاتهم الكثير من التفاصيل المؤدية إلى تأليفه على يد باحث إسرائيلي مرموق يشغل موقع أستاذ العلاقات الدولية في جامعة حيفا، وله العديد من المؤلفات والأبحاث عن الصراع العربي- الإسرائيلي، وعالم الاستخبارات.
مما لا شك فيه أن بار- جوزيف بمكانته الأكاديمية قد أضفى نوعًا من الرهبة التي تمنع الكثيريين من التشكيك في أصالة عمله، أو دوافع لتأليفه، ولكن إذا ما تخطينا هذه النقطة وأعملنا القراءة الموضوعية في الكتاب، وفِي التفاصيل التاريخية للقضية التي يتناولها، ربما نكتشف الكثير من الثغرات والهفوات، والدوافع غير الموضوعية التي وقفت من وراء سرد رواية عمالة أشرف مروان للموساد على الصورة التي قدمها بار- جوزيف.
وفي هذا الإطار، يمكن تقسيم الكتاب، ليس بالحديث عن كل فصل من فصوله على حدة، بل بالقضايا التي أثارها لخدمة فرضيته بأن مروان كان عميلًا خالصًا لإسرائيل، وأن ولاءه لها غير مشكوك فيه على الإطلاق. على هذا الأساس يمكن القول إن الكاتب ناقش ثلاث قضايا رئيسية، هي:
الأولى، الكيفية التي تم بها تجنيد مروان.
الثانية، تفنيد فرضيات مضادة بأن مروان كان عميلًا مزدوجًا.
الثالثة، تحديد الجهة التي قامت باغتيال مروان.
ومن ثم سوف نتناول ما ورد في الكتاب من أطروحات تخدم كل قضية مع تقديم ملاحظاتنا النقدية على هذه الأطروحات.
أولًا: رواية تجنيد مروان
لأن بار- جوزيف يعرف أن تسريبات نشرت في كتب وشهادات ومقالات في الصحف الإسرائيلية منذ عام 1993 قد زعمت جميعها أن مروان ذهب بنفسه إلى السفارة الإسرائيلية بلندن في فترة ما بين عام 1968 وعام 1970، وأبدى استعداده لتقديم خدماته لها، فقد عمد مباشرة إلى نقض هذه الروايات واعتبارها خاطئة. وقدم رواية أخرى تقول بأن مروان حاول التواصل مع السفارة الإسرائيلية عبر تليفون عمومي في أوائل عام 1970 من العاصمة البريطانية (أي بعد قرابة عام من وصوله إلى لندن للعمل في سفارة مصر هناك، والدراسة في نفس الوقت في إحدى الجامعات البريطانية)، وأن محاولاته للتواصل مع مسئول الاستخبارات الإسرائيلية في السفارة آنذاك لم تكلل بالنجاح عدة مرات، والسبب أنه في كل مرة اتصل فيها بالسفارة كانت عاملة الاستقبال تحيل مكالمته إلى الملحق العسكري الإسرائيلي الذي عرفه مروان بأسمه الحقيقي كاملًا وبجنسيته. ورغم أن الملحق العسكري الذي تحدث إليه مروان في المرة الأولى ولم يظهر الاهتمام بمكالمته قد تغير لاحقًا وحل محله رجل آخر له خبرته في العمل العسكري والاستخباراتي، وهو اللواء شموئيل إيال، إلا أنه بدوره لم يع أهمية الشخص الذي يتحدث إليه، وطلب من مروان الحضور إلى السفارة الإسرائيلية بنفسه. إلا أن مروان رفض كونه شخصًا معروفًا، ويمكن أن تكون السفارة المصرية تتابع خطواته، ومن ثم، وحلًا لهذه المشكلة، ترك مروان رقم تليفون يمكن لمسئولي المخابرات الإسرائيلية التحدث إليه من خلاله (كان هذا هو الاتصال الثاني بعد خمسة أشهر من أول اتصال وتم في أواخر عام 1970).
وحسب رواية بار- جوزيف كان إيال بدوره غافلًا عن أهمية مروان وربما لم يسمع باسمه أو عرف من هو، ومدى قربه من عائلة الرئيس عبد الناصر، وبالتالي أهمل أمره أيضًا !!! لولا الصدفة (حسب وصف المؤلف) التي أدت لوجود قياديين من الموساد في زيارة عمل إلى بريطانيا في ديسمبر عام 1970، لربما لم يعاود مروان الاتصال بالسفارة الإسرائيلية. ولكن هذين القياديين عندما استمعا إلى ملاحظة عابرة من الملحق العسكري الذي كان يقوم بوداعهما في المطار قبل عودتهم إلى تل أبيب وذكر فيها اتصال "شخص" اسمه أشرف مروان به وطلبه التعاون معهم، قاما على الفور بإلغاء رحلتهما وعادا إلى السفارة لبحث إمكانية الاتصال بمروان، إذ كانا الاثنين يعرفان ماذا يعني هذا الاسم. بعد ذلك يؤكد بار- جوزيف أن رجال الموساد حددوا أحد رجالهم وهو من أصول عربية ويجيد لغتها إجادة تامة للقاء مروان واسمه "دوبي"، وأن اللقاء تم في بهو أحد الفنادق، وأن رجال الموساد تأكدوا من هوية مروان من صورة نشرت له في الصحف المصرية في حفل زواجه من منى ابنة عبد الناصر. وفور جلوس دوبي مع مروان، وكان اللقاء في أوائل يناير 1971، قدم له الأخير وثائق أصلية عن خطط تسليح الجيش المصري، والتي ثبتت صحتها بمقارنتها مع المعلومات التي كانت تصل إسرائيل من مصادر لها في مصر وخارجها. وفِي هذا اللقاء- وفق رواية بار- جوزيف- لم يتحدث مروان عن المقابل الذي يريده من خدماته، وكان فقط يحاول أن يثبت مدى أهميته كمصدر لإسرائيل من داخل مصر.
نتوقف عند هذا الحد من الرواية لنضع الملاحظات التالية:
1- من الواضح أن بار- جوزيف ليس مجرد أستاذ جامعي وباحث أكاديمي، بل من المؤكد أنه يتعاون مع جهاز الموساد الذي قال إنه اطلع في أرشيفه على أربعة مجلدات تحوي الوثائق التي سلمها مروان لإسرائيل منذ تجنيده، وبالتالي يجب أن تؤخذ روايته حول ما أسماه "تجنيد" مروان بحذر شديد، فهي رواية إسرائيلية من جانب واحد. وقد سبق للباحث والأكاديمي الإسرائيلي - البريطاني أهرون بيرجمان، الذي كان أول من تحدث عن هوية مروان علانية في عام 2004، أن قدم رواية مغايرة عن نفس الموضوع مستندًا إلى أحاديث أجراها مع إيلي زعيرا (مدير المخابرات العسكرية الإسرائيلية في الفترة 1968- 1874)، وهو نفسه الذي روّج أن مروان ذهب إلى السفارة الإسرائيلية بنفسه في أواخر عام 1968 !!!!!
2- فيما يبدو أنه نتيجة لتشكيك البعض في الرواية الإسرائيلية كما قدمها بيرجمان حول "تجنيد" مروان، والتي استندت إلى أنه من غير المعقول أن يقوم مروان الذي يعمل بالسفارة المصرية وزوج لابنة الرئيس عبد الناصر، بكل ما يعنيه ذلك من أنه شخص موضوع تحت الأنظار من جهات عدة استخبارية وصحفية وسياسية... ليس من المعقول أن يغامر بالذهاب علانية وبدون تخفي إلى سفارة هي بدورها مراقبة من عشرات أجهزة الاستخبارات التي يمكن أن تتساءل في تقاريرها لبلدانها عن السبب الذي من أجله يذهب رجل له هذه الحيثيات إلى سفارة الدولة الأشد عداءً لبلاده !!! هذا التشكيك الموضوعي في رواية بيرجمان، ربما قاد الموساد إلى سد هذه الثغرة بتزويد بار- جوزيف برواية معدلة تزعم أن مروان اتصل تليفونيا عدة مرات قبل أن يلتقي برجال الموساد في فندق لاحقًا.
3- بدورها رواية اللقاء الأول بين مروان والموساد في فندق تبدو غير قابلة للتصديق، فإذا كان ذهاب مروان إلى السفارة حسب رواية بيرجمان يبدو سخيفًا للسبب الذي ذكرناه، فإن لقاء مروان الذي كان تحت رقابة السفارة المصرية - حسبما ذكر بار- جوزيف بنفسه- في بهو الفندق مع رجال الموساد يعيدنا إلى النقطة نفسها، إذ كيف يذهب مروان لهذا اللقاء بدون تخفي وبدون إعداد مسبق من جانب الموساد دون أن يخشى احتمال أن يتم رصده من السفارة المصرية أو أجهزة الاستخبارات الكبرى التي من المؤكد أنها تعرف من هو مروان كما تعرف من هم الرجال الذين التقوا به في بهو الفندق؟
4- يعرف بار- جوزيف أن ادعاءه بأن اللقاء مع مروان تم بقرار من رجلين في الموساد كانا موجودين بالصدفة في لندن، وأنهما اتخذا قرارهما دون العودة إلى رؤسائهم في إسرائيل، يعرف أن ذلك لا يمكن تصديقه، فتجنيد العملاء يتم بدراسات متأنية ومتابعة دقيقة للشخص المستهدف تجنيده، وتتم على أعلى مستوى قيادي!!! ولأن بار- جوزيف يعرف ذلك، فقد حاول سد هذه الثغرة في روايته بالزعم أن الموساد مؤسسة تسمح لرجالها بالتصرف ارتجاليًا في بعض المواقف!!! وهو بذلك يناقض الصورة التي يحاول الموساد تقديمها لنفسه على أنه بناء "أسطوري" تحكمه الصرامة والجدية والانضباط في العمل.
5- يقول بار- جوزيف في لمحة سريعة بأن الموساد كان يتابع مروان منذ وصوله إلى لندن في أواخر عام 1968، وأن ذلك كان بهدف تجنيد عملاء جدد من مواطني الدول العربية خاصة مصر. كما يقول إن الموساد كان على علم بحياة البذخ التي عاشها مروان في ملاهي ونوادي القمار في لندن، وأن قبوله لهبات مالية من آل الصباح (الأسرة المالكة الكويتية) للإنفاق على ملذاته تسبب في غضب عبد الناصر عليه وإصراره على عودته من لندن للعمل في مكتبه، مع السماح له بالسفر للندن فقط لأداء الامتحانات في موعدها في الجامعة التي التحق بها لنيل درجة الماجستير.
ويبدو السؤال المنطقي هنا: أليس من المحتمل أن الرواية الحقيقية لتجنيد مروان كانت على الصورة التالية: ابتلاع الموساد لطعم كان قد أعد جيدًا بحيث يظهر مروان كشخص مستهتر يهوى حياة البذخ، ويسعى للحصول على المال بأية وسيلة، وبالتالي يمكن أن يشكل إغراء للموساد لكي يتم تجنيده؟
هل من الحكمة والموضوعية تصديق رواية يقدمها كاتب إسرائيلي من المؤكد أنه لا يقوم بعمل أكاديمي عادي تحكمه المعايير الموضوعية، بل عمل يمكن أن يكون جزء من ترويج الأكاذيب التي تستهدف إخفاء إخفاقات أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، أو تحويلها إلى انتصارات مزيفة بهدف شن حرب نفسية ضد جهة بعينها؟
وإذا كان المؤلف لا يشير لمصادر رسمية إسرائيلية لتأكيد روايته (راجع الهوامش والإشارات في نهاية الكتاب)، بل إلى تحقيقات صحفية أو شهادات لمسئولين سابقين، أو دراسات لأكاديميين، فلماذا لا تكون الرواية البديلة من باحثين مصريين وتستند إلى وقائع نشرت في مصادر مماثلة، وترى أن مروان كان جزء من خطة خداع وُضعت بإحكام من جانب أجهزة الاستخبارات المصرية لخداع الإسرائيليين؟ لماذا لا تكون هذه الرواية قابلة بدورها لأن تُعامل معاملة السيناريو المحتمل لعملية الخداع المصرية، خاصة أن شخصيات إسرائيلية مثل اللواء إيلي زعيرا، وأهرون بيرجمان يتفقان مع هذا التصور؟
بمعنى أكثر وضوحا طالما لم تقم جهة رسمية إسرائيلية (الحكومة، أو الموساد، أو المخابرات العسكرية) بتأكيد رواية بار- جوزيف، فلا معنى لتبنيها باعتبارها حقيقة لا يطولها الشك، بل إنه حتى لو تبنت إسرائيل رسميا هذه الرواية، فيجب علينا أن نفكر في مدى المصلحة المصرية المستقبلية في تأكيد أو نفي المزاعم الإسرائيلية.