في إطار المتغيرات والمستجدات التي شهدها الوضع الداخلي المصري خلال السنوات الأخيرة منذ اندلاع ثورة يناير 2011، وفي الوقت الذي يتطلب ضرورة أن يكون هناك مشروع نهضوي ثقافي يتزامن مع عملية البناء والإصلاح الداخلي فيما بعد ثورتي يناير ويونيو، يتضح وجود خلل وإشكالية حول تراجع المكون الثقافي في معادلة البناء، وضعف الاهتمام بالثقافة وغياب السياسة الثقافية عن أجندة الدولة. وهو ما أبرز العديد من المظاهر المجتمعية السلبية، بما يهدد الاستقرار والأمن المجتمعي، الأمر الذي يستدعي رسم ملامح جديدة للإصلاح الثقافي من خلال مشروع ثقافي يعيد رسم ملامح جديدة للشخصية المصرية، ومعالجة الكثير من السلوكيات والتفاعلات والقيم المجتمعية التي تنامت في أركان المجتمع المصري وتبدو جديدة عليه.
وفي هذا السياق، جاء العدد الجديد من مجلة أحوال مصرية ليناقش قضية الإصلاح الثقافي في مصر، ويتبنى مشروعًا نهضويًا ثقافيًا من خلال تناوله لعدد من المحاور التي من شأنها تشخيص الواقع الراهن للحالة الثقافية المصرية، وسياقات تكوينها وتمكينها، ومعالجة ما بها من اختلالات ومظاهر ضعف، مما يعكس الأثر السلبي لغياب السياسة الثقافية عن المجتمع.
وقد أشار د. أيمن السيد عبد الوهاب، رئيس تحرير المجلة، في افتتاحيته إلى أن قضية الثقافة تعد مكونًا حاكمًا لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، فلا يمكن تحقيق هذه التنمية بدون الارتكاز للأبعاد الثقافية في معناها الواسع والكلي من قيم ومعارف ومعتقدات وفنون كسبيل لبناء الإنسان وتنمية قدراته. كما أنها تصيغ ذلك الإطار المعبر عن درجة تضامن المجتمع واستقراره، والحاكم لدرجة تماسكه، والمحافظ على بنائه الاجتماعي، فالثقافة هي القاعدة التي يبني عليها ركائز الحوار والاعتراف بالتنوع وإعمال القانون والأخلاقيات والحريات والشعور بالعدالة.
كما أوضحت د. نادية أبو غازي، أن تحقيق التنمية الثقافية المرجوة يحتاج بالأساس إلى وضوح الرؤية وإلى استراتيجية محددة وخطط وبرامج عملية تستهدف التنمية الثقافية بشكل عام، وفي الريف بشكل خاص. وأردفت أن نجاح التنمية الثقافية وإقرار ديمقراطية الثقافة رهن بتوافر مقومات ومراعاة اعتبارات واستخدام عناصر وأدوات تعين على تحقيق هذه التنمية. ومن هنا تتأكد الحاجة إلى وجود سياسة ثقافية وتحديد مقومات لاستراتيجية العمل الثقافي.
في حين أكد الأستاذ سعيد عكاشة على الدور الذي لعبته وسائط المعرفة التقليدية من كتب وصحف وإذاعة وتليفزيون في نشر أفكار النخب المثقفة. كما أشار إلى أن ثورة 25 يناير قد دانت في انطلاقها للوسائط الجديدة من مدونات ومواقع للتواصل الاجتماعي وقنوات فضائية. وأوضح أن تلك الوسائط الجديدة لم تُهيأ فقط لجمهور واسع المشاركة في صنع الثقافة، بل عزلت الأجيال القديمة من النخبة المثقفة عن التأثير في المجال العام، كما كان الحال في الثورتين السابقتين - 1919، 1952 - فقد كان عجز هذه الأجيال عن التعامل مع هذه الوسائط تكنولوجيًا ولغويًا من جانب، وسعي الأجيال الشابة من جانب آخر للتخلص من الوصاية والسلطة الأبوية للجيل القديم من جانب آخر سببًا في اتساع الفجوة بين أجيال المثقفين.
وقدم د. عماد أبو غازي رؤية من أجل إصلاح مؤسسات وزارة الثقافة، اعتمدت على ثلاثة مرتكزات أساسية، وهي أن تتبنى هذه الرؤية فهمًا يستند إلى أن الوظيفة الأساسية للدولة في مجال الثقافة في النظم الديمقراطية تتلخص في حماية التراث الثقافي المادي واللامادي، وحماية حقوق الملكية الفكرية للمبدعين، وتوفير الخدمات الثقافية للمواطنين. إضافة إلى أن تحكمها الرؤية التي تتصدر محور الثقافة في استراتيجية التنمية المستدامة "رؤية 2030" وهو بناء منظومة قيم ثقافية إيجابية في المجتمع المصري تحترم التنوع والاختلاف وعدم التمييز، وتمكين الإنسان المصري من الوصول إلى وسائل اكتساب المعرفة. علاوة على أن تلك الرؤية تنطلق من إدراك أن هناك مشكلات واضحة في أداء مؤسسات الدولة الثقافية، يجعلها عاجزة عن القيام بالدور المناسب لاحتياجات المجتمع الثقافية، وقاصرة عن مواكبة التطورات المجتمعية والعالمية في مجال الثقافة والفنون والتراث.
وأضاف الأستاذ نبيل عبد الفتاح أن الثقافة المصرية تعاني من عدة أزمات هيكيلية تاريخية منذ تأسيس الدولة الحديثة، وتبني التحديث السلطوي للقيم ومؤسسات الدولة وأجهزتها، والتي تمثلت في التناقضات بين الثقافة التقليدية المحافظة، وبين الأبنية الثقافية السلطوية الحديثة، وبين الحداثة المبتسرة، ونزوع الاتجاهات الحداثية إلى محاولة التوافق أو الأحرى التلفيق مع الثقافة الدينية والتقليدية. علاوة على ترييف الثقافة المصرية في سياق ترييف المدن، وثقافتها، ووصولها إلى ترييف ثقافة الدولة المصرية الحداثية وأجهزتها. بالإضافة إلى الفوضى في نظام القيم، بين القيم العولمية وما بعدها، والقيم المحافظة والقيم المدنية المريفة، والتمركز المصري حول الذات في عالم متغير ومعولم وما بعده في المجال الثقافي.
كما أجاب الأستاذ سمير مرقص عن التساؤل بشأن مستقبل العملية الثقافية في مصر، موضحًا أن علينا بداية أن نحرر الثقافة من الهيمنة السلطوية والتكوين النخبوي، وذلك بأن تصبح عملية مفتوحة وحرة ذات طابع نضالي للمثقفين الحقيقيين باختلاف توجهاتهم، يدافعون عنها ليس لصالح سلطة أو طبقة أو فئة بعينها.
وفي السياق ذاته، خلص د. سعيد المصري إلى أن خريطة التمييز الثقافي في المجتمع المصري موازية لخريطة التباينات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة ومرتبطة بها أشد الارتباط، وأن المؤسسات الثقافية في مصر تواجه تحديات كبيرة تحول دون قدرتها على تعزيز قيم العدل في المجتمع، كونها تفتقد إلى مقومات العدل وتلبية الحقوق الثقافية.
وأوضح د. محمود أحمد عبد الله أن السياسة الثقافية الناجحة هي التي تستطيع أن تتأسس على أهم القضايا والإشكاليات الملحة التي يفرضها الواقع ويراها الفاعلون والخبراء ذات أولوية.
فيما أشار د. سامح فوزي إلى أن التغيير الثقافي مهم لإيجاد ثقافة حاضنة للمواطنة، وهو ما يتطلب تغييرًا بنائيًا على مستوى التأسيس القانوني، وتطبيق النص في الواقع، والممارسة التفاعلية بين المواطنين.
وتطرق د. محمد عبد المنعم شلبي، إلى أنه بالنظر إلى آليات تشكيل النخبة المثقفة الأكاديمية في جامعاتنا ومراكزنا البحثية، نجد أنها لا تفضي في الغالب إلا إلى سبيل واحد هو هيمنة النخبة التقليدية دون غيرها، لتعيد إنتاج المجتمع وفقًا لمصالحها المحققة دون غيرها.
وأشارت د. هويدا عدلي إلى استمرار قضية التحولات الثقافية أسيرة القضية التنموية العتيدة، وهي قضية المركز والطرف والفجوة بينهما، مؤكدة أنه لا يمكن حدوث تحول ثقافي حقيقي دون تحول اقتصادي واجتماعي عبر رؤية تنموية عادلة.
كما استعرض العدد الجديد مسيرة أستاذنا السيد يسين، العلمية والإنسانية، من خلال رؤية أستاذنا الدكتور علي الدين هلال، لذلك المفكر الراحل، الذي امتلك عقلًا مسكونًا بالقلق، ذلك القلق النابع من تلك الرغبة العنيدة لفهم حقائق التطور الاجتماعي وتفسيرها، وهو القلق الدافع للتأمل وتوليد الأفكار والإبداع.
وفي محاولة لطرح أهمية وأولوية بلورة مشروع نهضوي ثقافي، تم تجميع الكثير من الخبرات والأفكار والرؤى والاستراتيجيات التي طرحت خلال المرحلة الماضية، وتوفيرها على CD مرفق بالمجلة، والتي تضم رؤى مختلفة لشخصيات ثقافية مرموقة مثل رؤية الأستاذ السيد يسين، والدكتور جابر عصفور، والدكتور عماد الدين أبو غازي، والدكتور بدر الدين أبو غازي، والأستاذ فاروق حسني، وغيرها.