أزمة الجمعيات الدينية في مصر 2013-2017
2017-5-30

د. وحيد عبد المجيد
* مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

شهدت الفترة الممتدة من منتصف سبعينيات القرن العشرين إلى بداية العقد الثاني في القرن الحالي توسعًا مستمرًا في إنشاء الجمعيات الدينية الإسلامية (والمسيحية أيضًا). لا توجد أرقام دقيقة تمامًا في هذا المجال، كما في غيره، بسبب ضعف قاعدة البيانات لدى الأجهزة الحكومية، والتضارب الذي يحدث بينها في بعض الأحيان. لكن القدر المتيقن أن الجمعيات الدينية ازدادت بشكل مطرد، وتوسعت في مختلف المحافظات على مدى ما يقرب من أربعة عقود، قبل الأزمة التي واجهتها عقب إسقاط سلطة جماعة “الإخوان المسلمين”في منتصف عام 2013.

ويمكن تفسير هذا الازدياد بثلاثة عوامل أساسية. أولها موجة التدين الظاهري أو الطقوسي التي عمت المجتمع ضمن الآثار المترتبة على صدمة هزيمة 1967، واقترنت بأجواء محافظة بحيث يجوز القول إن مصر في نصف القرن الأخير صارت أكثر تأخرًا على المستويين الاجتماعي والثقافي، وعلى صعيد أنماط الحياة، مقارنة بما كانت عليه في نصف القرن الذي الذي سبقه. وثانيها احتدام التنافس بين مسلمين ومسيحيين في كثير من المناطق، وامتداده من بناء دور العبادة إلى تأسيس الجمعيات، في أجواء من التعصب الدينى الذي أنتج حالة شاعت عبارة “الفتنة الطائفية”للتعبير عن أشكالها العنيفة.

أما العامل الثالث فهو تنامي دور التيارات الدينية الإسلامية السياسية منها والسلفية منذ بداية السبعينيات، ومنهج التعامل السياسي-الأمني معها والذي تراوح بين الاحتواء من خلال صفقات، والمواجهة المحدودة التي لم تمس نشاطاتها الاجتماعية والجمعيات التي تمارس هذه النشاطات إلا على سبيل الاستثناء. وبينما أتاحت الصفقات، التي بدأت باتجاه نظام الرئيس الراحل أنور السادات إلى إعادة جماعة “الإخوان المسلمين”واستخدام تيارات دينية في محاربة اليسار الماركسي  والناصري، فرصًا متجددة لتوسع الجمعيات الدينية، أسهمت سياسة الأجهزة الأمنية المختصة في التعامل مع المجتمع  المدني-الأهلي في هذا التوسع. فقد تشددت هذه السياسة تجاه الجمعيات التي ينطوي نشاطها على طابع سياسي أو يؤدي إلى آثار سياسية غير مرغوبة وفق نظرتها الضيقة، وخاصة الجمعيات الدفاعية والحقوقية، بينما تعاملت بمرونة مع جمعيات دينية لا تمارس مثل هذا النشاط حتى إذا كانت مرتبطة بجماعة سياسية “الإخوان المسلمين”.

وإذا كان التوسع في إنشاء جمعيات دينية ارتبط بموجة تدين طقوسي وأجواء محافظة، أو نتج عنها بشكل ما، فقد أسهم بالمقابل في مزيد من تديين المجتمع وترسيخ التوجهات المحافظة والمنغلقة فيه بسبب فاعلية الكثير منها وقدرتها على النفاذ إلى أعماق المجتمع في المناطق التي تعمل فيها مستخدمةً الدين في تحقيق أثر أكبر للخدمة الاجتماعية التي تقدمها. كما تميزت بوجود أعداد كبيرة من المتطوعين فيها، بخلاف الحال في الجمعيات “المدنية”، إلى جانب قليل من العاملين بأجر.

وسوف نتناول في هذه الورقة الأزمة التي واجهتها الجمعيات الإسلامية منذ منتصف 2013، ونركز تحديدًا على الجمعيات التابعة، أو المتهمة بأنها تابعة، لجماعة “الإخوان”، والجمعيات السلفية الكبرى والأكثر تأثيرًا التي يضم كل منها أعدادًا كبيرة من الفروع أو الجمعيات المحلية التابعة للمركز  الرئيسي، وهي الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسُنة المحمدية، وجمعية جماعة أنصار السُنة المحمدية. وهما الأقدم، إذ يعود تأسيس الأولى إلى 1912، والثانية إلى 1926، وجمعية الدعوة السلفية المشهرة تحت اسم جمعية الدعاة الخيرية.

أولًا: الصدام يُفقد "الإخوان المسلمين"جمعياتهم

لم تهتم جماعة "الإخوان المسلمين"بعد تأسيسها الأول في أواخر عشرينات القرن الماضي بالتوسع في إنشاء جمعيات تابعة لها. فقد كانت هي نفسها جمعية اجتماعية دعوية مسجلة رسميًا. وكانت نشاطاتها الاجتماعية تُنظَّم من خلال الأسر والشُعب (الوحدتان التنظيميتان اللتان تمثلان قاعدة الهرم في الجماعة) في محافظات عدة. ومع حلول عام 1945، أُضيف إلى الهيكل المركزي للجماعة قسم البر والخدمة الاجتماعية، الذي بدأ نشاطه بإقامة مستوصف وتنظيم قوافل طبية. وقد أصبح هذا القسم بعد ذلك مسئولًا عن تأسيس الجمعيات الاجتماعية ومتابعتها اعتبارًا من سبعينيات القرن  الماضي، بعد أن استأنفت الجماعة نشاطها بدون صيغة رسمية.

ومن الطبيعي أن تكون الجمعيات التابعة، والمتهمة بالتبعية لجماعة "الإخوان المسلمين"هدفًا أساسيًا للحملة التي شُنت عليها بعد أن اختارت طريق الصدام عقب إسقاط سلطتها. ولم يمض شهران ونصف على عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي حتى شُكلت لجنة أُطلق عليها "لجنة حصر وإدارة أموال الإخوان"بقرار من وزير العدل في 23 سبتمبر 2013، استنادًا على قرار حكومي باعتبارها منظمة إرهابية، وحكمًا أصدرته إحدى دوائر محاكم الأمور المستعجلة بهذا المعنى.

ونص القرار على أن هدف اللجنة هو حصر نشاطات جماعة "الإخوان"، وأية مؤسسة أو كيان تابع لها، لاتخاذ ما يلزم نحو حصر تلك النشاطات. وفي غضون ثلاثة أشهر، كانت اللجنة قد حصر 1055 جمعية قالت إنها تابعة لجماعة "الإخوان المسلمين"أو مخترقة منها، فضلًا عن 103 مدرسة، وفق القرار الصادر عنها في 26 ديسمبر 2013، والذي تبعته قرارات تكميلية ضم كل منها عددًا آخر من الجمعيات والمدارس والشركات والمتاجر. وقد شمل الحصر جمعيات أثار إدراجها في القائمة استغرابًا، وتم استبعادها منها بعد ذلك مثل "بنك الطعام". كما تضمنت القائمة عددًا من فروع الجمعية الشرعية بسبب اختراقها من جانب جماعة "الإخوان"، وهو ما سنعود إليه لاحقًا.

وربما تكون الضربات التي وُجهت ضد الجمعيات التابعة لجماعة "الإخوان"أكثر تأثيرًا عليها من الملاحقات والمطاردات التي تعرض لها قادتها وكثير من كوادرها وأدت إلى احتجاز أعداد كبيرة منهم، وهرب بعضهم إلى الخارج. فقد صارت تلك الجمعيات هي الأداة الرئيسية للتغلغل في المجتمع، وتكوين حلقات حول التنظيم مرتبطة به ومعتمدة عليه، الأمر الذي أتاح لها بناء قاعدة انتخابية واسعة ظهرت قوتها في الانتخابات البرلمانية التي أُجريت عام 2005، وتجلت في صورة أكثر وضوحًا في الانتخابات الأكثر حرية ونزاهة التي أُجريت في نهاية عام 2011.

غير أنه لا تتوفر معلومات تتيح قياس حجم تأثير تلك الضربات، وهل شملت جميع الجمعيات "الإخوانية"، أم أن بعضها أفلتت لأنها لم تكن مرصودة أو مصنَّفة أمنيًا على هذا النحو، وخصوصًا الجمعيات الصغيرة في المناطق الريفية. ولذلك مازال صعبًا تقييم مدى التأثير الفعلي لمصادرة أكثر من ألف جمعية تابعة لجماعة "الإخوان"، وخاصة في ظل لجوء القسم الأكبر من أعضائها القاعديين إلى الكمون وانتظار ما ستأتي به الأحداث. وهذا منهج معروف في عمل الجماعة حين تواجهها أزمة.

ثانيًا: التكيف السلبي يُبقي للسلفيين جمعياتهم

نأت الجمعيات السلفية الكبرى بنفسها عن الصدام بين جماعة "الإخوان"والنظام الذي أعقب إسقاط سلطتها، رغم أن قيادة إحداها "أنصار السُنة المحمدية"كانت قد وطدت العلاقة مع هذه الجماعة عقب ثورة 25 يناير.

ولجأت جمعية أنصار السُنة، وكذلك الجمعية الشرعية، إلى ما يمكن أن نسميه تكيفًا سلبيًا عبر وقف أي مظهر لنشاط سياسي أو مرتبط بالسياسة كانت قد أقدمت عليه في مرحلة فتح المجال العام عقب الثورة، والعودة إلى منهجها الذي ينفر من ممارسة نشاطات سياسية. وكان هذا التكيف أصعب نسبيًا في حالة جماعة أنصار السُنة لأن علاقة قيادتها بجماعة "الإخوان"كانت قد تنامت عقب الثورة، وتوطدت بعد انتخابات 2012 الرئاسية.

ورغم وجود مئات الجمعيات السلفية أو ذات الطابع السلفي في كثير من المحافظات، ظلت الجمعية الشرعية وجماعة أنصار السُنة الأكبر والأكثر تشعبًا وتغلغلًا في معظم المحافظات. ويجوز هنا أن تفترض (مجرد افتراض يحتاج إلى بحث) أن حجم هاتين الجمعيتين معًا قد يكون أكبر من باقي الجمعيات السلفية كلها، باستثناء "الدعوة السلفية"التي سنعود إليها في الجزء الثالث من الورقة حين نتأمل طريقتها في التكيف من خلال دعم التغيير الذي حدث في 3 يوليو 2013، بل المشاركة فيه عبر ذراعها السياسية الممثلة في حزب النور.

وبخلاف جماعة أنصار السُنة، لم تجد الجمعية الشرعية معضلة في التكيف سلبيًا مع الأوضاع التي استجدت منذ يوليو 2013. فقد نظرت، وهي أول جمعية تؤسس وفق المنهج السلفي عام 1912، إلى جماعة "الإخوان"عندما ظهرت بعدها بوصفها منافسًا في مجال الدعوة.

ويمكن افتراض أن جماعة "الإخوان"تعلمت منها كيفية استخدام العمل الاجتماعى بجوانبه المختلفة للتغلغل في المجتمع. ولكن الجمعية الشرعية ظلت متميزة بأن عملها الاجتماعي ينطوي على شق إنتاجي من خلال المشاريع المتناهية الصغر لمساعدة الأسر الفقيرة، فضلًا عن أن تفرغها للعمل  الاجتماعي-الدعوي أتاح لها توسعًا هائلًا يظهر مثلًا في عدد مساجدها الذي وصل إلى ما يقرب من ستة آلاف عام 2003، وفق آخر إعلان من داخلها على لسان رئيسها العام الراحل د. محمد المختار المهدى. كما أن سعي جماعة "الإخوان"إلى اختراق بعض فروع الجمعية الشرعية، أو بالأحرى جمعياتها الفرعية، من خلال التغلغل فيها والحصول على مقاعد في مجالس إداراتها، أدى إلى شيء من التوتر المكتوم في العلاقة بينهما.

غير أن هذا التغلغل الذي لم يكن كبيرًا على أية حال تسبب في إحدى ثلاث أزمات واجهت الجمعية الشرعية في الفترة محل الدراسة، إذ أُدرج 138 من فروعها ضمن القائمة الأولى التي أصدرتها "لجنة حصر وإدارة أموال الإخوان"في ديسمبر 2013. وهذا عدد ليس كبيرًا إذا علمنا أن إجمالي فروع الجمعية الشرعية يزيد على ألف، وقد يصل إلى ألف ومائة على مستوى الجمهورية.

أما الأزمة الثانية التي واجهت الجمعية الشرعية فقد ارتبطت بإعلان إمام أحد المساجد التابعة لها فتوى في منتصف عام 2014 تُحرَّم شراء شهادات استثمار قناة السويس التي طُرحت في ذلك الوقت. وأُثيرت وقتها قضية مدى الالتزام بالقواعد التي تضعها وزارة الأوقاف التي أصدرت بيانًا جاء فيه أن (الجمعية الشرعية وإن وفت شكلًا بالالتزام بموضوع الخطبة الموحدة، فإنها على أرض الواقع ليست جادة في ضبط خطبائها ضبطًا كاملًا). وقد أمكن حل هذه الأزمة عبر اتفاق يتيح لوزارة الأوقاف بسط سيطرتها على المساجد التابعة للجمعية.

ولكن الأزمة الثالثة (أو الثانية وفق الترتيب  الزمني) بدت في لحظة بدايتها أخطر لولا نجاح منهج قيادة الجمعية الشرعية في التكيف. فعندما شرعت وزارة التضامن الاجتماعي في تنفيذ قرار حظر نشاطات جماعة "الإخوان"وحصر الكيانات التابعة لها، كانت الجمعية التي سجلتها الجماعة رسميًا وشكليًا أيضًا بعد الثورة ضمن هذه الكيانات بطبيعة الحال. وتبين وقتئذ (أكتوبر 2013) أن اللائحة الداخلية لهذه الجمعية تنص على أن أموالها تؤول عند حلها إلى الجمعية الشرعية.

ويتعذر الآن معرفة السبب الذي دعا قيادة "الإخوان"إلى اختيار الجمعية الشرعية، وليست جماعة أنصار السُنة التي صارت في ذلك الوقت أقرب إليها. وفي كل الأحوال، لم تكن قيادة "الإخوان"جادة في العمل من خلال الجمعية التي سجلتها، ولم تقم بأي نشاط تقريبًا. كما أن رصيدها المالي كان ضئيلًا للغاية عند تنفيذ قرار حلها.

ومع ذلك، كانت هذه أزمة خطيرة بالنسبة إلى الجمعية الشرعية في لحظة طغى فيها الميل إلى اجتثاث "الإخوان"وأتباعهم. ولكنها أسرعت إلى إعلان رفضها لأي أموال موجودة في حساب جمعية "الإخوان"، وأنها لم تكن على علم بما ورد في لائحتها الداخلية، وأن الذين وضعوا هذا النص لم يأخذوا رأيها فيه.

وهكذا عبرت الجمعية الشرعية الأزمة، وتمكنت من التكيف مع الوضع الجديد بسرعة فاقت قدرة جماعة أنصار السُنة على ذلك بسبب الروابط التي نسجتها قيادتها مع جماعة "الإخوان"بعيد الثورة. فقد قام الرئيس العام للجماعة د. عبد الله شاكر بدور رئيسى في تكوين هيئة مؤيدة لجماعة "الإخوان"بالاتفاق مع نائب مرشدها العام المهندس خيرت الشاطر، تحت اسم "مجلس شورى العلماء". وضم ذلك المجلس، إلى جانب شاكر، الرئيس السابق للجماعة جمال  المراكبي، وعددًا من الشيوخ المعروفين منهم محمد حسان ومحمد حسين يعقوب ومصطفى العدوي وإسحق  الحويني.

وقام قادة أنصار السُنة بدور مهم في دعم جماعة "الإخوان"ثم سلطتها. كما أسهم رئيسها بدور أساسي في المحاولات التي أُجريت لحل الأزمة التي ترتبت على إسقاط حكمها قبل فض اعتصامي رابعة والنهضة في 14 أغسطس 2013.

ولم يكن هذا مفاجئًا لمن يعرفون تاريخ الجماعة، رغم أنها تجاوزت القواعد التي يعمل بموجبها السلفيون وفي مقدمتها السعي إلى التكيف مع أي تغيير، ومحاولة المحافظة على أدواتهم في كل الظروف. فهذه الجماعة هي الأقرب في الأوساط السلفية إلى جماعة "الإخوان"، مع حرصها في الوقت نفسه على عدم التورط في آية علاقات مباشرة معها. ولعل هذا يفسر إرغامها عام 1969 على الاندماج في الجمعية الشرعية، قبل أن يعيد قادتها إشهارها عام 1972.

وعندما وُضع عدد محدود من فروعها ضمن قائمة الجمعيات التابعة لجماعة "الإخوان"في ديسمبر 2013، بدا أنها رسالة تحذير مصحوبة بإجراءات تضييق محدودة على نشاط بضع فروع أخرى، وقيام وفد من جهاز الرقابة الإدارية بتفتيش مركزها الرئيسى بوسط القاهرة في يوليو 2014 بموجب بلاغ اتُهمت فيه بتمويل بعض نشاطات "الإخوان"، وقرار وزارة الأوقاف بوقف مجلة "التوحيد"التي تصدرها، وتحذيرها من توزيع منشورات على أئمة وخطباء المساجد.

ويتعذر التيقن الآن من أبعاد انشقاق عدد من قادتها وشيوخها في تلك الفترة، ومنهم مدير إدارة الدعوة فيها، وانفصال فرع عابدين إداريًا عنها، وهل كان تطورًا طبيعيًا في سياقه أم كان مدبرًا أو مرتبًا ضمن الرسائل التي استهدفت تحذير الجمعية.

ورغم محدودية الإجراءات التي تعرضت لها على هذا النحو، مضى رئيسها إلى آخر الشوط في عملية التكيف عندما انقلب علنًا على موقفه السابق مع جماعة "الإخوان"، وحملَّها المسؤولية عن إحباط جهود المصالحة. فقد ظهر عبد الله شاكر مع الرئيس السابق للجمعية جمال المراكبي والشيخ السلفي محمد حسان، في القناة الفضائية التابعة للأخير "الرحمة"في 16 أغسطس 2016، وأدلوا بشهادات حول الوساطات التي قالوا إنهم قاموا بها سعيًا إلى تسوية تتيح إنهاء اعتصام رابعة العدوية والنهضة وفتح باب جديد أمام جماعة "الإخوان"التي حملَّوا بعض قادتها المسؤولية عن الفشل في حقن الدماء. ومما قاله شاكر في ذلك اليوم. "وجدنا من الدولة ترحيبًا ومقترحات، ثم وجدنا أطرافًا أخرى تتنكر لذلك ولا ترغب فيه".

ثالثًا: التكيف الإيجابي يُضعف قاعدة "الدعوة السلفية"

لم يتردد حزب النور، الذي يُعد جزءًا لا يتجزأ من تيار "الدعوة السلفية"في الالتحاق بقطار 3 يوليو 2013، والمشاركة في ترتيب أوضاع ما بعد سلطة "الإخوان"، بدءًا من حضور رئيسه الاجتماع الذي عُقد في وزارة الدفاع في ذلك اليوم. كما دعم "دستور 2014"الذي خلا مما سبق أن فرضه هذا الحزب في دستور 2012، بل شارك أحد قادته في "لجنة الخمسين"التي وضعت مسودة هذا الدستور.

اختار قادة "الدعوة السلفية"الانخراط في النظام الذي كان جديدًا وقتها، ودفعوا حزبهم إلى الالتحاق به، ورفضوا نصائح قوى سلفية أخرى فضلت التكيف السلبي ودعتهم إلى ترك العمل السياسي والعودة إلى العمل الدعوي الذي كانوا قد اقتصروا عليه منذ أن انفصلوا عن "الجماعة الإسلامية"وأسسوا "المدرسة السلفية"في أواخر السبعينيات فقد وجدوا وقتها أن جماعة أنصار السُنة - التي كانوا قريبين منها - غير قادرة على استيعاب طاقة شباب متحمس (كان معظمهم طلابًا في جامعة الإسكندرية في السبعينيات)، ثم أطلقوا على أنفسهم "الدعوة السلفية"في منتصف الثمانينيات، وشرعوا في مباشرة نشاطات اجتماعية تحت لافتات دينية، ولكن بدون تأسيس جمعية في ذلك الوقت. وعندما أرادوا إنشاء جمعية، رُفض اسم "الدعوة السلفية". ولذلك أشهروها تحت اسم جمعية الدعاة الخيرية، مع حرصهم في كل مناسبة على تأكيد أنها تابعة لما يسمونه كيان الدعوة السلفية.

ورغم أن هذا التكيف الايجابي أتاح لهم المحافظة على الجمعية، كما على الحزب، ووفر لهم مساحة للحركة مستفيدين من خبرتهم في العمل تحت سقف منخفض في ظل غلق المجال العام أمام الجميع، فقد خسروا الكثير من قواعدهم سواء السلفية، أو العامة التي ارتبطت بحزبهم (النور) بعد الثورة وأتاحت له الحصول على 21% من مقاعد البرلمان المنتخب في انتخابات حرة ونزيهة عام 2011، بواقع 109 مقاعد، بخلاف 18 مقعدًا لحليفيه في تلك الانتخابات (حزبا البناء والتنمية، والأصالة).

وتفاوتت هذه الخسارة من محافظة إلى أخرى في المحافظات العشر التي كان لـ"الدعوة السلفية"حضور قوي فيها. وبعد أن كانت هي القوة الرئيسية المهيمنة في محافظة مطروح، فقدت حضورها فيها بالكامل تقريبًا نتيجة انفصال شيوخها فيها، ومعهم أتباعهم ومريديهم.

ويعود هذا التراجع إلى عاملين. أولهما انقلاب "الدعوة السلفية"على بعض أهم "ثوابتها"، وخاصة فيما يتعلق بالدستور. فبعد أن ورَّطت جماعة "الإخوان"في معركة أخذتها إلى الهاوية من أجل دستور شبه  ديني، أيدت دستورًا شبه  مدني، بل شاركت في وضعه. والثاني اضطرارها إلى اتخاذ مواقف عملية "براجماتية"متخبطة اعتبرتها قطاعات من السلفيين وأنصارهم انتهاكًا لأصول يؤمنون بها. ولذلك انكمشت كثيرًا القاعدة التي كانت "الدعوة السلفية"وحزبها يتحركان فيها، ولم تتمكن من ملء أي جزء من الفراغ الذي تركه "الإخوان". كما خسرت عددًا معتبرًا من قادتها، بينهم أحد مؤسسيها الذي أيد جماعة "الإخوان"وهو الشيخ سعيد عبد العظيم، بينما اختار الباقون ترك العمل السياسي بصورة نهائية.

ولم يحل هذا التكيف الايجابي الذي اختاره قادة "الدعوة السلفية"دون حدوث احتكاكات من وقت إلى آخر مع وزارة الأوقاف بشأن شروط صعود شيوخهم إلى المنابر، وضرورة حصولهم على تصاريح مسبقة. ولذلك فعندما عُقدت الجمعية العمومية العادية لجمعية الدعاة الخيرية في يوليو 2015، مضى قادة "الدعوة السلفية"خطوة أخرى في طريق التكيف الإيجابي مع النظام، فأطاحوا بكل من يمكن أن يحسب على جماعة "الإخوان"، وأُعلن يومها أنهم فصلوا "لمخالفاتهم قواعد الجمعية وعدم اعترافهم بثورة 30 يونيو".

وعندما نقارن الخسائر الميدانية التي منيت بها "الدعوة السلفية"بالمكاسب التي تحققت لها من جراء منهج التكيف الايجابي، ربما نصل إلى أن الجمعية الشرعية وجمعية أنصار السُنة اللتين اختارتا منهج التكيف السلبي كانتا أبعد نظرًا لأنهما لم تخسرا شيئًا يُذكر، وحافظتا على قواعدهما في الأوساط السلفية، وعلى المستوى العام.

وفي النهاية يمكننا القول إن الجمعيات الدينية بمصر مرت بمراحل تحول متعددة تمكن البعض من التكيف مع المتغييرات التي طرأت عليها والبعض الآخر دخل في صدام مباشر مع الدولة وفي كلتا الحالتين نحن أمام أزمة ممتددة تشهدها الجمعيات الدينية في مصر.


رابط دائم: