أثار فوز يحيى السنوار بقيادة المكتب السياسي في قطاع غزة، تساؤلات عديدة حول حدود النفوذ الذي سيحظى به الجناح العسكري من سلطات لاتخاذ القرار الحاسم داخل الحركة، نظرًا للخلفية العسكرية والأمنية للسنوار، ومكانته داخل كتائب القسام، وهل يعد فوز السنوار حسمًا للجدال الداخلي في الحركة بشأن المفاضلة بين كل من إيران والسعودية لصالح محور إيران الإقليمي؟ وهل باتت الحركة مقبلة على تغييرات استراتيجية في علاقتها الخارجية، لاسيما تجاه إيران؟ خاصة مع التصعيد الإسرائيلي تجاه حماس باغتيال القيادي في القسام "مازن فقهاء"، يوم 24 /3 / 2017، ومن ثم حاجة حماس إلى إيران باعتبارها الممول الأساسي للجهاز العسكري، ماليًّا وعسكريًّا وتقنيًّا؟ أم أن حماس ستصبح أكثر تريثًا في قرار العودة إلى إيران، خاصة مع احتمال تراجع التفوق الجيوبولتيكي الذي كان يحرزه النظام الإيراني إقليميًّا، لصالح المحور السعودي؟ وذلك مع استهداف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإيران، ورغبته في تطويق نفوذها الإقليمي والذي اتضح مع فرضه عقوبات اقتصادية على إيران؛ ردًا على تجربة الصاروخ الباليستي التي أجرتها إيران مؤخرًا. فضلًا عن استهداف البحرية الأمريكية لقاعدة الشعيرات العسكرية التابعة للنظام السوري في محافظة حمص يوم 7 /4 /2017.
أولًا: دلالات فوز السنوار بقيادة حماس في غزة
أسفرت نتائج انتخاب المكتب السياسي لحركة حماس التي أجريت خلال شهر يناير من العام الجاري (2017) على مستوى مناطق القطاع المختلفة، عن فوز يحيى السنوار برئاسة الحركة وذلك خلفًا لإسماعيل هنية، بينما فاز خليل الحية بمنصب نائب السنوار. وقد أثارت تلك النتائج ردود أفعال عديدة اتسمت غالبيتها بالتهويل من خبر فوز السنوار، وبشكل رئيسي من جانب إسرائيل، خاصة أنه يجمع ما بين الخبرة العسكرية والمهارة السياسية، حيث يعد من بين القيادات المؤسسة لـ "كتائب عز الدين القسام”، والمسئول الأول عن تأسيس جهازها الأمني "المجد"، مع كل من محمد الضيف وصلاح شحادة وآخرين عام 1985، وهو الجهاز المسئول عن مكافحة العملاء من الفلسطينيين المتعاونين مع إسرائيل. كما أنه فور الإفراج عنه في إطار اتفاق لتبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل عام 2011 الذي عرف بـ"صفقة شاليط"، تم تعيين السنوار مستشارًا لهنية، وأصبح من أبرز قيادات الحركة في غزة وأحد أعضاء مكتبها السياسي إلى جانب صديقه في الأسر روحي مشتهى. وبات للرجلين دور كبير داخل مؤسسات الحركة. وأصبح السنوار ممثلًا لكتائب القسام داخل المكتب السياسي لحماس، ما جعله المنسق الأول بين القيادتين العسكرية والسياسية. وقام بذلك الدور خلال عدوان "الجرف الصامد" على قطاع غزة في عام 2014 من خلال تحديد موقف الحركة من أى اقتراحات كانت تعرض للتهدئة. كما تولى السنوار مهمة إعادة بناء القدرات العسكرية لحركة حماس التي تضررت خلال حرب "الجرف الصامد"، من خلال تعزيز القوة الهجومية ضد إسرائيل عن طريق الأنفاق، وتجديد المخزون الاستراتيجي من الصواريخ.
وهكذا، يتضح من طبيعة المسئوليات التي قام بها السنوار، ومكانته التي حظي بها داخل "القسام" أن اختياره جاء انعكاسًا لغلبة التيار المؤيد للقسام داخل القطاع، من أجل القيام بعدد من المهام الصعبة، وفي مقدمتها تعزيز "القسام" ودعمه كمطلب ضروري قبل أي مواجهة محتملة مع إسرائيل. ثم يأتي التحدي الآخر وهو التصدي لـحالة الانشقاقات التي شهدتها صفوف "القسام"، وإن ظلت محدودة، إلا أنها تطلبت مراجعة لوضع حد لها حتى لا تتكرر تجربة "الجهاد الإسلامي" التي شهدت انقسامات داخلية أسفرت عن تشكيل حركة "الصابرين" التابعة لإيران كحركة منبثقة عنها. أما التحدي الأهم فقد تمثل في مواجهة "العملاء" من الداخل والمتعاونين مع إسرائيل، الذين مثلوا اختراقًا أمنيًّا خطيرًا للقطاع. ثم تأتي مهمة مواجهة جماعات السلفية التكفيرية التي تسعى لجر القطاع إلى مواجهة عسكرية مع إسرائيل، من خلال إطلاق صواريخ استفزازية بهدف استهداف حماس واستنزافها عسكريًّا.
لقد كان لفوز السنوار دلالات مهمة على مستوى العلاقات الخارجية للحركة؛ فقد أشار فوز السنوار إلى ترجيح رؤية الفريق المؤيد للعودة إلى إيران، والذي كان يقوده السنوار بالإضافة إلى محمد الضيف وباقي قيادات القسام. وقد استند هذا الفريق في دفاعه عن رويته تلك إلى العديد من المبررات، والتي تلخصت في أن أولويات الحركة تقتضي تعزيز مكانتها العسكرية، وأنه لا يوجد بديل يمكن أن يحل محل الدعم الإيراني للقسام ماليًّا وعسكريًّا ولوجيستيًّا.
كما رأى فريق السنوار أن الحركة لم تحظ بمميزات ملموسة من تقاربها مع الرياض، وذلك منذ زيارة وفد حماس برئاسة خالد مشعل للممكلة العربية السعودية في صيف عام 2015، والتي التقى خلالها بالملك سلمان. كما يرى هؤلاء أيضًا أن دعم محور السعودية الإقليمي هو دعم مؤقت ومرهون بحالة السيولة التي تشهدها التحالفات الإقليمية، وأنه يقتصر في أفضل الأحوال على بعض الانفراج المحدود في الأوضاع المعيشية داخل القطاع. كذلك فإن موازين القوى الإقليمية بين إيران والسعودية كادت أن تختل على نحو ملحوظ مع أواخر عام 2016 لصالح المحور الإيراني في مقابل تراجع المكانة الجيوبوليتيكية للسعودية على خلفية تطور مختلف الملفات موضوع الخلاف، سواء في كل من اليمن وليبيا، أو في سوريا بشكل رئيسي خاصة مع التفوق النسبي الذي أحرزه تحالف النظام السوري مع روسيا وإيران وحزب الله والذي شكل ضربة رادعة للنفوذ السعودي في سوريا.
وفي هذا السياق أيضًا، رأت القيادة العسكرية لحماس أن الانفراج في العلاقات بين مصر وحماس جاء في أشد لحظات التراجع في العلاقات المصرية- السعودية، أي أن التقارب لم يكن كنتيجة للوساطة السعودية بين مصر وحماس. لذلك فإن حسابات الحركة قبل فوز السنوار كانت تتجه نحو التقارب مع إيران استنادًا لتلك التقديرات والمبررات السابقة.
وبالفعل شهدت العلاقات بين الطرفين تحسنًا، حيث تم عقد لقاءات بين الجانبين في أكثر من عاصمة، كان أبرزها زيارة وفد من حركة حماس برئاسة عضو المكتب السياسي أسامة حمدان لطهران في 10 يناير 2017 لتقديم العزاء للقيادة الإيرانية في وفاة الرئيس الإيراني الأسبق علي هاشمي رفسنجاني. ورغم الطابع البروتوكولي للزيارة إلا أنه شهدت إجراء العديد من اللقاءات بهدف إعادة العلاقات بين الجانبين. كما شاركت حماس ضمن وفد فلسطيني في مؤتمر دعم الانتفاضة الذي عقد في طهران يومي 21، 22 فبراير، حيث التقى الوفد بقائد فيلق القدس في الحرس الثوري قاسم سليمان.
ثانيًا: تحديات عودة العلاقات بين حماس وإيران
كما هو واضح فإنه على الرغم من حرص السنوار والقيادة العسكرية لحماس على تعزيز العلاقات مع إيران، واستكمال جهود التواصل السابقة، إلا أن طريق العودة مازال محفوفًا بالمخاطر والتحديات، خاصة مع استهداف إدارة ترامب لإيران،واعتبارها الخطر الرئيسي في المنطقة. فقد استهل ترامب ولايته بفرض عقوبات جديدة ضد إيران، فضلًا عن تهديده بإلغاء الاتفاق النووي. ثم جاءت الضربة الجوية العسكرية التي وجهتها الولايات المتحدة إلى قاعدة "الشعيرات" التابعة للنظام السوري في محافظة حمص في 7 /4 /2017 لتؤكد هذا التوجه. فعلى الرغم من عدم اتضاح أهداف تلك الضربة، وهل تعد مجرد استعراض للقوة من جانب ترامب لتخفيف الضغوط الداخلية عليه، أم أنها تعكس تغيرًا جذريًّا في استراتيجيات الإدارة الأمريكية تجاه الأزمة السورية، بما يساهم في تغيير موازين القوى داخل سوريا لصالح المعارضة المسلحة وحلفائها في المنطقة، خاصة المحور السعودي في مقابل تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا؟ إلا أنه يمكن اعتبارها رسالة أمريكية واضحة إلى دول الخليج وفي مقدمتها السعودية بإمكانية احتفاظها بالمظلة الأمنية الأمريكية التي تخوفت من زوالها وقت إدارة أوباما.
لذلك فإن حماس اعتبرت التصعيد الأمريكي تجاه سوريا بمثابة تهديد عالي المصداقية لمحور إيران الاقليمي، بما يعني احتمال أن تصبح الحركة في دائرة الاستهداف الأمريكي. لذلك حرصت حماس على الالتزام بالصمت وعدم التعليق على تلك الضربة خشية استقطاب الأصوات الدولية ضدها، من خلال الترويج بأنها حركة (إرهابية)، خاصة أن الولايات المتحدة وضعت في سبتمبر عام 2015، اسم السنوار مع اثنين آخرين من قادة حماس، هما محمد الضيف وروحي مشتهى، على قوائم الإرهابيين الدوليين المطلوبين. كما أدرجت إلى تلك القوائم في 6 /4 /2017 ، قائد لواء الشمال في كتائب عز الدين القسام، أبو أنس الغندو. لذلك فإنه في ظل التصعيد الأمريكي ضد محور إيران في المنطقة، من المتوقع أن يكون السنوار حريصًا على ترقب مسار ذلك التصعيد ومآلاته مع تجنب الاصطفاف المعلن مع إيران.
من ناحية أخرى، فإن إدراك حماس لأهمية الحفاظ علىحالةالانفراج في علاقاتها مع مصر سوف يجعلها تتعامل بحذر وترقب مع إيران، خشية أن يعد ذلك خروجًا وتحديًا لحالة التوافق العربي الخليجي باعتبار التدخل الإيراني في المنطقة يشكل تهديدًا للأمن القومي العربي.
واستنادًا على ما سبق فإن حماس ستكون حريصة أيضًا على بقاء التهدئة مع إسرائيل، والتي توصلت إليها حماس برعاية مصرية بعد عملية "الجرف الصامد"، وذلك من خلال الالتزام بأعلى درجات ضبط النفس، حتى لا يؤثر التصعيد العسكري على جهود الانفراج في العلاقات بين الجانبين. وتتضح جدية حماس والتزامها بالتهدئة من خلال إحكام قبضتها على الجماعات السلفية المتطرفة التي تريد توريط حماس في حرب مع إسرائيل من أجل استنزافها عسكريًّا، وذلك في ضوء إصرار إسرائيل على تحميل حماس المسئولية، من خلال استهداف مواقع وأهداف تابعة لها، مع علمها بأن المسئول عن إطلاق تلك الصواريخ هي الجماعات السلفية. ولم تكتف إسرائيل باستغلال ورقة الصراع بين حماس والسلفية التكفيرية، بل تعمدت اتباع تكتيك تصعيدي من أجل ردع حماس، وذلك مع اغتيال القيادي في القسام مازن الفقهاء يوم الجمعة الموافق 24 /3 /2017 ، والذي يحمل اغتياله دلالات عدة. فمن ناحية، تعد العملية اختبارًا لحدود الرد من جانب حماس في ظل قيادة السنوار. كما تعد من ناحية أخرى، تحديًا شخصيًا للسنوار، خاصة أن فقهاء كان رفيقًا للسنوار في الأسر، وخرج معه ضمن صفقة شاليط، وتم إبعاده من الضفة الغربية إلى قطاع غزة، ومن غزة قام الفقيه بإقامة بنية تحتية عسكرية لكتائب القسام بالضفة، من خلال تأسيسه مكتب "قيادة الضفة الغربية". كما يعد اغتيال الفقهاء تحديًا أيضًا مباشرًا للقيادي صالح العاروري، المسئول الأبرز الآن عن الأنشطة العسكرية لحماس في الضفة الغربية، والذي كان يعمل معه فقهاء بشكل مباشر.
وعلى الرغم من حرص الحركة على ضبط النفس نظرًا لجملة التحديات السابقة، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية داخل القطاع، فإن ذلك الحادث وضع حماس في مأزق اختيار الزمان والمكان المناسبين للرد على اغتيال فقهاء، فمن شأن تجاهل الرد أن تدرك إسرائيل بذلك أنها نجحت في ردع حماس ما سيدفعها إلى ارتكاب المزيد من الاغتيالات الأخرى. وإذا قررت الرد فإن جهود الانفراج في العلاقات مع مصر سوف تنتهى. لذلك فإن تكتيك الصبر الذي تتبعه حماس ردًا على اغتيال الفقهاء، يؤكد أن السنوار قائدًا متزنًا في قراراته، ويحرص على تجنب الوقوع في فخ استدراج المقاومة إلى حرب تفرض إسرائيل توقيتها. وهكذا، فقد فضلت حماس، في ظل قيادة السنوار، الرد على طريقة "حزب الله" بعدم تنفيذ عمليات مضادة، والاستمرار والاكتفاء بالتهديد بالرد في الوقت المناسب.
إن ما سبق يعني أن الحرب طالما لم تُفرض على القطاع فإن حماس لن تبحث عنها، وذلك في ظل وجود أولويات وتحديات داخلية عديدة أمام السنوار، بما يعني أن الحرب ليست عنوان المرحلة الراهنة في عهد السنوار. إلا أن ذلك لا يعني في الوقت ذاته أن الحركة لم تعد بحاجة إلى الدعم الإيراني، حيث إن الجهوزية العسكرية للقسام تتطلب بقاء قنوات الدعم والتواصل مع إيران، باعتبارها الممول الأساسي للجناح العسكري في حماس، وذلك من أجل حشد المزيد من القوة أمام إسرائيل، في حالة خروج التصعيد الإسرائيلي عن حدود السيطرة، واضطرار الحركة إلى خوض حرب قد تُفرض على القطاع. لكن الحركة في تقاربها مع إيران سوف تكون حريصة على عدم إثارة غضب أطراف إقليمية أخرى، مثل قطر وتركيا، خاصة مع شبه التوافق على اعتبار إيران خطر يهدد الأمن القومي العربي الخليجي. كما أن المساعدات الإنسانية التي تقدمها تلك الأطراف لدعم قطاع غزة في النواحي الإنسانية والاقتصادية- والتي من شأنها التخفيف من معاناة أهالي غزة، ومن ثم التخفيف من حالة السخط الجماهيري ضد حماس- لا تقل في أهميتها عن الدعم العسكري الذي تقدمه إيران.
ويعني ذلك أن حماس سوف تحرص على بناء علاقات متوازنة مع كل من إيران ومحورها الإقليمي من جانب، وعمقها العربي من جانب آخر، من أجل إبقاء قنوات الدعم مع الجميع، خاصة في ظل حالة الاستقطاب القائمة بالمنطقة، وحالة السيولة التي تشهدها التحالفات الإقليمية. ويتضح ذلك التوجه من خلال الوثيقة السياسية الجديدة لحماس، والتي تعد موجهة بشكل رئيسي إلى الخارج، وتحاول من خلالها استرضاء الدول العربية وفي مقدمتها مصر، من خلال التأكيد على عدم تدخل الحركة في الشئون الداخليد لأي دولة، مع عدم الإشارة إلى أي رابط تنظيمي بين حماس وحركة الإخوان المسلمين. وفي الوقت ذاته، تحرص حماس على عدم استعداء إيران، من خلال تجنب الإشارة إلى المذهب الشيعي وحدود انتشاره داخل القطاع، وذلك بهدف الحفاظ على مصالح حماس وعلاقاتها مع إيران وحزب الله، والحفاظ على بقاء المساعدات المالية والتدريبات العسكرية.
من مجمل ما سبق يمكن القول إنه رغم أن فوز السنوار يشير إلى أن حماس الداخل سيكون لها القرار السياسي المؤثر على مستوى الحركة، إلا أن التحديات السابقة ستكون بمثابة عراقيل تكبل خطى تقارب حماس مع إيران، بما يعني أن السنوار في ظل قيادته للحركة في غزة لن يكون بمقدوره الشروع في اتخاذ قرارات جوهرية تحدث تغييرات استراتيجية في العلاقات الإقليمية للحركة، خاصة تجاه كل من إيران والسعودية من أجل الخروج من دائرة الصراع المتصاعد بينهما، والذي يعد مقبلًا على مرحلة أكثر تعقيدًا خاصة في ظل إدارة ترامب التي تضع إيران ومحورها الإقليمي في دائرة الاستهداف، الأمر الذي ينذر بتذكية الصراع السني- الشيعي في المنطقة. وبالنسبة لباقي الأطراف الإقليمية مثل قطر وتركيا، فإن الجناح السياسي للحركة سيكون حريصًا على بقاء علاقات جيدة معهما لتعظيم الاستفادة من جميع الأطراف. وستواصل الحركة في الوقت ذاته جهودها من أجل استكمال مسيرة الانفراج في العلاقات بين الجانبين.