تراوح الموقف من تصريحات ومواقف الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" أثناء الحملة الانتخابية وبعد فوزه، في مختلف الدوائر السياسية العالمية ودوائر السياسة الخارجية المختلفة، بين موقفين. أولهما، ذهب إلى اعتبار هذه التصريحات، خاصة تلك التي سبقت صعوده إلى قمة الرئاسة، مجرد تكتيكات انتخابية لجذب أصوات الفئات التي أعارت انتبهاها لخطابه وشخصه، وأنها قد لا تتحول بالضرورة إلى مواقف رسمية للإدارة الأمريكية الجديدة. أما ثانيهما فقد أخذ هذه التصريحات والمواقف على محمل الجد وعملوا من ثم على تغيير الواقع واتخذوا إجراءات وترتيبات تحصن مواقفهم إزاء الإدارة الأمريكية الجديدة.
في إطار الموقف الثاني الذي تعامل مع مواقف الإدارة الأمريكية بجدية تدخل دول مثل روسيا والصين وكوريا وإيران، فهذه الدول استثمرت ضعف الإدارة الأمريكية في عهد أوباما وانسحابها من الأزمات الدولية لتثبيت مواقعها وترتيب أوضاعها، فروسيا حرصت على ذلك في الشرق الأوسط وأوروبا، وحرصت الصين على ذلك في بحر الصين الجنوبي والمواقع الخاصة بنفوذها وقوتها، أما إيران فإنها قادرة على استيعاب سلبيات هذه المواقف الأمريكية الجديدة إذا ما حاول ترامب وضع تصريحاته بشأنها موضع التطبيق.
والحال أن العالم العربي يكاد يكون هو المنطقة الوحيدة التي لم تُعد للأمر عدته، ولم تتخذ من الترتيبات ما يمكنها من التعامل الإيجابي مع احتمالات تغيير سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والنجاة من آثارها المدمرة إذا وضعت موضع التطبيق.
وسواء تعلق الأمر بالدول العربية، أو مكوناتها المجتمعية والسياسية، أو النظام العربي أو الإقليمي، فإنها لا تمتلك الأوراق أو القدرات التي تمكنها من المساومة، ومن ثم فقد تصبح القضية الفلسطينية هي الساحة الأفضل والأسهل لدى "ترامب" لتطبيق مواقفه الانتخابية المتعلقة بالقضية الفلسطينية.
موقف الإدارة الأمريكية الجديدة من الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ومن إسرائيل، واضح؛ ففضلًا عن استلهام الميراث الأمريكي لضمان أمن إسرائيل ومساعدتها عسكريًّا وماليًّا فإنه يحاول أن يتطابق مع المواقف الإسرائيلية إزاء الاستيطان، والموقف من المنظمات الدولية التي تدين إسرائيل والدولة الفلسطينية واللاجئين والقدس. في جميع هذه القضايا صرح "ترامب" أكثر من مرة بما يفيد أنه يبحث عن حلول أخرى غير حل الدولتين، وأن الحل لديه هو الحل الذي ترتضيه الأطراف، والمعنى الضمني هو الحل الذي ترتضيه إسرائيل.
هذا الموقف، وإن كان جديدًا من ناحية صياغته في عبارات واضحة أحيانًا وغامضة أحيانًا أخرى، وصادمة أحيانًا ثالثة، إلا أنه في حقيقة الأمر يعبر عن مختلف المواقف الأمريكية السابقة تجاه القضية الفلسطينية، حيث استقرت هذه المواقف على المستوى اللفظي والتعبيري، ولكنها لم تُترجم إلى ضغوطات حقيقية تمارس على إسرائيل، ولم تُترجم إلى تعاطف حقيقي والتزام أخلاقي إزاء الشعب الفلسطيني، بل بقيت خطابية أكثر منها عملية. وربما يمكن القول إن ترامب قال علنا ما يقوله مختلف الرؤساء الأمريكيين سرًا.
المواقف الأمريكية إزاء القضية الفلسطينية لا تكتف بالاتفاق مع المواقف الإسرائيلية إزاء الاستيطان واللاجئين وحل الدولة الواحدة (الإسرائيلية بالطبع وحسب)، بل هي تمتد للتطابق مع منطلقات ومرتكزات السياسة الإسرائيلية في العمق الأيديولوجي والثقافي. فثمة ما يسميه بعض الكتاب الاشتراك في القيم، أي تلك القيم الأساسية من وجهة نظرهم ألا وهي الديموقراطية، استنادًا إلى مقولة إن إسرائيل هي الدولة الديموقراطية الوحيدة في المنطقة والتي لم تمتد إليها رياح التغير التي عصفت بالدول العربية أو الإرهاب، بل استطاعت أن تقيد من كليهما في إضعاف الدول العربية المحيطة، ونسج علاقات جديدة مع روسيا وتركيا لتعظيم الاستفادة من حصاد هذه المواجهة. من ناحية ثانية، هناك قيم الريادة، والهجرة، والاستيطان، والمغامرة، واقتطاع أراضي فلسطين من العالم العربي وتعميرها، وإقامة دولة قوية مدنية ديموقراطية. وهناك من ناحية ثالثة، القيم التوراتية التي شكلت دوافع هؤلاء المستوطنين في الولايات المتحدة عند اكتشافها وفي إسرائيل لدى التفكير في إنشائها عقب وعد بلفور وقبله في مؤتمر بازل الصهيوني عام 1896.
قد لا يمكن الجزم الآن بمآل هذه المواقف الأمريكية المعلنة للإدارة الجديدة من الصراع العربي- الإسرائيلي والصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، حيث تخضع ترجمة هذه المواقف للدراسة من قبل فريق ترامب. وحتى بافتراض أن بعض هذه المواقف الجديدة من قبيل الاختبار لردات الفعل العربية والعالمية وإعادة الحسابات والتقييم على ضوء ذلك، إلا أنه وفي جميع الأحوال فإن الموقف العربي والفلسطيني في حالة انكشاف واضح على مختلف الصعد، فالمآسي تتوالى والمشكلات تتفاقم، والدول القطرية والوطنية العربية تنهار بفعل الإرهاب من قبل الإرهابيين الوافدين أو من غيرهم. كما أن جدول الأعمال العربي مسكون بهاجس القضاء على الإرهاب وإعادة البناء والإعمار وتسوية المشكلات الناجمة عن العنف والدمار والإرهاب والاقتتال الأهلي في سوريا وليبيا واليمن، الأمر الذي أدى في النهاية إلى تراجع مكانة القضية الفلسطينية في جدول الأعمال العربي. ويقف العرب مكتوفي الأيدي إزاء المشروعات الإقليمية النافذة لإيران وتركيا وإسرائيل، بل ويغيب العرب عن تسوية النزاع في سوريا وغيرها من الأزمات.
أما على الصعيد الفلسطيني؛ فأوراق المساومة تبدو منعدمة، فالانقسام مستمر بين فتح وحماس، بين غزة ورام الله، وكأن الأمر والمستجدات لا تعنيهما. من ناحية ثانية، فإن السلطة والمنظمة والفصائل تقف "محلك سر" لا تجديد للأبنية والأفكار والاستراتيجيات، بل على النقيض من ذلك فالاستراتجيات التي تم اختبارها وفشلت لا تزال هي الحاكمة وكأنها محصنة. ونتيجة لذلك فإن الاحتلال لازال ينعم بالهدوء والاستمرار دون ثمن ودون تكلفة، ومخططاته في تزايد واستمرار للاستحواذ على الأأورراضي الفلسطينية أو ما تبقى منها.
وبناءً على هذا المشهد فإنه لا يتوقع حدوث تغير كبير في موقف الإدارة الأمريكية الجديدة من القضية الفلسطينية، أو إسرائيل، ولا يمكن حدوث مثل هذا التغير المطلوب دون إعادة ترتيب الأولويات العربية، وهيكلة المشروع الوطني الفلسطيني واستعادة قيمة التحرر الوطني بكافة أساليبه وأدواته في إطار متكامل، ورفع تكلفة استمرار الاحتلال.
في هذا المشهد أيضًا، فإن مصر تحظى بأهمية ومسئولية، خاصة بحكم ثقلها الدبلوماسي والسياسي وعلاقتها الجديدة مع الإدارة الأمريكية. وتبدأ المسئولية المصرية من ضرورة إقناع الإدارة الأمريكية الجديدة بأهمية تحريك القضية الفلسطينية، وتوصيل رسالة واضحة لإدارة ترامب حول مخاطر تجاهل تطلعات الشعب الفلسطيني وخطورة اعتماد المواقف والتصريحات المعلنة كسياسة رسمية، لأن الاستقرار في المنطقة لن يتحقق فقط بالقضاء على الإرهاب والتخلص من داعش، بل وأيضًا من خلال الحل العادل والمعترف به دوليًّا لتلك القضية التاريخية، أي حل الدولتين.