مصر وأمريكا، السيسي وترامب
2017-3-30

د. جمال عبد الجواد
* مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

في أعقاب حرب 1973 قام الرئيس السادات بتحويل دفة السياسة الخارجية المصرية بعيدًا عن الاتحاد السوفيتي وفي اتجاه الولايات المتحدة. كان هذا التحول اختيارًا استراتيجيًّا لسببين على الأقل؛ فمن ناحية أولى، مثل هذا التحول اختيارًا طويل المدى، فقد التزمت مصر بأولوية التحالف مع الولايات المتحدة طوال العقود الأربعة التالية  وحتى سقوط نظام مبارك في عام 2011. من ناحية ثانية، كانت علاقة التحالف المصرية- الأمريكية حجر الزاوية وحلقة الوصل بين عدد آخر من الاختيارات الأساسية في السياسة المصرية، أهمها السلام مع إسرائيل، والانفتاح الاقتصادي، ونظام التعددية الحزبية المقيدة، وكلها اختيارات كان من الصعب تخيلها دون ارتباطها بعلاقة التحالف المصرية- الأمريكية.

تأسس التحالف المصري- الأمريكي في مرحلة الحرب الباردة، وكان من نتيجة هذا التحالف أن أخذت مصر جانب الولايات المتحدة خلال ما تبقى من سنوات هذه الحرب. لقد انتهت الحرب الباردة منذ زمن طويل، ورغم التوتر الحادث حاليًّا في العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، فإن هذا التوتر ليس من نفس نوعية توترات الحرب الباردة، ناهيك عن أن مصر لم تعد تأخذ جانب الولايات المتحدة في هذه التوترات بشكل تلقائي، بل ولم تعد الولايات المتحدة نفسها تتوقع من مصر أن تأخذ جانب واشنطن في كافة خلافاتها مع موسكو. وفي جملة واحدة، فإن حسابات الحرب الباردة التي كانت أحد مرتكزات التحالف المصري- الأمريكي لم تعد قائمة.

بدأت مصر في تلقي مساعدات أمريكية، عسكرية واقتصادية، كبيرة منذ تم التوصل لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في عام 1979. كانت هذه المساعدات جزءًا من صفقة كبيرة لمكافأة مصر وإسرائيل على التوصل للسلام، ولتشجيعهما على مواصلة التمسك به، وحفاظًا على التوازن العسكري بين العدوين التاريخيين بطريقة تمنع تجدد العنف بينهما. هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى فقد كانت هذه المساعدات تعويضًا للقاهرة عما فقدته من مساعدات عربية بسبب السلام مع إسرائيل، ودعمًا لمصر في مواجهة خصوم إقليميين استفزهم اتفاق السلام بين القاهرة وتل أبيب. ومن ناحية ثالثة، فقد كانت المساعدات الأمريكية لمصر سبيلًا أمريكيًّا للحفاظ على التوازن في سياستها الشرق أوسطية، فالدعم الكبير الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل، والذي تضاعف في أعقاب اتفاق السلام المصري- الإسرائيلي، كان يحتاج لتقديم دعم مماثل لبلد عربي أساسي حتى تستطيع الولايات المتحدة مواصلة الادعاء باتباع سياسة متوازنة في الشرق الأوسط.

الحفاظ على علاقات السلام مع إسرائيل، وتوسيع نطاق السلام معها ليشمل دولًا عربية أخرى، هكذا تلخصت المصلحة المشتركة المصرية- الأمريكية فيما يخص قضية العلاقات بين العرب وإٍسرائيل. غير أن السلام المصري الإسرائيلي لم يعد سلامًا غضًا يحتاج إلى رعاية أمريكية. فبعد أكثر من خمسة وثلاثين عامًا من السلام لم يعد البلدان يحتاجان إلى تشجيع خارجي لمواصلة علاقات السلام بينهما، بعد أن بات مستقرًا في أذهان صناع القرار في البلدين أنهما أفضل حالًا مع السلام، عنهما بدونه، حتى لو لم تكن هناك مساعدات أمريكية. كما أن التحاق الدول العربية بعلاقات السلام مع إسرائيل لم تعد هي المشكلة، فكل الدول العربية تقريبًا باتت مستعدة لإقامة علاقات طبيعية مع إسرائيل بشرط حل القضية الفلسطينية، فرفض العرب للسلام لم يعد هو المشكلة بعد أن تبين أن  رفض إسرائيل للسلام يزيد كثيرًا جدًا عن تردد بعض العرب بهذا الخصوص.

لقد قامت العلاقات المصرية- الأمريكية في السبعينيات على تفاهم استراتيجي بين النخب الحاكمة في البلدين. ارتكز هذا التفاهم على اتفاق حول ضرورة السلام العربي الإسرائيلي، وحول محاصرة النفوذ السوفيتي في المنطقة. تغير الواقع في الإقليم والعالم، ولم يعد لهاتين القضيتين ما كان لهما من أهمية في السابق، الأمر الذي عرض علاقات البلدين لضغوط كبيرة، وراحت أطراف عدة تثير التساؤلات حول جدوى هذه العلاقة، وتصرف بعض الأطراف بطريقة غير متفق عليها في مرات كثيرة، فتم تعريض علاقات البلدين لأزمات متكررة. لقد كان موقف أجنحة النخبة الأمريكية بشأن السلام العربي- الإسرائيلي ومحاصرة النفوذ السوفيتي موحدًا رغم الاختلافات الحزبية، وهو ما أسهم في الحفاظ على العلاقات المصرية- الأمريكية رغم توالي رؤساء مختلفين على الحكم. أما الآن فإن الانقسام السياسي داخل الولايات المتحدة يجعل من الصعب جدًا توقع الاتفاق على أي شيء يخص السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.

لقد ساد التوتر علاقات مصر والولايات المتحدة أغلب فترتي رئاسة  جورج بوش الابن. وبعد التحسن المحدود في العلاقات بعد انتخاب باراك أوباما دخل نظام حسني مبارك في أزمة يناير 2011 التي أجهزت عليه. المهم في هذه الأزمة هو أن الولايات المتحدة نأت بنفسها عن نظام حكم مبارك المتداعي منذ مرحلة مبكرة في الأزمة. وبعد سقوط مبارك، أخذت الولايات المتحدة في المراحل اللاحقة من الأزمة جانب خصوم مؤسسات الدولة المصرية، وهي نفس المؤسسات التي استثمرت كثيرًا في علاقات التحالف مع الولايات المتحدة طوال العقود الأربعة السابقة، الأمر الذي زاد من تعميق التأزم في العلاقات بين البلدين.

الآن، تتيح رئاسة ترامب فرصة لترميم العلاقات المصرية- الأمريكية، فالرئيس الأمريكي الجديد يضع التطرف الإسلامي على رأس قائمة أعداء الولايات المتحدة، بل إن الرئيس ترامب لا يبدو مستعدًا للتمييز بين إسلاميين متطرفين وآخرين معتدلين، فتعريفه للتطرف يتسع ليشمل كل جماعات الإسلام السياسي تقريبًا، وهو نفس الموقف الذي يتبناه الرئيس السيسي ومساعديه المقربين. لقد كانت مصر، من بين كل دول المنطقة، هي الأكثر استقامة في رفض جماعات الإسلام السياسي، وفي رفض التوظيف الانتهازي لهذه الجماعات لتحقيق أهداف تكتيكية، الأمر الذي يزيد فرص تدعيم علاقات التعاون المصري- الأمريكي في ظل رئاسة ترامب، خاصة فيما يخص هذه القضية.

ليس من الصعب تحديد الأهداف التي يريد الرئيس ترامب تحقيقها في الشرق الأوسط، ولكن المشكلة هي أننا لا نعرف ما الذي تريد الولايات المتحدة تحقيقه في المنطقة بعد الانقسام العميق الذي ضرب المجتمع الأمريكي في السنوات الأخيرة. ففيما يتفق الأمريكيون باتجاهاتهم المختلفة على محاربة الجماعات المتطرفة المسلحة، فإن الموقف من الإسلام السياسي في عمومه ليس موضوعًا لإجماع أجنحة النخب الأمريكية. فأمريكا الحالية لم تعد موحدة، لكنها منقسمة بشدة حول كل شيء تقريبًا، ولعل الخلاف الراهن حول الهجرة واللاجئين يبين هذا، وسوف يكون على مصر في السنوات القادمة اعتياد التعامل مع إدارات أمريكية متعاقبة تختلف كل منها عن سابقتها بدرجة كبيرة.

لم تعد الأهداف المباشرة التي قامت العلاقات المصرية- الأمريكية لتحقيقها قبل أربعين عامًا ذات صلة كبيرة بالواقع الدولي والإقليمي الحالي. ويحتاج البلدان إلى صياغة أسباب جديدة لاستمرار علاقات التحالف بينهما، كما يحتاجان إلى اقتراح أهداف مشتركة جديدة يسعيان لتحقيقها معًا، وإلى إضفاء معنى جديد على التحالف بينهما بعد أن تبدل الخصوم وتغيرت العدائيات. وفي هذا السياق، سوف يكون على مصر تجهيز إجاباتها عن عدد من الأسئلة الرئيسية، نوجزها فيما يلي:

- ما هي السياسات التي تريد مصر من الولايات المتحدة تطبيقها في الشرق الأوسط؟

- ما هي المطالب التي يمكن لمصر بشكل عملي توقع استجابة الولايات المتحدة لها؟

- ما هي الأشياء التي يمكن لمصر أن تقدمها للولايات المتحدة في الشرق الأوسط؟

- ما هو الشكل الذي ستكون عليه العلاقات بين مصر والولايات المتحدة فيما تقيم مصر علاقات تعاون وثيق مع روسيا؟

- هل لمصر أن تتوقع استمرار المساعدات الأمريكية عند نفس مستوياتها السابقة في ظل التعدد في تحالفات مصر الخارجية؟

- إلى أي مدى يمكن لمصر الاستغناء عن  المساعدات الأمريكية؟

- ما الذي سوف يتغير في سياسة مصر تجاه الولايات المتحدة إذا أوقفت واشنطن مساعداتها لمصر، أو إذا قامت بتقليصها إلى مستوى شديد الانخفاض؟

بالطبع لا توجد إجابة واحدة لهذه الأسئلة، ولكنها أسئلة متجددة تتغير الإجابة عليها بتغير الظروف. وعلى مؤسسات صنع  القرار والمؤسسات البحثية في مصر مواصلة التباحث حولها. وفي تقديري أن بناء علاقة مصرية- أمريكية ذات محتوى وشكل شديد التحديد -كما كان عليه الحال حتى نهاية التسعينيات- لم يعد أمرًا ممكنًا. ومن ثم يصبح على مصر تطوير أداء ديناميكي يسمح لها بالاحتفاظ بعلاقة تعاون وثيق مع الولايات المتحدة رغم تغير الظروف وتغير توجهات الرؤساء الأمريكيين.

وكلما كانت مصر متفقة على الأسباب التي من أجلها تريد الاحتفاظ بعلاقات تعاون وثيق مع الولايات المتحدة، كلما استطاعت القاهرة إدارة علاقاتها بواشنطن بطريقة فعالة. ولعلنا في مصر نتفق على أن مصر تريد من الولايات المتحدة نافذة مفتوحة على التكنولوجيا العسكرية الحديثة، وأن مصر تريد مواصلة الحصول على المساعدات العسكرية الأمريكية كمقياس لوزن مصر الاستراتيجي لدى واشنطن، وكمصدر إضافي للإنفاق الدفاعي يخفف الضغط عن المالية العامة المثقلة. وأن مصر تريد لعلاقتها بالولايات المتحدة أن تكون رصيدًا إضافيًّا يحسن وضع مصر التفاوضي في علاقتها بالقوى الإقليمية والدولية الأخرى. وأن مصر تريد من الولايات المتحدة أن تكون مصدرًا للاستثمارات الأجنبية المباشرة الضرورية لنمو الاقتصاد المصري، وأن مصر تريد للولايات المتحدة أن تكون حليفًا متفهمًا عندما يجري عرض قضايا تخص مصر على مؤسسات دولية سياسية أو اقتصادية. وبالتأكيد فإن مصر لا تريد أن تجد واشنطن في صف أعداء مصر.

سيظل مطلوبًا من مصر أن تعيد تكييف سياستها تجاه الولايات المتحدة كلما تم انتخاب رئيس جديد في واشنطن. لكن الاستراتيجية المصرية الأكثر استدامة فيما يخص العلاقات مع الولايات المتحدة هي تعزيز التعاون مع المؤسسات الأمريكية الأقل تأثرًا بتقلبات السياسة والانتخابات. يسري ذلك بشكل خاص على القوات المسلحة الأمريكية. فالعسكريون الأمريكيون لا ينشغلون بالتطورات الدرامية المثيرة بقدر ما ينشغلون بالاستدامة والاستمرارية، وهي الأشياء التي يمكن لعلاقة مستقرة طويلة الأمد مع مصر أن توفرها. فكسب العسكرية الأمريكية لصالح علاقة مستقرة ممتدة مع مصر يتيح لمصر في واشنطن جماعة مصالح ولوبي قوي أثبت على مدى السنوات السابقة أنه كان أهم المدافعين عن التعاون الوثيق بين مصر وأمريكا.


رابط دائم: