مستقبل الاتفاق النووي مع إيران... بدائل أمريكية محدودة
2017-3-19

د. محمد عباس ناجي
* رئيس تحرير الموقع الإلكتروني - خبير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

دخل الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران ومجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015، ورُفعت بمتقضاه العقوبات الدولية التي كانت مفروضة على إيران في 17 يناير 2016، مرحلة جديدة واختبارات صعبة مع تولي إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مهامها في 20 يناير 2017. فقد بات السؤال عن مستقبل هذا الاتفاق ومدى إمكانية استمرار العمل به خلال المرحلة القادمة يحظى بأهمية وزخم خاص من جانب القوى الإقليمية والدولية المعنية بتداعياته الاستراتيجية على منطقة الشرق الأوسط.

فقد أشار ترامب، قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية إلى إمكانية إقدامه على إلغاء هذا الاتفاق في حال أصبح رئيسًا، ثم عاد بعد ذلك ودعا إلى إعادة التفاوض عليه من جديد. وعمق من هذه المخاوف قيام ترامب بعد دخوله البيت الأبيض بتعيين مسئولين في إدارته يتبنون مواقف متشددة بشأن الاتفاق.

لكن رغم ذلك، فإن الخيارات المتاحة على الأرض أمام الإدارة الأمريكية لتنفيذ توجهاتها إزاء الاتفاق تبدو محدودة، فضلًا عن أنها من الممكن أن تفرض تداعيات سلبية على المصالح الأمريكية في حالة ما إذا اتجهت الإدارة الأمريكية إلى اتخاذ خطوات إجرائية بشأنها بالفعل.

اتفاق دولي

من دون شك، فإن ما يضيف صعوبات عديدة أمام تنفيذ تلك التوجهات هو أن الاتفاق النووي لم يكن اتفاقًا ثنائيًّا بين إيران والولايات المتحدة، ولكنه اتفاق دولي بين إيران ومجموعة "5+1"، التي تضم الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن إلى جانب ألمانيا، وهو ما يعني عمليًّا أن الولايات المتحدة لا تستطيع بمفردها اتخاذ قرار بإلغاء الاتفاق، أو وقف العمل بتنفيذه أو حتى إعادة التفاوض عليه من جديد.

وقد حرص بعض المسئولين في إيران وروسيا وعدد من الدول الأوروبية التي شاركت في المفاوضات التي انتهت بالوصول للاتفاق، على تأكيد أن الولايات المتحدة لا تمثل إلا طرفًا واحدًا من الأطراف السبعة التي شاركت في تلك المفاوضات، بما يعني أن تلك الدول نفسها حريصة على تأكيد أن قدرة واشنطن على إلغاء الاتفاق محدودة، إن لم تكن معدومة، إلا في حالة ما إذا نجحت الأخيرة في حشد وتعبئة باقي الدول الأطراف في اتجاه محدد، وهو ما يواجه بدوره عقبات لا تبدو هينة.

وفي هذا السياق، أكد الرئيس حسن روحاني، عقب الإعلان عن فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية في 8 نوفمبر 2016، أنه "من غير الممكن أن يلغي ترامب الاتفاق النووي رغم تهديده بذلك"، مضيفًا أن "الاتفاق لم يتم إبرامه مع طرف واحد أو دولة واحدة، بل تمت المصادقة من جانب مجلس الأمن، ومن غير الممكن أن تغيره حكومة واحدة".

هذا الموقف تحديدًا تبنته أيضًا بعض القوى الدولية المعنية بالاتفاق، وهو ما عبرت عنه هيلجا شميت، الأمين العام لإدارة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، في 17 يناير 2017، بقولها إن "فريق السياسة الخارجية في إدارة ترامب لديه فهم خاطئ للاتفاق النووي ولا يدرك أنه ليس قابلًا للتفاوض"، مشيرة إلى أنه "اتفاق متعدد الأطراف ولا يمكن التفاوض عليه بشكل ثنائي".

وبالتوازي مع ذلك، سعت تلك القوى الدولية إلى توجيه رسائل مباشرة لإدارة ترامب بضرورة مواصلة العمل بالاتفاق النووي، حيث كان العنوان الرئيسي للزيارة التي قامت بها منسقة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، فيديريكا موغيريني، إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في 10 فبراير 2017، هو التأكيد على ضرورة مواصلة العمل بالاتفاق النووي.

عقبات عديدة

وفي هذا السياق، يمكن تحديد البدائل الرئيسة المتاحة أمام الإدارة الأمريكية للتعامل مع الاتفاق في ثلاثة بدائل: الأول، هو الانسحاب المنفرد من الاتفاق، وهو ما أشارت وزارة الخارجية الأمريكية إلى إمكانية حدوثه فعلًا في 10 نوفمبر 2016. البديل الثاني هو فرض مزيد من العقوبات الأمريكية على إيران استنادًا إلى مبررات عديدة من قبيل التجارب الإيرانية لإطلاق صواريخ باليستية، أو دعم الإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان. وتجدر الإشارة أن الإدارة الأمريكية بدأت بالفعل في تنفيذ هذا البديل. البديل الثالث هو الاستمرار في العمل بالاتفاق مع فرض ضغوط على إيران من أجل الالتزام حرفيًّا ببنوده.

وبالنظر إلى تلك البدائل، يمكن القول إن البديلين الأول والثاني قد ينتجان تداعيات سلبية عديدة. إذ إن الانسحاب من الاتفاق الذي ربما يهدف، وفقًا لاتجاهات عديدة، إلى "تخريبه" بدلا من "إلغائه" حسب ما كان يهدد الرئيس ترامب قبل الانتخابات، سوف يضع المسئولية الدولية عن أي إخفاق للاتفاق على عاتق الإدارة الأمريكية. كما أنه سيوجه رسالة للقوى الدولية مفادها صعوبة التعويل على انخراط تلك الإدارة في أية التزامات دولية صارمة، بما يعني التأثير سلبًا على مكانة الولايات المتحدة كقوة رئيسة على الساحة الدولية.

فضلًا عن ذلك، فإن هذا الخيار يمكن أن يدفع إيران إلى إعادة تطوير برنامجها النووي من جديد أو بمعنى أدق العودة إلى المستوى السابق الذي كان عليه البرنامج النووي قبل الوصول للاتفاق، خاصة أنها منذ بداية المفاوضات التي مهدت للاتفاق حرصت على التمسك بعدم تفكيك أي من مكونات برنامجها النووي، لا سيما فيما يتعلق بعمليات تخصيب اليورانيوم وأجهزة الطرد المركزي من الطرازات المختلفة التي أنتجتها.

فقد نص الاتفاق على مواصلة إيران عمليات التخصيب لمستوى 3.5%. ورغم أنه حصر استخدام أجهزة الطرد المركزي المخصصة لتلك العمليات في الطراز الأول فقط (IR 1)، إلا أنه منح إيران الحق في إجراء أبحاث خاصة بتطوير الطرازات الأكثر تقدما التي قامت إيران بإنتاج عدد كبير منها خلال فترة تصاعد الأزمة النووية، حيث استخدمتها في رفع نسبة التخصيب إلى نحو 20%، بشكل ساعدها في تحقيق تقدم كبير في برنامجها النووي.

وبعبارة أخرى، يمكن القول إن إيران ركزت خلال المفاوضات على تقديم تنازلات في الجوانب التكنولوجية التي يمكن تعويضها، على غرار كميات اليورانيوم المخصب، وهو ما يعني أنها كانت مستعدة من البداية لاحتمالات التراجع عن مواصلة العمل بالاتفاق، لأي سبب كان، وأنها حرصت على امتلاك القدرة على استعادة مستوى التطور في برنامجها النووي حتى مع الوصول للاتفاق. وقد بدا ذلك جليًّا في تصريحات المسئولين الإيرانيين، التي أكدت على إمكانية العودة إلى المستويات السابقة للبرنامج النووي في حالة توقف العمل بالاتفاق النووي، وذلك في رسالة تحذيرية لإدارة ترامب من مغبة إقدامها على أية خطوة قد تؤثر على سير العمل بالاتفاق.

جهود متعثرة

لكن الملفت في هذا السياق أن قدرة واشنطن على تكوين حشد دولي معارض لتطوير إيران برنامجها النووي من جديد، على غرار الحشد الذي كان قائمًا قبل الوصول للاتفاق، سوف تتراجع، باعتبار أن المسئولية عن دفع إيران لاتخاذ هذه الخطوة سوف تقع على عاتق واشنطن. إذ إن بعض القوى الدولية قد تعارض أي توجه أمريكي في هذا الإطار، مثل روسيا، التي أكدت مرارًا على ضرورة مواصلة العمل بالاتفاق النووي، ودافعت عن بعض الخطوات التي اتخذتها إيران وأثارت قلقًا بالغًا لدى تلك القوى، خاصة إجراء تجارب لإطلاق صواريخ باليستية.

وقد بدا ذلك جليًّا في الجدل الذي تصاعد بعد إجراء إيران تجربة لإطلاق صاروخ باليستي متوسط المدى في 29 يناير 2017، حيث نددت الولايات المتحدة بهذه الخطوة ودعت مجلس الأمن لعقد جلسة مغلقة لمناقشتها، وهو ما ردت عليه روسيا بتأكيدها أن "إيران لا تنتهك قرار مجلس الأمن حول برنامجها النووي في حال أجرت تجربة لإطلاق صاروخ باليستي"، واعتبرت الدعوة الأمريكية بمثابة "مسعى إلى تأجيج الوضع".

وهنا، ربما يمكن القول إن موسكو تسعى من خلال ذلك إلى توجيه رسالة إلى واشنطن بأن استنادها إلى خيار نقل المواجهة مع إيران إلى مجلس الأمن، ربما من أجل إعادة فرض العقوبات الدولية السابقة في حالة إثبات عدم التزام إيران بالاتفاق النووي ومن ثم العودة بالأزمة النووية إلى مربعها الأول قبل الوصول للاتفاق، سوف تواجه عقبات عديدة من جانب القوى الدولية الأخرى، التي تتبنى سياسة مختلفة عن السياسة الأمريكية في هذا السياق.

تأثير محدود

أما فيما يتعلق بالبديل الثاني، والمتمثل في رفع سقف العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، فإنه لن ينتج، في الغالب، تأثيرات قوية على إيران، لأسباب مختلفة، أبرزها أن الأثر المباشر لذلك قائم بالفعل، منذ الوصول للاتفاق النووي. إذ إن إيران ممنوعة من استخدام النظام المالي الأمريكي، كما أن الشركات والمصارف الأمريكية لم تنخرط في معاملات مالية ومصرفية مع إيران، فضلًا عن أن كثيرًا من نظيراتها الأوروبية تخشى من التورط في مثل تلك العمليات التي قد تؤدي إلى تعرضها لعقوبات من جانب واشنطن.

بعبارة أخرى، فإن هذا الخيار لن يضيف شيئًا في الواقع.ورغم أن إيران قدمت شكاوى عديدة ضد التأثيرت السلبية للإجراءات الأمريكية على تعاملاتها المالية، التي تواجه عقبات كثيرة حتى الآن، حيث وجهت اتهامات عديدة إلى الولايات المتحدة بعدم التزام بنود الاتفاق، إلا أن هذه الإجراءات الأمريكية ثبت أنها لم تنجح في دفع إيران نحو إبداء سياسة أكثر مرونة أو الالتزام حرفيًّا ببنود الاتفاق النووي.

 وقد انعكس ذلك في تطورين: أولهما، تعمد إيران إجراء تجارب لإطلاق صواريخ باليستية، كان آخرها إطلاق صاروخ "هرمز 2" الباليستي البحري خلال المناورات التي أجرتها إيران في 9 مارس 2017. وثانيهما، حرصها على تجاوز الكمية المسموح لها بامتلاكها من المياه الثقيلة، والتي تصل إلى 130 طنًا، حيث كان ملفتًا أنها أكدت في الرسالة التي وجهتها إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 18 مارس 2017، أن الاتفاق النووي لم يلزمها بإرسال المياه الثقيلة الفائضة عن حاجتها إلى الخارج قبل تقدم دول أو شركات لشرائه، وهي خطوة سوف تصعد من حدة التوتر في علاقاتها مع الإدارة الأمريكية، التي قد تعتبر ذلك مؤشرًا إلى عدم استعداد إيران للالتزام بالاتفاق خلال المرحلة القادمة.

إلى جانب ذلك، أثبتت إيران، خلال المرحلة التي تصاعدت فيها أزمة ملفها النووي منذ عام 2002، قدرتها على استيعاب تداعيات العقوبات الدولية التي فرضت عليها ووصلت في عام 2012 إلى مرحلة غير مسبوقة بعد أن منعتها من تصدير كمية كبيرة من النفط إلى الاتحاد الأوروبي. فرغم أن تلك العقوبات أنتجت أزمة اقتصادية حادة، إلا أنها لم تدفع إيران إلى تقديم تنازلات بشأن برنامجها النووي، بل إن إيران كانت حريصة على تحقيق أكبر قدر من التقدم في هذا البرنامج خلال فترة العقوبات، لدرجة عززت من موقعها التفاوضي في المباحثات التي أجريت للوصول إلى الاتفاق النووي، حيث استغلت إيران التقدم الذي حققته في البرنامج للحصول على مكاسب استراتيجية مهمة في الاتفاق، على غرار تمكنها من مواصلة عمليات تخصيب اليورانيوم، حتى وإن كانت بمستوى منخفض (3.5%)، ورفع العقوبات الدولية المفروضة عليها، والسماح لها بالانخراط في تعاملات مالية ومصرفية مع مختلف الدول، باستثناء الولايات المتحدة.

كما أن هذا الخيار يمكن أن يواجه بدوره معارضة من جانب بعض القوى، مثل الصين، التي قدمت احتجاجًا لدى الولايات المتحدة الأمريكية، في 6 فبراير 2017، بسبب العقوبات الجديدة التي فرضتها الأخيرة على 25 شخصًا وكيانًا لاتهامهم بالارتباط ببرنامج الصواريخ الباليستية من بينهم شركات وشخصيات صينية.

فقد أكدت بكين في هذا السياق على أن "مثل هذه العقوبات، خصوصًا عندما تضر بمصالح طرف ثالث، لا تجدي في تعزيز الثقة الدولية"، في إشارة إلى الجهود التي تبذلها الصين من أجل رفع مستوى تعاونها الاقتصادي مع إيران، في مرحلة ما بعد الوصول للاتفاق النووي، وهو ما بدا جليًّا في الزيارة التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى إيران، في 22 يناير 2016، والتي كانت أول زيارة لرئيس دولة لإيران بعد رفع العقوبات الدولية المفروضة عليها في الشهر ذاته.

خلاصة القول، وفي ضوء الاعتبارات السابقة، يمكن القول إن البديل الثالث ربما يكون هو الأكثر ترجيحًا أي استمرار التزام الإدارة الأمريكية بالاتفاق النووي، لكن مع العمل في الوقت ذاته على ممارسة ضغوط على إيران من أجل عدم الالتفاف عليه أو البحث عن ثغرات قانونية فيه قد تتيح لها توسيع نطاق أنشطتها النووية من جديد.


رابط دائم: