في محاولة لحلحلة الصراع الدائر في ليبيا منذ 2014 بين الشرق والغرب، شهدت الأشهر القليلة الماضية نشاطًا ملحوظًا من قبل الدولة المصرية. ومما لا شك فيه أن ليبيا تمثل عمقًا استراتيجيًّا للأمن القومي المصري، فضلًا عن حجم المصالح الاقتصادية والروابط الاجتماعية بين البلدين. وفي هذا السياق، لجأت مصر لعدد من التحركات المهمة، شملت الحوار مع ممثلي الكيانات الشرعية في ليبيا، سواء في الشرق أو في الغرب، والحوار مع شيوخ القبائل الليبية، والعمل على تطوير توافق إقليمي مع دول الجوار الليبي (تونس والجزائر بالأساس). وكان الهدف الرئيسي لكل هذه التحركات محاولة التوصل لإطار للتسوية السياسية في ليبيا ينهي حالة الانقسام، ويضع حدًا للتهديدات الناشئة من داخل الدولة الليبية، سواء ضد الدولة الليبية ذاتها أو ضد دول الجوار الإٍقليمي، ويحقن دماء الشعب الليبي الذي بات هو الخاسر الأكبر من الصراعات السياسية والعسكرية الدائرة. وبالفعل نجحت الجهود المصرية في تحقيق عدد من النتائج والتحولات التي مثلت شروطًا ضرورية للتوصل لمثل هذه التسوية. وقد مثل "إعلان القاهرة" الصادر في فبراير الماضي (2017) مثالًا مهمًا على إمكانية تطوير إطار سياسي قادر علي إنهاء الصراع، والحفاظ على وحدة ليبيا، ومنع أية تدخلات دولية سواء سياسية أو عسكرية، على نحو وضع ليبيا بالفعل أمام فرصة ذهبية للخروج من حالة الانقسام الجغرافي، والصراع السياسي، والتصعيد العسكري،
في هذا السياق بات ضروريًّا طرح عدد من التساؤلات حول طبيعة الدور المصري في ليبيا؟ ولماذا نجحت الجهود المصرية في خلق إطار للتسوية السياسية في حين فشلت كل المبادرات الأخرى؟ وهل هذا الإطار كافٍ لتحقيق التسوية أم أنه لازالت هناك حاجة إلى دور مصري أكبر في هذا المجال لنجاح هذا الإطار وتفعيله؟ وما هي التحديات والفرص المطروحة أمام عملية التسوية السياسية في ليبيا؟
لماذا نجحت المساعي المصرية في التوصل لإطار للتسوية السياسية في حين فشلت عدد من المبادرات سواء من الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة؟
واقع الأمر هناك عدد من الأسباب كانت وراء نجاح المساعي المصرية في هذا المجال. أولها، يتعلق بنمط التعامل المصري مع الفرقاء في ليبيا؛ إذ إن أغلب المبادرات التي حاولت التوصل إلى إطار للتسوية السياسية في ليبيا كانت مبادرات أجنبية أعلت من مصالح طرف على حساب الآخر، كما عبرت عن مصالح وأجندات لدول قد تتعارض مع مصلحة الدولة في ليبيا. وعلى العكس، اتخذت مصر خطًا مختلفًا في سياستها الخارجية تجاه القضية الليبية، تمثل في العمل على توفير المناخ المناسب للفرقاء الليبيين للتوافق بأنفسهم على إطار التسوية السياسية. ومن ثم، فإن ما فعلته مصر بالضبط لم يكن تقديم مبادرة لإنهاء الصراع في ليبيا، بقدر ما تمثل في توفير البيئة اللازمة لمساعدة الأطراف الليبية على بناء توافق "ليبي- ليبي" حول إطار سياسي للتسوية، من خلال مجموعة من الجهود والتحركات الدبلوماسية والسياسية، وهو ما اتضح مع صدور إعلان القاهرة وما أشار اليه من توافق بين الفاعلين الرئيسيين في الصراع. العامل الثاني، يتعلق بالإدراك المصري الواضح لطبيعة التوازنات الإقليمية بشأن ليبيا؛ فالواقع السياسي الليبي لم يفرز نخبة قادرة على اتخاذ قرار سياسي دون الرجوع للفاعلين الرئيسيين في المنطقة، وتحديدًا تونس والجزائر بجانب مصر؛ لذلك لم يكن من الممكن التوصل لإطار للتسوية السياسية بدون تنسيق قوي بين مصر وكل من تونس والجزائر، وهو ما تم بالفعل من خلال إحياء آلية دول الجوار.
هل يمثل "إعلان القاهرة" إطارًا كافيًا للوصول إلى تسوية سياسية، أم لازالت هناك حاجة لمزيد من الجهود والتحركات الإضافية لتفعيل هذا الإطار؟
مما لا شك فيه لا يعد التوصل لإطار سياسي غير مُفعل شرطًا كافيًا لإنهاء الصراع، ولعل خير دليل على ذلك هو "اتفاق الصخيرات" الذي وقعت عليه الأطراف الليبية المشاركة في الحوار السياسي في ديسمبر 2015، إذ حتى اليوم لم يتمكن الاتفاق من توفير فرص للتسوية السياسية نظرًا لغياب ما يكفي من توافق حوله بين الفاعلين المختلفين في ليبيا. الأمر ذاته ينسحب على "إعلان القاهرة"، ومن ثم، لازالت هناك حاجة لمزيد من الجهود المصرية، بالتعاون مع كل من تونس والجزائر، لتفعيل إعلان القاهرة. ويأتي في مقدمة هذه الجهود ضرورة الاستمرار في توفير المناخ المناسب للفرقاء الليبيين خلال مرحلة تعديل اتفاق الصخيرات، واستمرار السعي للتنسيق بين القيادات السياسية والأمنية، وتوفير الدعم المادي واللوجيستي والعسكري اللازم لبناء هيكل الدولة والخروج من حالة الانقسام. كما أن أحد أهم أبعاد تفعيل الاتفاق والتوصل لتسوية سياسية حقيقية هو عدم ظهور كيانات عسكرية موازية للقوات المسلحة للدولة الليبية، والتصدي للميليشيات والكيانات العسكرية الراديكالية التي لن تندمج داخل هيكل الدولة في أي وقت من الأوقات.
ما هي أبرز التحديات التي تواجه تعديل اتفاق الصخيرات؟
يظل السؤال الأكثر أهمية في هذه المرحلة يتعلق بحجم التحديات التي تواجه تعديل اتفاق الصخيرات وتفعيل هذا الاتفاق، وفرص التوصل لتسوية سياسية تنهي حالة الصراع بشكل سلمي. وفي ضوء مجمل التحركات المصرية خلال الفترة الأخيرة، يمكن القول إن هناك فرصة حقيقية للخروج من هذا الصراع على خلفية تطور حالة من التوافق الداخلي والإقليمي، وهي الفرصة التي يجب أن تستثمرها أطراف الصراع في ليبيا قبل الفاعلين الإقليميين. كما أن وجود دعم دولي لفكرة تعديل الاتفاق، وآلية التعديل المعتمدة على حوار بين ثلاثين عضوًا من أعضاء المؤسسات الشرعية، وعدد الخطوات المطروحة كخارطة طريق، يعد من أهم الوسائل التي تدفع في اتجاه التسوية السياسية. وعلى الرغم من وجود عدد من الدول التي تتعارض مصالحها مع التوصل لتسوية سياسية في ليبيا، إلا أن عدد هذه الدول وقدرتها على الفعل أقل بكثير من التحالف الداعم لجهود التسوية السياسية في ليبيا.
وبالإضافة إلى هذه التحديات، لا يخلو المشهد من عدد من التحديات الداخلية التي يمكن أن تعرقل عملية التسوية، وعلى رأسها الميليشيات والكيانات العسكرية غير الشرعية. فإذا كان الهدف هو الوصول إلى بناء كيان عسكري واحد يحظى بالشرعية ممثلًا في الجيش الوطني الليبي، فإن ذلك يستوجب الدخول في عدد من الصدامات والنزاعات العسكرية بين القوات المسلحة الشرعية وهذه الميليشيات، وهو ما ظهر جليا خلال اشتباكات الجيش الوطني الليبي مع ميليشيا "سرايا الدفاع" عن بنغازي في معركة الهلال النفطي الأخيرة. ومثلما هناك خطر من ظهور كيانات عسكرية موازية، هناك أيضًا خطر من ظهور كيانات سياسية موازية، وهو ما يرتبط بحجم التماسك والتوافق الذي ستتمكن النخب السياسية في ليبيا من صنعه.
رابط دائم: