برزت القوة الناعمة مؤخرًا كإحدى القنوات المنسية في العلاقات المصرية- السعودية، وهي ذلك النمط من القوة الذي يمكنه أن يلعب دورًا مهمًا في تخفيف حدة الأزمات بين البلدين، والتي أثبتت تفاعلات العام الماضي الحاجة إليها، بعدما أخذ منحنى العلاقات بين البلدين اتجاهًا صاعدًا لأعلى وبقوة، أعقبه انكسار هابط وبقوة أيضًا. هذا النوع من القوة (الناعمة) هو بمثابة "بوليصة تأمين" و"وسائد حماية" لهذه العلاقات في الأوقات الاعتيادية وغير الاعتيادية في علاقات الدول، ويؤكد دائمًا على أن ما تفشل في تحقيقه السياسة يمكن أن تحققه الأبنية التحتية للعلاقات والفعاليات الثقافية والأدبية والفنية الأعمق، التي تحافظ على الأصول والأرصدة في العلاقات البينية بين الدول، فتحميها من الهدر أو الانهيار.
لقد برزت أهمية استعادة دور القوة الناعمة في العلاقات المصرية- السعودية في حدثين على درجة بالغة من الأهمية مؤخرًا، وهما مشاركة وفد مصري كبير ضم نخبًا ثقافية وإعلامية وسياسية وقامات فكرية وفرقًا فنية موسيقية، يتقدمهم وزير الثقافة المصري، أ. حلمي النمنم، في "مهرجان الجنادرية الوطني للتراث والثقافة" في المملكة العربية السعودية في أوائل شهر فراير الماضي، حيث كانت مصر ضيف شرف المهرجان لعام 2017، وهو أمر لقي ترحيبًا رسميًّا وشعبيًّا كبير داخل المملكة، رغم توتر العلاقات السياسية بين البلدين. أما الحدث الثاني فهو تضمين برنامج أنشطة الهيئة العامة للترفيه السعودية حفلة للموسيقار المصري الكبير عمر خيرت في 3 مارس الجاري، كانت مثار الحديث الإعلامي والسياسي والشعبي للسعوديين، حين نفدت جميع تذاكرها رغم ارتفاع أسعارها التي تتراوح بين (1000-2200) ريال سعودي. وأثار خيرت الانتباه حين تحدث -وهو غير السياسي- عن عمق وحميمية العلاقة بين البلدين والشعبين، وحين اعتبر أن "حلمه" بالعزف في المملكة قد تحقق أخيرًا.
هاتان الإشارتان تشيران إلى ما يمكن أن تقوم به القوة الناعمة، المصرية والسعودية، في العلاقات الثنائية، إذ إنه لفترة طويلة امتدت لعقود تعرضت العلاقات بين البلدين للابتسار والاختزال في الجانب السياسي الرسمي، وتوارى تأثير دور القوة الناعمة، وهي القادرة على بناء حوائط صد تؤمن العلاقات الرسمية وتحميها، ولم يعد يجري توظيف هذه القوة، ولم نعد نسمع عنها إلا في المناسبات الرسمية وعلى نحو مبتذل، حين يجري تقديم الدعاوى لرموز من الحياة الفنية والثقافية لحضور حفلات الغداء أو العشاء على شرف الرسميين من الجانبين. هذه الأجواء لم تكن مشجعة على تطوير دور القوى الناعمة وفهم طبيعتها واستثمارها وتوظيفها في العلاقات الثنائية.
أولاً: سوق القوى الناعمة الواعد بالمملكة
هناك فرصة حاليًا لاستثمار وتطوير دور القوى الناعمة في العلاقات بين مصر والسعودية؛ حيث إن المملكة مقبلة على فترة جديدة من تاريخها مليئة بكل ما يمكن توقعه؛ فقد أفاقت المملكة منذ سنتين على واقع مفاجئ؛ حين تبين لأصحاب القرار أن جرعة الترفيه في الحياة العامة قليلة جدًا، وربما منعدمة، بما لا يتناسب وطبيعة ومكانة المملكة، ولا يتناسب مع حجم الطلب الداخلي على ذلك، ولا يتناسب أيضًا وتاريخ المملكة الفني والإبداع القبلي والمناطقي ذي الطبيعة الخاصة المتغلغل في موروث المناطق المترامية. وتبين أن السعوديين يذهبون بالملايين في موجات السياحة الفصلية والسنوية إلى كل أرجاء العالم، ويتمتعون بكل ألوان الفن المتاح في البلدان المختلفة، بينما لا يجدون ذلك متوافرًا في بلدهم، وهو ما ينفق السعوديون في سبيله مليارات الدولارات سنويًّا تضيع على خزانة الدولة. وكان ذلك أمرًا مستغربًا، خصوصًا أن الكثير من أنشطة الترفيه والموسيقى والغناء لم تكن محرمة في الماضي، وكانت الحفلات الغنائية والموسيقية موجودة وتقام إلى عهد قريب في مختلف الأندية الثقافية والرياضية بالمملكة حتى ضاقت الحياة العامة بالكثير من أنشطة الفن المباح.
فحتى نهاية عقد الثمانينيات من القرن الماضي كانت مدن المملكة تعيش حراكًا فنيًّا رائعًا، وكان التليفزيون الرسمي ينظم الحفلات ويستضيف المطربين السعوديين في أمسيات غنائية كبيرة، وكان الجمهور السعودي يجد أمامه خيارات ترفيهية متنوعة تلبي احتياجه. لكن ذلك توقف مع بداية التسعينيات دون سبب واضح، وكان آخر حفلات غنائية مفتوحة في مدينة الرياض -مثلًا- عام 1992 في الجنادرية، وقد غنى حينها طلال مداح وخالد عبدالرحمن والموسيقار المصري الكبير محمد الموجي.
ومن عاش حقبة التليفزيون المصري في السبعينيات والثمانينيات يتذكر المطرب السعودي الكبير طلال مداح والفنان محمد عبده. كما يتذكر صوت المطربة السعودية عتاب. وقد يكون مفاجئًا أن نعرف أن أول حفلة غنائية للفنان محمد عبده داخل بلده كانت في أكتوبر 2016من خلال مسرح عكاظ التاريخي في مدينة الطائف غرب السعودية، بعد غياب دام لأكثر من 11 عامًا عن الحفلات الغنائية داخل المملكة، مما يشير إلى أي حد بلغت الأمور من ناحية حرمان المجال الفني من الإسهام في المجال العام بالسعودية.
ولم يكن يجري الانتباه إلى ذلك لولا ما تضمنته "رؤية 2030" السعودية التي وضعت يدها على هذه المفارقة المفاجئة، وكان "ولي ولي العهد" الأمير محمد بن سلمان قد أشار يوم تدشينه لرؤية المملكة 2030 في 25 إبريل 2016 إلى اتجاه الدولة لتفعيل دور الصناديق الحكومية المختلفة في تأسيس وتطوير المراكز الترفيهية، وتشجيع المستثمرين من الداخل والخارج، وعقد الشراكات مع شركات الترفيه العالمية، وتخصيص الأراضي لإقامة المشروعات الثقافية والترفيهية من مكتبات ومتاحف وفنون وغيرها. لكل ذلك كان الأمر الملكي الصادر في 7 مايو 2016 بإنشاء "هيئة عامة للترفيه"، تختص بكل ما يتعلق بذلك النشاط، ويكون لها مجلس إدارة يُعين رئيسه بأمر ملكي، وتُعنـى بتنظيـم قطاع الترفيه في المملكة وتطويره، والارتقاء بجميع عناصره ومقوماته وإمكاناته، وذلك من خلال وضع خطط ومعاييـر إقامة المرافق والمنشآت والفعاليات الترفيهية وإدارتها ودعمها.
بالتأكيد لا تزال هذه الخطوات السعودية في بداياتها وبواكيرها، وهي عرضة للكثير من العراقيل، لكنها ليست معرضة للانتكاسة كليًّا، فمسار التغيير والترفيه في المملكة أخذ طريقه إلى الواقع الداخلي. ومهما كانت اعتراضات القوى الدينية المتشددة، فإنها لن تقضي على هذا التوجه؛ إنها قد تثير مشكلات له بين الحين والآخر، أو تحد حركته، لكنها لن تنهيها كلية، خاصة في ظل النمو المتسارع للطبقة الوسطى والطبقة المتعلمة وما يتضمنه ذلك من نمو الفئات العمرية الشبابية المتعلمة والمنفتحة التي ترنو لأن تجد في بلادها ما اعتادت عليه في الخارج. كذلك هناك مطالبات بضرورة التصدي لقوى التشدد والتطرف التي فرضت حالة من التجميد والجمود، وليس هناك أدل على هذه الحاجة من مطالبة البعض الآن بترفيه للمرأة، التي لا تزال غائبة عن خريطة الترفيه العامة في المملكة.
ثانيًا: دور القوة الناعمة المصرية
مع انطلاق سوق الترفيه الواعد وأنشطة هيئة الترفيه السعودية، تشكل المملكة سوقًا واعدة لاستقبال أدوات القوى الناعمة المصرية والتفاعل الإيجابي معها، وهي التي تشكل أهم وأكبر قوة ناعمة بالمنطقة العربية؛ فلمصر تاريخ وباع طويل في الأنشطة الثقافية والفنية والترفيهية بوجه عام، وهناك تفاعل سعودي خاص مع الذوق والفن المصري والأدب المصري، وهناك درجة كبيرة من التوافق والتماهي بين النخب الفنية والثقافية على الجانبين، مما يخلق فرصًا لاستقبال فنانين وفرق فرادى وجماعات من كل جانب لدى الآخر. ويمكن المشاركة في فعاليات مشتركة، ويمكن للقوى المهنية الفنية في مصر في الأوبرا والغناء والفرق الموسيقية، ثم تاليًا الفرق المسرحية والأفلام السينمائية (وهي أمور لم تعد بعيدة عن تبني قرار رسمي بشأنها في المملكة) أن تتناقل الخبرات، وأن تلعب دورًا مهمًا في تطوير وبناء قوى فنية جديدة في المملكة، تكون أداة مهمة في العلاقة بين البلدين، كما يمكن للمعاهد الفنية في مصر والمدارس الموسيقية أن تنفتح على الواقع السعودي لتسهم في تشكيل نسيج متمازج فنيًّا ويناسب الخصوصية السعودية.
وتمتلك مصر بنية تحتية قوية وتاريخًا من الفن الجميل، ولكن لا تزال نقطة تميز مصر في قواها الناعمة -أو المرحلة المثالية لها- تتمثل في حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وهي حقبة كرست مكانة مصر الإعلامية والثقافية والسياسية في العالم العربي. وبالتأكيد فإنه مع التطور العالمي حدثت الكثير من المتغيرات التي تأثرت بها القوى الناعمة لكل الدول. وبالنسبة للمملكة فإن هناك ميراث إعزاز ومحبة وعشق لـ"مصر الثقافة والفن" خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، وهو ما يجعل الكثير من السعوديين يتساءلون عن نجوم هذه الحقبة، ولا يزالون عالقين ذهنيًّا وقلبيًّا ووجدانيًّا بها. وبالمقابل هناك أجيال سعودية جديدة مرتبطة بالفن الحديث والعصري، وهي منفتحة كثيرًا على الثقافة العالمية، والجامع المشترك بين الاثنين هو الذوق الفني العام. فقد كانت حقبة الستينيات والسبعينيات من أكثر الحقب التي رسمت الذوق المصري والعربي العام، وعززت المزاج الفني والوجداني لهذه المنطقة، لذلك فإن استمرار تقديم عروض فنية ترتقي بالذوق والعقل مع تقديم نسخ وطبعات تواكب احتياجات وتحولات القرن الحادي والعشرين ولا تتصادم مع البيئات المحلية، هو أمر يمكن أن يكون محل إقبال سعودي كبير.
كما أن سعي الفن المصري إلى الريادة في عرض الجديد والعصري المناسب لتطلعات الأجيال الشابة، هو أمر يمكن أن يعزز دور القوة الناعمة لمصر داخل السعودية، ويمكننا أن نتصور كيف يكون الإقبال السعودي على نجوم الفن المصري في عروض مسرحية راقية، وفرقًا موسيقية رفيعة الأداء، وأفلام سينمائية تنافس الأفلام العالمية، في سوق كبير، يتضمن المملكة وكل دول الخليج، وهو أمر يتطلب فهمًا للآداب والأخلاقيات واحترام الخصوصيات. بالتأكيد يتضمن ذلك مستقبلًا واعدًا للفن المصري، خصوصًا إذا سعى إلى التمازج مع القدرات الفنية السعودية عبر أعمال مشتركة أو أعمال تتضمن مشاركات فنانين سعوديين في أعمال فنية مصرية. وهناك مئات الأندية الثقافية والرياضية في المملكة يمكنها أن تلعب دورًا بالغ الأهمية في إثراء التواصل الاجتماعي والثقافي بين البلدين، من خلال أنشطة ثقافية وفنية مشتركة.
ثالثًا: الحاجة إلى مأسسة دور القوة الناعمة في علاقات البلدين
يمكن للقوة الناعمة المصرية والسعودية أن تلعب دورًا مهمًا في مختلف الأوقات خصوصًا في أوقات الأزمات. ولا شك أن أوقات الاستقرار السياسي في علاقات البلدين تقدم الحالة النموذجية لانتعاش أدوار القوى الناعمة، ولذلك لم يكن غريبًا أن تعقب زيارة الملك سلمان لمصر في إبريل 2016 حفل غنائي للفنان محمد عبده في دار الأوبرا المصرية في مايو. ولا يعني ذلك أن أوقات الأزمات لا تلعب فيها القوة الناعمة دورًا مهمًا، ولعلنا نتذكر زيارة الوفد الشعبي المصري للمملكة في مايو 2012 الذي ضم رموزًا سياسية وثقافية وفنية ودينية عدة، على إثر الأزمة العابرة في علاقات البلدين في هذه الفترة.
لكن دور القوة الناعمة الذي نستهدفه وندعو إلى تعزيزه هو أبعد بكثير من هذه اللقطات العابرة، إنه يتجه إلى ضرورة مأسسة علاقات الشعبين، وتمتين جسور هذه العلاقات على الأصعدة الفنية والثقافية والعلمية والتعليمية، وكل ما يتعلق بالدور المستقبلي للبلدين في هذه المنطقة. ويعني ذلك ضروة امتلاك خطة مشتركة هادفة ومستهدفة؛ بحيث لا يترك نشاط القوة الناعمة للمناسبات العشوائية، وبحكم ما تمليه الظروف، وإنما أن تلعب هذه القوى دورًا محددًا ومرسومًا ومستهدفًا في حماية هذه العلاقات وتأمينها من الاضطرابات، وضمان استمرارها مهما كانت الخلافات السياسية.
إن المقصود بـ"مأسسة دور القوة الناعمة" المصرية السعودية هو بناء مصدات أمان تتحرك آليًّا ومؤسسيًّا لحماية الأصول والأرصدة في علاقات البلدين وتحميها ساعات الأزمات، وفي الأوقات الطبيعية تمارس نشاطها الاعتيادي والطبيعي. ولعل خطة مشتركة تربط هذه القوى الناعمة بالاقتصاد وتجعلها جزءًا من الدورة الاقتصادية ودورة المصالح في البلدين، وبناء مؤسسات مشتركة للمعنيين من هنا وهناك هو أمر ضروري. كما أن تشكيل مؤسسات توجد مقراتها في البلدين أو تعقد بالتناوب فيهما هو أمر أساسي، مع الاتفاق على برامج أنشطة وفعاليات متعددة وفق جداول وآليات منتظمة، وهذا مجال رائج ومفتوح على أفكار لا حصر لها.
وفضلًا عما سبق، هناك على الجانب السعودي القوة الناعمة لرجال المال والأعمال والشباب الجديد الذين هم نتاج حصاد الاستثمار في التعليم خلال العقود الأربعة الماضية. وهنا يمكن التفكير في بناء جامعات مشتركة في البلدين مع أطقم علمية متبادلة يدرس فيها الطلبة السعوديون والمصريون، كما يمكن التفكير في عقد أنشطة وفعاليات بين المراكز البحثية على الجانبين، وتقديم عروض فنية مصرية سعودية مشتركة، وإنشاء فرق جماعية للموسيقى والفنون بين الأقاليم والمناطق المختلفة في مصر والمملكة، مع استمرار حفلات كبار المطربين في البلدين.
ويبقى الأساس.. أن يسبق كل ذلك إيمان المسئولين بأهمية واستراتيجية العلاقات، وبأن المستقبل يجب أن يرسمه البلدان معًا، وبأن "مجتمع الآخر" الذي يحتفظ بكل أواصر المحبة والود، يشكل بالنسبة له فرصة، وهو بمثابة القوى الناعمة الحقيقية له.