كان الوضع الاقتصادى فى مصر قبيل ثورة يناير مصداقا لوصف الاقتصادى جوزيف ستيجلتز حول آثار سياسات العولمة الاقتصادية وفقا للنموذج الأنجلو-أمريكى، والتي تفرز "فقراء فى بلاد غنية"، وتؤدى إلى تآكل "من هم فى المنتصف" أو الطبقة الوسطى. ليس أدل على ذلك من أن مصر حققت معدلات مرتفعة للنمو الاقتصادى لعدة سنوات متتالية، وكانت مصنفة - مع تونس- ضمن فئة الأداء الاقتصادى المتميز من قبل البنك وصندوق النقد الدوليين. ولم تحل تلك المؤشرات، وترحيب المؤسسات المالية الدولية بالأداء الاقتصادى للبلدين دون اندلاع ثورة فى مصر قوامها المطالبة بالعيش والعدالة الاجتماعية.
فقد عكست الأوضاع الاقتصادية فى السنوات السابقة على الثورة، كما تناولتها العديد من التحليلات والدراسات، مزيجا من النمو الاقتصادى المرتفع من ناحية، وتزايد فى معدلات الفقر والهشاشة الاجتماعية من ناحية اخرى، وزيادة التفاوت الاجتماعى، والجغرافي فى ظل منظومة من الفساد والمحسوبية. بل إن سنوات النمو الاقتصادي المرتفع ذاتها (2004-2009) قد ارتبطت بشكل مباشر بارتفاع نسبة الفقراء فى مصر بمقدار 2% ، حيث ارتفعت نسبة المواطنين تحت خط الفقر فى تلك الفترة من 19,6% إلى حوالى 21,6%، كما تضاعفت نسبة الفقر المدقع لتصل إلى 6% خلال نفس الفترة. واستمرت معدلات الفقر فى الازدياد فى الفترة التى أعقبت الثورة لتصل إلى ما يقرب من 28% فى عام 2015. (بحث الدخل والإنفاق والاستهلاك- الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء يوليو 2016).
ومن ثم كان درس يناير واضحا فى أولوية المطالب/ المظالم ذات البعد الاقتصادي والاجتماعى، وتجذر مطلب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بحيث كان "الوعد" بالعدالة الاجتماعية قاسما مشتركا لجميع ألوان الطيف السياسى فى الفترة التى أعقبت الثورة، وتحول إلى التزام دستوري بموجب دستور 2014. وما زال هذا الجانب من مطالب الثورة، يشكل بعدا أساسيا لمناقشة السياسات العامة وتقييم مدى عدالتها. وبالرغم من أن فترة السنوات الست قد لا تكون كافية لتحقيق هدف بحجم العدالة الاجتماعية، إلا أنها فترة كافية لكشف مؤشرات وتوجهات السياسات العامة ما بعد الثورة، ومدى اتساقها مع "بوصلة" مطلبى العيش والعدالة الاجتماعية.
أولا: خطاب "دوران" عجلة الاقتصاد والسياسات المرتبطة به
بالرغم من وضوح المطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وسخونة الحراك المرتبط بها بعد ثورة يناير، جاءت الدعوة مبكرا، وعلى لسان الحكومات المتعاقبة، إلى عودة عجلة الاقتصاد إلى "الدوران"، مع تجاهل العوامل الهيكلية المسببة لتفاوت الثروة والدخل، وتهميش قطاع كبير من المواطنين، فضلا عن التفاوت فى مستوى المعيشة ونوع الخدمات المتاحة فى الأقاليم المختلفة. فالدعوة إلى دوران "العجلة" تجاهلت أن ذات العجلة فى ذروة دورانها قد أدت إلى مشهد الثورة، أو فى أفضل الأحوال لم تتمكن من تجنب حدوثه. ومن ثم فإن هذا الخطاب، وما ارتبط به من ممارسات وقرارات، لم يكن يسعى فقط إلى استعادة الهدوء واستئناف النشاط الاقتصادى، وإنما عكس عدم جدية فى مراجعة النظام الاقتصادى القائم قبل يناير، من حيث كونه غير عادل وغير مستدام.
على هذه الخلفية، تشير معظم القرارت، والقوانين والسياسات الاقتصادية، تلك الذهنية التى تهدف إلى استعادة الأوضاع الاقتصادية لما قبل ينايربسياساتها الاقتصادية النيوليبرالية، مع تعثر وتذبذب للقرارات والسياسات ذات الطابع العدالى، أو التى تهدف إلى توزيع مختلف للموارد والأعباء الاقتصادية يقلل من الضغوط على الطبقات الفقيرة والمهمشة، والتى كانت مدفوعة فى الأغلب بضغط الحركة المطلبية عقب الثورة. فى هذا السياق ترددت معظم السياسات الضريبية في فرض ضرائب تصاعدية، أو ضريبة على الثروة، أو ضريبة على الأرباح الرأسمالية، وفى حالة فرض هذه الضرائب، فقد جرى إما إلغاؤها أو تجميدها. فى ذات الوقت فقد تم التوسع فى الضرائب على الاستهلاك، مما يعنى التضحية بالعدالة الاجتماعية على هذا الصعيد أو عدم إعطائها الأولوية.
على صعيد آخر، فإن سياسة الحد الأدنى للأجور، والتى بدأت معركتها فى ساحات القضاء قبل ثورة يناير، وصدر حكم القضاء الإدارى بشأنها عام 2010، ونظر إليها عقب الثورة باعتبارها الحد الأدنى المقبول لسياسة أجور عادلة، ما زالت تتسم بالكثير من التخبط والغموض، ناهيك عن أن الحد الأدنى التى قررت حكومة الببلاوى تطبيقه ابتداء من يناير 2014، ثم تعثرت فى التطبيق الشامل له لعدم توافر السيولة اللازمة، لم يعد يفى بالحد الأدنى من متطلبات المعيشة مع ارتفاع الأسعار، وسياسات تقليص الدعم.
ثانيا: دستور يؤسس للحقوق، وممارسات سقفها الإعاشة
تجلت ذروة التجسيد لمطالب العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، فى دسترة تلك الحقوق وفقا لدستور 2014، والذى التزمت بموجبه الدولة بعدد مهم من الحقوق منها: التزام الدولة بتحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير سبل التكافل الاجتماعى، بما يضمن الحياة الكريمة لجميع المواطنين (م 8)، وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين (م 9)، الحفاظ على حقوق العمال وبناء علاقات عمل متوازنة (م 13)، تخصيص نسبة من الإنفاق الحكومى على الصحة لا تقل عن 3% من الناتج القومى الإجمالى (م18)، وتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومي على التعليم لا تقل عن 4% من الناتج القومى الإجمالى تتصاعد تدريجيا حتى تتماشى مع المعدلات العالمية (م19) ، وتخصيص 2% للإنفاق على التعليم الجامعى (م 21)، فضلا عن عدد آخر من المواد المهمة التى تحدد التزامات الدولة إزاء الفلاحين، وتنمية المناطق الريفية (م 29)، والصيادين (م30)، وذوى الإعاقة (م81).
ويتميز النص الدستورى بشموله للعديد من الفئات والقضايا التى تتصل بالعدالة الاجتماعية، وتأطير التزام الدولة بمقتضاها وفق مصطلحات قاطعة وواضحة.
ومع ذلك، فإن مؤشرات الالتزام بهذه المبادئ الدستورية غير حاسمة، فعلى سبيل المثال، فإن ميزانيات الإنفاق الحكومي على التعليم والصحة، والتى وجب الالتزام بها بعد فترة منحت للحكومة للتكيف، لم تصل إلى السقف المقرر، وجرى اعتمادها من قبل البرلمان وفقا لصيغ محاسبية تهدف إلى سد العجز.
وعلى صعيد متصل، فإن معظم البرامج الحكومية التى نشطت فى مجالات الضمان الاجتماعى والحماية الاجتماعية فى السنوات الماضية، والتى شملت تنوعا محمودا من برامج الغذاء فى المدارس، الإسكان الاجتماعى (الأسمرات- العسال- غيط العنب)، الدعم النقدى (تكافل وكرامة)، وبرامج الحماية من العوز، فضلا عن سيارات السلع الاستراتيجية، فإن معظمها يصب فى خانة برامج الإعاشة، والحد من الفقر، التى تنصح بها بعض المنظمات الدولية، أو الواردة فى بعض التجارب الدولية فى إطار برامج الحماية الاجتماعية، ولكنها لا ترقى بحال للمنظور الحقوقى الذى نادت به الثورة أو أقره الدستور. فهى من ناحية تتعامل مع الفقر أو العوز أو التفاوت الاجتماعى والاقتصادى باعتباره (معطى) تسعى الحكومات إلى التعامل مع نتائجه والتخفيف من آثارها، ومن ناحية ثانية، فهى تندرج فى إطار الإعانة وليس الحق، الإعاشة وليس الاستدامة.
ثالثا: التقشف يهدد النذر اليسير الذى تحقق
الآن وبعد ست سنوات من الثورة، فإن حصيلة القرارات، والمشروعات، والقوانين، والسياسات التى اتبعت فى إطار ما سمى بمنظومة الحماية والعدالة الاجتماعية، لا يرقى للوفاء بمطالب الثورة، بل إن صيغة الإعاشة، والتى يزعم المقال إنها حلت محل فكرة الحقوق، أصبحت متهددة فى ظل ارتفاع معدلات التضخم وتراجع مستويات الأجور الحقيقية وسياسات التقشف ورفع الدعم. وإذا كان الدفع بأن هذه النتائج عارضة أو طارئة بفعل الأزمة الاقتصادية ممكنا، فإن عددا من الاعتبارات يشير إلى أنها نتيجة للفلسفة الاقتصادية المتبعة، ومحصلة طبيعية للسياسات المطبقة، والتى لم تشهد تغييرا جذريا فى اتجاه تعزيز أهداف ثورة يناير الاقتصادية والاجتماعية.