قضايا وتحليلات - قضايا وتفاعلات دولية 2017-1-22
د. أحمد قنديل

رئيس وحدة العلاقات الدولية ورئيس برنامج دراسات الطاقة - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيحية

مع تولي الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب مقاليد منصبه في 20 يناير 2017، توجد درجة عالية من الضبابية والغموض تحيط بمستقبل العلاقات الأمريكية الصينية في الأيام المقبلة. حيث تسببت المواقف المعلنة بين ترامب والصينيين خلال الشهور الأخيرة في إحداث شكوك كبيرة حول قدرة الجانبين على إدارة هذه العلاقات، التي تجمع بين اكبر اقتصادين في العالم، بشكل بناء وتعاوني خلال الفترة القادمة، الأمر الذي ينذر بإمكانية نشوب حرب باردة جديدة بين القوة العظمي الوحيدة التي سيطرت على مقاليد الشؤون العالمية منذ انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي السابق، وبين العملاق الصيني الذي شهدت قوته تناميا عسكريا واقتصاديا وسياسيا ملحوظا في العقد الماضي.

شهدت العلاقات بين بكين وواشنطن تحسنا ملموسا وزيادة متواصلة في العمق والاتساع خلال فترة حكم أوباما علي مدى السنوات الثمان الماضية، حيث يرى العديد من الخبراء ان الجانبين لعبا دورا اساسيا فى تعزيز النمو الاقتصادي العالمي، وفي التوصل إلى اتفاق ايجابي فى القضية النووية الايرانية عن طريق الجهود الدبلوماسية متعددة الاطراف، والاكثر اهمية، في تعزيز استجابة المجتمع الدولى للتغير المناخي العالمي. كما حققت الدولتان أيضا تقدما فى اقامة معاهدة استثمار ثنائية، وتعزيز الثقة المتبادلة بين الجيشين، وتحقيق بعض الاختراقات فى التعاون بمجال الامن الالكتروني.

ومع ذلك، لم يكن طريق العلاقات بين واشنطن وبكين مفروشا بالورود طوال فترة رئاسة أوباما، خاصة إذا ما تذكرنا اشتعال القضايا الشائكة بين الجانبين من وقت إلى آخر، فيما يتعلق بتايوان والتبت وحقوق الانسان وبحر الصين الجنوبي، حيث كثيرا ما أدت هذه القضايا إلى حدوث توتر شديد فى العلاقات بين الجانبين. ومن جهة أخرى، كان كثيرا ما يتم تفسير استراتيجية الرئيس أوباما المعروفة باسم "الانعطافة نحو آسيا"، والقائمة على نقل جزء كبير من القدرات العسكرية الأمريكية إلى شرق وجنوب شرق آسيا، بأنها تستهدف "احتواء" الصين.

ورغم هذا التذبذب بين التعاون والتوتر في العلاقات الأمريكية الصينية خلال رئاسة اوباما، جاء الرئيس المنتخب ترامب بمواقف وتغريدات غير إيجابية، على طول الخط، تجاه الصين، سواء في حملته الانتخابية أو بعد فوزه في الانتخابات، حتى أن بعض المراقبين يؤكد على أن ترامب لم يصدر اي تصريح إيجابي تجاه بكين قبل توليه السلطة.

فخلال حملته الانتخابية، اعتبر ترامب الصين تهديدا رئيسا لبلاده يعادل تهديد الإرهاب الدولي، ممثلا في"داعش". وكان أحد أسباب انتقاده للصين، بحسب قوله، هو أنها تتعمد تخفيض قيمة عملتها الوطنية، لكي يتفوق المنتجون الصينيون على نظرائهم الأمريكيين. ولذلك، دعا ترامب إلى اعتبار الصين "دولة تتلاعب بالعملة"، مضيفا "بيننا حرب تجارية، ونحن نخسرها". ووعد ترامب بزيادة الضرائب المفروضة على البضائع الصينية بنسبة 45 في المائة، لحماية السلع الأمريكية في مواجهة مثيلتها الصينية.

وقبل يوم من الانتخابات، نشر ألكسندر جري وبيتر نافارو، مستشارا ترامب، في موقع "فورين بوليسي" برنامجه الشامل الخاص بآسيا. وهذا البرنامج مبني على منطق الجمهوريين التقليدي في التعامل مع بكين، ويتضمن إشارة إلى أن الصين خلال السنوات الأخيرة عززت وضعها في المجالين العسكري والاقتصادي بسبب فشل إدارة البيت الأبيض الحالية في زيادة النفقات على الأسطول، ما سمح للصين خلال حكم أوباما بتوسيع جزيرة في بحر الصين الجنوبي بمقدار 12 كيلومترا مربعا، وفرض منطقة حظر جوي في بحر الصين الشرقي وغير ذلك. وبناء على ذلك، أكد برنامج ترامب تجاه آسيا على مبدأ أساسي، وهو "السلام عبر التفوق والقوة"، الذي كان سائدا في عهد رونالد ريجان. وهذا يعني ان إدارة ترامب، في مواجهة الصين، سوف تميل إلى زيادة النفقات العسكرية وزيادة عدد السفن الحربية من 274 إلى 350 سفينة في بحر الصين، ودعوة حلفاء الولايات المتحدة، وفي مقدمتهم اليابان وكوريا الجنوبية، إلى زيادة مساهمتهما في هذه النفقات.

 وبعد فوزه في الانتخابات، أنتقد ترامب، مرة أخرى، عبر تويتر، السياستين النقدية والعسكرية للصين. حيث اتهم بكين بأنها تخفض سعر عملتها لمنافسة الشركات الأمريكية بشكل أفضل، وبأنها "تبني مجمعا عسكريا ضخما في بحر الصين الجنوبي"، كما اتهم الصين أيضا بسرقة غواصة أمريكية غير مأهولة كانت تعمل ضمن عمليات المراقبة التي تقوم بها واشنطن في بحر الصين الجنوبي.

ومن ناحية أخرى، اختار ترامب فريقا تجاريا يكن العداء لبكين بهدف تغيير شكل العلاقة بين أكبر اقتصادين في العالم. إذ عين بيتر نافارو، استاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا والمعروف بعدائه للصين، ليكون رئيسا لمجلس التجارة الوطني المشكل حديثا في البيت الأبيض، وعين أيضا روبرت لايتهايزر، المعروف بأنه من أشد المدافعين عن حماية المنتجات المحلية أو ما يعرف بالسياسة الحمائية، في منصب نائب الممثل التجاري الأمريكي ليكون مسئولا عن المفاوضات التجارية الدولية. ويبدو من هذه التعيينات، حسب كثير من المراقبين، أن الرئيس ترامب سوف يسعى إلى الحصول على أكبر قدر ممكن من التنازلات التجارية الممكنة من الصينيين. وفي نفس الوقت، يبدو الرئيس المنتخب عازما أيضا على الدخول في "حرب تجارية" مع بكين لوقف التمدد الصيني في العالم، والذي يأتي على حساب المصالح الأمريكية، من وجهة نظر الرئيس ترامب. فالصين تعمل منذ فترة على توسيع استثماراتها وفتح الأسواق أمام منتجاتها في أفريقيا وفي جمهوريات روسيا الاتحادية والدول العربية والأوروبية، من خلال مبادرة "الحزام والطريق" الصينية. كما عملت بكين أيضا، خلال العامين الماضيين، على تأسيس مؤسسات مالية موازية لصندوق النقد والبنك الدولي، كبنك التنمية الجديد ومقره شنغهاي برأس مال يقدر بنحو 100 مليار دولار والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية ومقره بكين برأس مال أولي قيمته 50 مليار دولار. وهذه التحركات من جانب بكين تثير كثير من الهواجس لدى دوائر صنع القرار الأمريكية، لأنها تعزز من المكانة العالمية للاقتصاد الصيني في مواجهة الاقتصاد الأمريكي، خاصة وان بكين اصبحت تمتلك سندات في الخزانة الأمريكية بقيمة تريليون دولار تقريبا وهو ما قد يؤثر بشدة على سعر صرف الدولار مستقبلا، إذا ما قرر الصينيون بيع هذه السندات.

ومن ناحية ثانية، وفي بداية ديسمبر الماضي، اتخذت الهواجس المتبادلة والشكوك العميقة بين قادة الصين وترامب منحى جديدا. حيث بدا أن الرئيس المنتخب قد مس "عصبا حساسا" لدى القيادة الصينية، بعدما تم الإعلان في وسائل الإعلام الأمريكية بكثافة عن اتصال هاتفي بينه وبين رئيسة تايوان تساي إينج-وين لتهنئة ترامب بفوزه في الانتخابات، وهو ما أثار استياء وغضب شديدين في بكين، التي تعتبر تايوان جزءا من أراضيها و"خط أحمر" مقدس لأنه يتعلق بالسيادة. وفي ضوء ذلك، لم يكن غريبا أن يؤكد الإعلام الرسمي الصيني إن "قلة خبرة" ترامب دفعته لقبول الاتصال الهاتفي من رئيسة تايوان، محذرا من أن أي خرق لسياسة "الصين الواحدة" سيؤدي إلى "تدمير" العلاقات الأمريكية الصينية.

ومن جهة أخرى، حذرت الصحف الصينية مؤخرا وزير الخارجية الأمريكي المعين ريكس تيلرسون من أن تهديداته بالتصدي للصين في بحر الصين الجنوبي ومنعها من الوصول إلى الجزر الاصطناعية التي تبنيها في هذا البحر تعتبر تصعيداً ينذر بالحرب. وأكدت صحيفة "تشاينا دايلي" الحكومية من أن تيلرسون إذا نفذ تهديداته "فإن ذلك سيمهد الطريق أمام مواجهة مدمرة بين الصين والولايات المتحدة". ومن ناحية أخرى، دعت صحيفة "جلوبال تايمز" القومية إلى تعزيز ترسانة بكين النووية بعد أن هدد الرئيس المنتخب دونالد ترامب بتغيير السياسة الأميركية المعتمدة منذ عقود إزاء تايوان وتلميحه إلى إمكان الاعتراف بالجزيرة كدولة ذات سيادة. وتابعت الصحيفة التي تعكس آراء بعض صقور «الحزب الشيوعي» أن الصين ستغض النظر عن هذه التصريحات في الوقت الحالي "لكن إذا كان فريق ترامب يخطط للعلاقات المستقبلية بين الولايات المتحدة والصين على هذا النسق فعلى الجانبين الاستعداد لمواجهة عسكرية".

على أية حال، من المتوقع أن يتوقف مستقبل العلاقات الصينية الأمريكية في، في ظل رئاسة ترامب، على أمرين رئيسيين هما:

أولا، السياسة "الواقعية" للرئيس المنتخب تجاه الصين بعد أن يتسلم منصبه فعليا. فعلى سبيل المثال، إذا رفع الرئيس الجديد الرسوم الجمركية على البضائع الصينية، فسوف يسبب ذلك توترا كبيرا بين الدولتين. حيث أشارت صحيفة "جلوبال تايمز" في افتتاحيتها إلى أنه إذا قرر ترامب فرض رسوم إضافية على البضائع الصينية، فإن بكين ردا على ذلك سوف تحول طلباتها على الطائرات من بوينج إلى إيرباص، وتقلص جدا مبيعات "آي فون" والسيارات الأمريكية، وتتوقف عن استيراد فول الصويا والذرة تماما.ومن ناحية أخرى، إذا تخلت إدارة الرئيس ترامب عن سياسة "صين واحدة"، لصالح دعم مطالب تايوان بالاستقلال التام عن الصين، فإن ذلك سوف يكون بداية لمرحلة من الصدام الشديد بين الدولتين. فهذا الأمر يبدو "خط أحمر" من جانب الصينيين، وأي مساس به من جانب القيادة الأمريكية الجديدة سيكون بمثابة "إعلان حرب".

ثانيا، استمرار استعراض العضلات من جانب بكين في بحر الصين الجنوبي، وهو ما ظهر مؤخرا في قيام القوات الصينية بسلسلة من المناورات العسكرية التي استخدمت حاملة الطائرات والمقاتلات المتطورة. حيث يؤكد كثير من الخبراء الأمنيين على أن البحرية الصينية في مناوراتها الأخيرة تبدو وأنها ستنتقل من نموذج "الدفاع البحري" إلى نموذج "حماية أعالي البحار" لمنع أية تدخلات عسكرية أمريكية في حالات الطوارئ المتوقعة نتيجة تنازع السيادة بين الصين وجيرانها في بحر الصين الجنوبي. فإذا ما حدث ذلك التحول في العقيدة العسكرية للبحرية الصينية بالفعل فإن العلاقات بين بكين وواشنطن سوف تشهد درجة عالية من التوتر وعدم الاستقرار، خاصة وأن الصين تتنازع السيادة في هذا البحر مع خمس دول أخرى، من بينها الفلبين وفيتنام، اللتين طلبتا رسميا من الولايات المتحدة مساعدتها في النزاع المتفاقم حول السيادة مع بكين.

ومع ذلك، يبدو احتمال وقوع نزاع مسلح واسع النطاق بين الصين والولايات المتحدة في ظل قيادة الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب ضئيل للغاية. فالصين والولايات المتحدة دولتان نوويتان، وليس من مصلحتهما تأجيج الصراع العسكري بينهما بشكل مباشر. وعلى الأرجح سيظل النزاع بينهما تجاريا واقتصاديا، كما كان عليه الوضع بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة بين عامي 1960 - 1970. وهو ما يعني أن العالم قد اصبح على شفا حرب باردة جديدة بين أكبر اقتصادين في العالم.