مقدمة
كما جرت العادة، سادت العالم بأكمله حالة من الترقب انتظاراً لإعلان نتيجة الفائز في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ولكن بالرغم من كون هذه الحالة تقليدية ومتكررة كل أربعة أعوام، إلا أن انتخابات عام ٢٠١٦ كانت أكثر حساسية نظراً لحجم التطورات التي طرأت علي السياسة الأمريكية وأدت لحصول كل من هيلاري كلينتون ودونالد ترامب علي دعم أحزابهم للترشح، وهي أيضاً ذات التغييرات والتطورات التي أدت في النهاية لإعلان فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية، وبالتالي لمجموعة من التبعات داخلياً وخارجياً. ولعل النقطة الأهم في هذا السياق والتي يجب إدراكها مبكراً هي ما يمثله نجاح دونالد ترامب من سيطرة لتيار سياسي متشدد تختلف رؤاه السياسية داخلياً وخارجياً عن أسلافه، بمعنى أن القضية الرئيسية ليست في فوز دونالد ترامب، بالرغم من كل الجدل الذي يحيط بشخصه وبتصريحاته وبكونه بعيداً عن الشكل التقليدي لرئيس الولايات المتحدة، ولكن القضية في صعود تيار سياسي وتراجع آخر، وبالتالي، يستتبع ذلك بالضرورة عدد من التحولات في السياسات والمواقف، تحولات نابعة من تيار سياسي وإدارة سياسية بالمعني المؤسسي وليس فقط من ترامب كرئيس، كما أنه سواء ترامب أو التيار الذي يدعمه قاموا ببناء رؤيتهم إزاء السياسية الأمريكية داخلياً وخارجياً علي أرضية رفضهم للفشل المتكرر في سياسات أوباما، وهو ما يعني ان التغيرات آتية لا محالة. ومن ثم، بات من الضروري قراءة المعطيات المختلفة بصورة استشرافية حتي نتمكن من رسم ملامح رؤية دونالد ترامب وإدارته السياسية لملفات الصراع والأزمات السياسية في منطقة الشرق الأوسط.
ومما لا شك فيه تُعد منطقة الشرق الأوسط والمصالح الأمريكية بها احد أولويات السياسية الخارجية للولايات المتحدة خاصة في الوقت الحالي، فبخلاف كل المصالح الإستراتيجية الثابتة للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، كأمن إسرائيل أو النفط أو التحالفات السياسية والعسكرية، يمر الشرق الأوسط في المرحلة الحالية بعدد من الصراعات في مناطق مختلفة، وهي صراعات باتت تهدد المصالح الدولية في المنطقة ككل وليس فقط المصالح الأمريكية، وبالتالي أصبح الموقف الأمريكي إزاء هذه الصراعات بحاجة لتحديث مستمر وفقاً لتغيرات الرؤية لدى الإدارة الأمريكية من ناحية والتطورات الميدانية للصراعات علي أرض الواقع من ناحية أخرى. ولكن تظل الأزمة الحقيقية في محاولة استشراف الموقف الأمريكي من مناطق الصراع بالشرق الأوسط في ظل إدارة ترامب هي المصادر التي من الممكن الاعتماد عليها للوصول إلى تقييم موضوعي واستنتاجات تُبنى على اُسس منطقية، فالاعتماد علي تصريحات دونالد ترامب اثناء الحملة الانتخابية غير كافي، فالتصريحات من ناحية متناقضة مع بعضها البعض في الكثير من الأحيان، ومن ناحية أخرى من غير الممكن بناء استنتاجات علي تصريحات أطلقها سياسي في سياق حملة انتخابية، حيث أنها لا تعني بالضرورة أية التزامات سياسية ولن يكون تحويلها لسياسة علي أرض الواقع متاح في كل الأحيان. كما أن الاعتماد علي رؤية الحزب الجمهوري للسياسة الخارجية أو لقضايا الشرق الأوسط غير كافي أيضاً، حيث أن دونالد ترامب لا يمتلك الخبرة الكافية في الحزب الجمهوري التي تجعل من رؤى الحزب توجهاً سياسياً له، وهو في النهاية حديث العهد بالحزب الجمهوري كمؤسسة ذات رؤى استراتيجية. وبالتالي سوف نلجأ في هذه الدراسة لعدد من المصادر، كالتصريحات، وتوجهات الحزب، واختيارات الإدارة السياسية، والتواصل مع الفاعلون الدوليون، حيث أن الدمج بين هذه المصادر المتنوعة من شأنه أن يمكننا من رسم رؤية استشرافية لتوجهات دونالد ترامب وإدارته إزاء الأزمات الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط خلال الفترة القادمة.
ولعل نقطة الانطلاق في استشراف تعامل دونالد ترامب مع أزمات الشرق الأوسط هي موقف وعلاقة ترامب بالفاعليين الرئيسيين في المنطقة، وعلي رأسهم مصر، والسعودية، وإيران، وتركيا، وإسرائيل. فمما لا شك فيه أن دونالد ترامب يواجه تحديان رئيسيان فيما يتعلق بالشرق الأوسط، الأول هو التعامل مع الأزمات الإقليمية الكبرى، والثاني هو إدارة العلاقات مع القوى الإقليمية المركزية. موقف الولايات المتحدة تحت قيادة ترامب من ملفات الصراع في الشرق الأوسط، والدور الذي من المتوقع أو من المفترض أن تلعبه الولايات المتحدة في حالات الصراع المختلفة في المنطقة، سوف يتحدد بشكل كبير كنتيجة لمجموعة من التفاعلات بين الولايات المتحدة والقوى الإقليمية بالمنطقة. والجدير بالذكر أن رئاسة دونالد ترامب للولايات المتحدة جاءت في توقيت شديد الحساسية بالنسبة للشرق الأوسط، سواء فيما يتعلق بعلاقة دول الشرق الأوسط بالولايات المتحدة أو فيما يتعلق بإعادة بناء بعض التحالفات الإقليمية في المنطقة كنتيجة للتطورات السياسية التي شهدها العالم العربي علي وجه الخصوص خلال الخمسة أعوام الأخيرة. ولذا، من الضروري التعرف علي موقف ترامب من هذه القوى الإقليمية المختلفة، لأن شكل ونمط التدخل والتفاعل الأمريكي مع المنطقة سوف تتم صياغته من خلال علاقة الولايات المتحدة بالفاعلين الرئيسيين في الشرق الأوسط.
جمهورية مصر العربية
لا يوجد شك أن المرحلة المقبلة سوف تشهد تقارب مصري أمريكي من خلال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وسوف يتجاوز هذا التقارب حدود العلاقة المباشرة، سواء السياسية أو التجارية أو العسكرية، بين مصر والولايات المتحدة ليصل إلى نوعاً من التنسيق في الرؤي الإقليمية لمناطق الصراع في الشرق الأوسط. وهذا التقارب سوف يحمل في طياته تحولا جوهريا في السياسة الأمريكية الحاكمة للعلاقة مع مصر، خاصة في السنوات العشر الأخيرة حين باتت قضية التحول الديمقراطي وقضايا الحريات وحقوق الانسان أحد أهم أبعاد العلاقة بين مصر والولايات المتحدة، وضغطت إدارة أوباما ومن قبلها إدارة بوش علي النظام السياسي في مصر لإجراء عدد من الإصلاحات الديمقراطية، وقد وصلت هذه الضغوط لذروتها بعد ثورة ٢٥ يناير في فترة تولي هيلاري كلينتون حقيبة الخارجية. تدل المؤشرات المختلفة أن هذا البعد لن يكون بذات الأهمية التي أعطتها له إدارة الرئيس أوباما، وسوف تتفق رؤى كل من النظام السياسي المصري والولايات المتحدة حول كون الأمن ومكافحة الإرهاب هما الأساس المحوري للعلاقة وتفوق أولويتهم أية قضايا أو أبعاد أخرى، وهي السياسة التي يحاول نظام عبد الفتاح السيسي اتباعها في إدارة علاقاته مع الغرب بشكل عام، سواء في أوروبا أو في أمريكا. كما أن المؤشرات تقول أن التوافق المصري الأمريكي في المرحلة المقبلة سيتخطى مرحلة التوافق السياسي ليصل لمرحلة التوافق العملي، بمعنى أن تتحول مصر لأحد آليات ترجمة وتنفيذ الرؤية الأمريكية في المنطقة نظراً للتقارب الشديد في وجهات النظر والمصالح. ولعل ما تم الكشف عنه في الأيام الماضية حول اتصال ترامب بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لإقناعه بسحب مشروع قرار يدين الاستيطان الإسرائيلي في مجلس الأمن، واستجابة مصر لهذا الطلب أحد أهم الدلائل علي حجم التوافق المستقبلي بين كل من مصر والولايات المتحدة.
المملكة العربية السعودية
قام دونالد ترامب بالإدلاء بعدد من التصريحات العدائية حول السعودية أثناء حملته الانتخابية، وتمحورت الغالبية العظمى من هذه التصريحات حول فكرة الاستفادة المالية القصوى من موارد السعودية، وربط التحالف السياسي والعسكري بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية بحجم المكاسب الاقتصادية والمادية المباشرة العائدة علي الولايات المتحدة. وبالرغم من أنه من غير الممكن الاعتماد علي هذه التصريحات كمؤشر علي طبيعة العلاقة السعودية الأمريكية في ولاية ترامب، إلا أنه مما لا شك فيه أن تصريحات دونالد ترامب خلقت إطار من التوتر حول مستقبل العلاقات الثنائية بين البلدين، وهو ما لم يكن موجوداً في العلاقة من قبل، ولكن تصريحات ترامب، وبالرغم من كونها لم تتحول إلى سياسات بعد، أضفت بُعداً من عدم اليقين في مستقبل العلاقة بين المملكة والولايات المتحدة. بالإضافة لهذه التصريحات العدائية، تتزايد مع الوقت احتمالات الصدام السعودي الأمريكي فيما يتعلق بالملف السوري، فالسعودية موقفها في سوريا واضح في رفضها لاستمرار بشار الأسد في منصبه، وعلي الجانب الآخر، رؤية ترامب للملف السوري تختلف عن الرؤية السعويدية كثيراً. ولكن بالرغم من كون الصدام محتمل، إلا أن حجم المصالح الاستراتيجية بين كل من السعودية والولايات المتحدة أكبر من أن يتمكن ترامب من تجاهله، وبالتالي سوف تظل مجالات التعاون المشترك في مجالات الأمن والتبادل التجاري وصفقات التسليح تلعب دورها كأسس داعمة لاستقرار العلاقة الثنائية بين البلدين. ومما لا شك فيه، سيكون موقف ترامب من إيران أحد أهم العوامل التي سوف تؤثر سلباً أو ايجاباً علي العلاقة مع المملكة، خاصة وأن أغلب تصريحات ترامب حول إيران كانت هي الأخرى عدائية بشكل قد يصب في مصلحة المملكة في النهاية.
تركيا
تشير أغلب المعطيات لاحتمالات توتر في العلاقات بين كل من الولايات المتحدة وتركيا في فترة رئاسة ترامب. أدلى ترامب بعدد من التصريحات العدائية حول تركيا، واتهم تركيا، ولو بشكل غير مباشر، بأنها تدعم تنظيم داعش، وهو ما يشير لاحتمالات تصعيد في الفترة المقبلة بين الدولتين نظراً لكون مواجهة والقضاء علي تنظيم داعش أحد ركائز رؤية دونالد ترامب للشرق الأوسط وأحد أهدافة المحورية في المنطقة. كما أن التوتر في العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا قد يأتي علي أرضية انتهاج ترامب للموقف الذي عبر عنه خلال حملته الانتخابية أكثر من مرة عن وقف الدعم العسكري لحلف الناتو، وهو ما يُعد بمثابة أحد المؤشرات علي تبني دونالد ترامب لسياسة خارجية أكثر انعزالية من الإدارات السياسية التي سبقته، ففي حال توترت العلاقة بين الولايات المتحدة وحلف الناتو، أو تم تخفيض حجم الدعم العسكري الذي تقدمه الولايات المتحدة للحلف، سوف ينعكس ذلك دون شك علي العلاقات الثنائية بين تركيا (والتي تُعد جزئاً لا يتجزأ من حلف الناتو) والولايات المتحدة. وبالإضافة لما سبق، يظل الملف السوري أحد النقاط التي من المحتمل أن تؤدي للمزيد من التوتر في العلاقات الأمريكية-التركية، خاصة في ظل رفض تركيا لبقاء بشار الأسد وتخوفها من تبعات ذلك علي أمنها القومي وعلي عدد اللاجئين بها وعلي تصاعد نفوذ التيار الراديكالي، وهو ما يجعل من تركيا كالسعودية احد القوى الإقليمية التي من المتوقع أن تواجه توترات سياسية مع الولايات المتحدة حول الشأن السوري.
تظل في النهاية مواقف دونالد ترامب من كل من إسرائيل وإيران أحد المحددات للرؤية الأمريكية في الشرق الأوسط خلال الفترة القادمة. وفيما يتعلق بإسرائيل، من غير المتوقع أن يتمكن دونالد ترامب من تغيير الأسس الثابتة للعلاقات الإسرائيلية-الأمريكية، كما أن الرؤى السياسية والمصالح الآنية لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل تتفق مع بعضها البعض، ولعل ما حدث مؤخراً من لجوء إسرائيل للتواصل مع دونالد ترامب (في سابقة لم تحدث من قبل أن تتواصل دولة مع الرئيس الأمريكي المنتخب الذي لم يتسلم السلطة بشكل رسمي بعد) لإقناع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بسحب مشروع القرار المصري من مجلس الأمن خير دليل علي عمق العلاقات الإسرائيلية-الأمريكية وعدم تأثرها بالتغير في الإدارات السياسية. وعي الجانب الآخر، تظل العلاقات الأمريكية-الإيرانية مرهونة في الأساس بالاتفاق النووي، والذي أشار دونالد ترامب في عدد من تصريحاته باحتمالية مراجعته، ولكن الدلائل تشير لاستمرار الاتفاق في شكله الحالي مع زيادة آليات الرقابة الأمريكية علي نشاطات إيران النووية، وفي نفس الوقت زيادة حجم المصالح الاقتصادية الأمريكية في إيران.
رؤية دونالد ترامب لملفات الصراع في الشرق الأوسط
مثلما كانت العلاقة مع القوى الإقليمية الرئيسية أحد محددات الشكل المستقبلي للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط في ظل رئاسة ترامب، فمما لا شك فيه أن موقف دونالد ترامب من الأزمات والصراعات السياسية الرئيسية في الشرق الأوسط هو الآخر ضمن هذه المحددات. وبالتالي، من الضروري أن نتعرض لتصريحات ومواقف ترامب من ملفات محورية في الشرق الأوسط في اللحظة الراهنة، خاصة الحرب في سوريا، والأوضاع في ليبيا، ومحاربة تنظيم داعش، والملف النووي الإيراني.
الملف السوري
تعد الأزمة السورية في الوقت الحالي علي رأس أولويات مناطق الصراع في الشرق الأوسط، ليس فقط لاحتدام الصدام العسكري بين بشار الأسد وقوى المعارضة، ولكن نظراً لحجم التفاعلات الإقليمية والدولية المرتبطة بالتطورات السياسية والعسكرية في الملف السوري. وقد أبدى ترامب أكثر من مرة قابلية تجاه الحد من حجم الدخل الأمريكي في الشرق الأوسط، وهو توجه اتسمت به إدارة أوباما حين عملت علي التقليل من حجم القوات الأمريكية الموجودة علي الأرض في الشرق الأوسط، ولكن مجمل تصريحات دونالد ترامب حول الشرق الأوسط تشير لإعادة التفكير في حجم الفائدة العائدة علي الولايات المتحدة من فكرة الريادة في الشرق الأوسط، وهو ما قد يتطور في المستقبل لنوعاً من الانعزالية أو التدخل عن بعد فيما يتعلق بعلاقة الولايات المتحدة بالشرق الأوسط. وبالتالي فمن المتوقع أن تتوقف الولايات المتحدة في ظل ولاية ترامب عن تقديم الدعم للمعارضة السورية، سواء كان هذا الدعم عسكرياً أو سياسياً، كما أن أغلب تصريحات ترامب حملت في طياتها مرونة واضحة نحو استمرار بشار الأسد في موقعه، ودعم للتدخل العسكري الروسي في الأزمة. وبناء عليه، من المتوقع في الفترة المقبلة أن تنسحب الولايات المتحدة من التواجد العسكري (سواء في صورة دعم عسكري لفصيل أو تدخل مباشر) في سوريا، ومن المحتمل أن يأتي هذا الانسحاب بالتزامن مع نوافق روسي-أمريكي حول مسودة قرار أو خارطة طريق للتسوية السياسية في سوريا بعد تعديل موازين القوى العسكرية علي الأرض كنتاج للتدخل الروسي.
الملف الليبي
مثلما كان الحال مع عدد غير قليل من تصريحات دونالد ترامب، أتت تصريحاته حول ليبيا متناقضة مع بعضها البعض هي الأخرى، خاصة فيما يتعلق بتقييم التدخل العسكري الذي شاركت فيه الولايات المتحدة في ٢٠١١ تحت مظلة حلف الناتو في سياق عملية "فجر أوديسا"، والتي قامت بفرض حظر جوي علي ليبيا وضرب الدفاعات الجوية وسلاح الطيران الخاص بمعمر القذافي في إطار محاولات إسقاط نظامه وحماية الشعب الليبي من العنف المفرط الذي أبدى القذافي كل استعداد لاستخدامه ضد الثوار. ففي أكثر من مرة اعترض ترامب علي فكرة التدخل العسكري في ليبيا، ثم صرح مرة أخرى بأن القذلفي كان قائداً رشيداً، ثم عاد ليؤكد أنه لو كان صاحب القرار لتدخل عسكريا في ليبيا بأسلوب مختلف عن ذلك الذي اتبعه أوباما، ولكن مجمل المؤشرات توضح أن ترامب يرى ليبيا كأحد أهم مصادر النفط في الشرق الأوسط وبالتالي يجب حمايتها من سطوة تنظيم داعش، كما أن موقف ترامب المتشدد من المهاجرين غير الشرعيين واللاجئين موقف شديد العدائية، وهو ما يجعل من الولايات المتحدة مهتمة بوضع المزيد من القيود علي السواحل الليبية لمراقبة حركة الهجرة غير الشرعية. كما أنه من غير الممكن استشراف موقف ترامب من ليبيا دون ربطه بحجم التوافق المصري الأمريكي حول القضية، ونظرا لوضوح وجود تنسيق بين دونالد ترامب والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، من المتوقع أن تتبنى الولايات المتحدة الرؤية المصرية-الإماراتية حول ليبيا، وهي الرؤية الداعمة لشرعية مجلس نواب طبرق كالجهة التشريعية الرسمية وللجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر كالذراع العسكري الرسمي للدولة، ومن المتوقع أن تكون ليبيا أحد نماذج استخدام مصر كأحد آليات تطبيق الرؤية الأمريكية في المنطقة، وهي الرؤية القائمة خلال رئاسة ترامب علي الانسحاب المباشر والعمل من خلال الحلفاء الإقليميين.
تنظيم داعش، والملف النووي الإيراني، وسائر ملفات الصراع
يظل تصاعد نفوذ التيارات الراديكالية في الشرق الأوسط، وعلي رأسهم تنظيم داعش، أحد القضايا ذات الأولوية في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، فتصريحات ترامب خلال حملته الانتخابية أكدت أكثر من مرة علي أن هدفه الرئيسي هو اقتلاع التنظيم من جذوره، هذا بالإضافة لأن اختيارات دونالد ترامب لإدارته السياسية جاءت بالعديد من الوجوه التي عُرف عنها اتخاذ مواقف محافظة ومتزمتة neo-conservative hardliner positionsفيما يخص قضايا الأمن القومي بالشرق الأوسط، وبالتالي من المتوقع أن يكون ملف الحرب علي التنظيمات الراديكالية بمثابة بوابة لإعادة بناء التحالفات الإقليمية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط خلال السنوات الأربع القادمة، وهو ما يعني أن العدد من القضايا الثنائية بين الولايات المتحدة ودول المنطقة سوف تتحدد بشكل كبير علي حجم التأييد والدعم المقدم من قبل هذه الدول في سياق الحرب الأمريكية علي تنظيم داعش. وبالطبع يشير التقارب الروسي-الأمريكي في وجهات نظر بين بوتين وترامب إلى احتمالية إعادة تشكيل تحالف عسكري دولي-إقليمي بقيادة الولايات المتحدة وروسيا لمحاربة تنظيم داعش.
يأتي بعد ذلك الصعود المستمر لإيران وأثر ذلك علي التفاعلات الإقليمية في الشرق الأوسط وموقف دونالد ترامب من الاتفاق، فقد صرح ترامب أكثر من مرة أن الاتفاق "كارثي"، وقال أنه من الممكن أن يحاول تعديل بعض بنوده، ولكن الأكثر واقعية هو وجود حالة من عدم اليقين وغياب الرؤية فيما يتعلق بإيران، فحجم الاستثمارات والمصالح الاقتصادية الأمريكية والأوروبية في إيران كبير، وترامب كرجل ينتمي لمجال الأعمال أكثر من مجال السياسة، من غير المتوقع أن يتم المساس بهذه المصالح، ولكن يأتي التخوف السعودي من زيادة التقارب الأمريكي-الإيراني كأحد عوائق تطورات العلاقة الثنائية، إلا أن المرجح هو بقاء الاتفاق السياسي علي وضعه الحالي مع محاولات أمريكية لزيادة الرقابة المباشرة علي أنشطة إيران النووية.
تبقى في النهاية عدد من ملفات الصراع في الشرق الأوسط التي لم تنال نفس درجة الاهتمام من قبل دونالد ترامب، وعلي رأس هذه الملفات القضية الفلسطينية والأزمة اليمنية. ومما لا شك فيه لم يقم ترامب بالإدلاء بأية تصريحات تشير لاحتمالات استعداء إسرائيل أو الدفاع عن القضية الفلسطينية، بل مقارنة بالانتخابات الرئاسية الأمريكية السابقة، كانت انتخابات ٢٠١٦ من أقل المرات التي تحدث فيها المرشحون عن القضية الفلسطينية. ولعل تحرك ترامب لإقناع عبد الفتاح السيسي بسحب القرار المصري داخل مجلس الأمن دليل قوي أن ترامب لن يحاول العمل علي أية اتفاقات دولية من شأنها دعم حل الدولتين. وعلي نفس النهج جاءت تصريحات ترامب حول الأزمة في اليمن لتشير أن الولايات المتحدة لا تنتوي لعب دور أكثر فاعلية في اليمن، باستثناء احتمالية قيادة جولة جديدة من التسوية السياسة وفقاً للتقارب الأمريكي-السعودي حول تطورات الوضع في الأزمة اليمنية.
الخلاصة
تُشير مجمل تصريحات ترامب حول السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط لاحتمالات تخلي ترامب عن فكرة "السيادة" primacyفي الشرق الأوسط، وهو ليس بالضرورة ميل للانعزالية، ولكنه توجه النحو الحد من التواجد الأمريكي المباشر والاعتماد علي التحالفات، وهو ما يحاول ترامب اثبات أنه الأكثر فائدة للمصالح الأمريكية بالمنطقة. يبقى التخوف الأكبر هو لجوء ترامب لتطبيق مشروعات اليوم الأول first day projectsفي السياسة الخارجية حيال المنطقة، بمعنى أن يقوم ترامب بالإقدام علي خطوة دون دراسة كافية لمجرد البدء في مشروعه الخاص بالسياسة الخارجية، خاصة وأن أحد أركان رئاسة ترامب سوف تكون محاولة إصلاح ما أفسدته إدارة أوباما، والسياسة الخارجية أحد المجالات التي يرى ترامب أنه تم إفسادها. ولكن يظل السؤال الأهم والأكثر محورية هو مدى استطاعة ترامب تحويل كل ما جاء علي لسانه من تصريحات إلي سياسة متسقة ومترابطة، وهو ما يبدو حتي الآن بعيداً عن التحقق.