قبل رحيله الرسمي عن البيت الأبيض بأيام ، عمد الرئيس الأمريكي بارك اوباما لاتخاذ قرارين أحدثا قلقا في اوساط فريق الرئيس المنتخب دونالد ترامب ، لما سيسببه القرارين من تداعيات في ملفين علي جانب كبير من الأهمية والحساسية وهما ملف العلاقات الإسرائيلية - الامريكية ، وملف العلاقات الروسية - الامريكية.
وكما حذرت صحيفة هارتس الإسرائيلية رئيس الحكومة بنيامين ناتانياهو من التمادي في توجيه النقد للموقف الامريكي بالامتناع عن التصويت علي قرار ادانة الاستيطان في الاراضي الفلسطينية خوفا من ان يؤدي ذلك الي إصدار الرئيس الامريكي المنتهية ولايته لقرارات اكثر عنفا وأشد تأثيرا علي مصالح اسرائيل ، فأن روسيا بدورها لم ترد إلقاء مزيد من الحطب في النار مفضلة ان ترد علي قرار اوباما بفرض مزيد من العقوبات ضدها بالتقليل من أهميته، والاشارة الي ان سياسة العقوبات اضافت قوة لروسيا اكثر مما اضرت بها.
دوافع الرئيس اوباما لاتخاذ القرارين السابقين ظلت محل جدل بين من نظروا اليها بأعتبارها انتقام شخصي من جانب اوباما ضد اكثر زعيمين في العالم تسببوا في شعوره بالهزيمة (ناتانياهو وبوتين ) ، وبين من نظروا الي القرارين نفسهما بأعتبارهم جزء من المعركة المفتوحة بين الديمقراطيين والجمهوريين لزرع العراقيل امام بعضهما البعض ، وهي معركة ممتدة وستكون لها تداعياتها علي السياسة الامريكية خلال عهد ترامب.
الا ان كلا التفسيرين يحيل القضية الي وضع تتواري فيه المصالح الاستراتيجية لقوي عظمي لصالح الصراعات الشخصية والحزبية ، بينما الحقيقة ان هذه القرارات تمثل قناعة ووجهة نظر جزء لا يستهان به من النخب السياسية الامريكية ، بما يجعل قرارات اوباما جزء من صراع أعمق حول اختيار الطريق الأمثل لتحقيق المصالح الامريكية .
فيما يخص موقف الامتناع عن التصويت علي قرار مجلس الأمن الذي تم تمريره ويقضي باعتبار الاستيطان الاسرائيلي في الاراضي الفلسطينية غير مشروع ومناقض لمبادئ القانون الدولي ، فأن الموقف الامريكي لم يكن مفاجئا بل كان يتم التمهيد له منذ اكثر من عام. ومن خلال ما كشفته صحيفة واشنطن بوست الصادرة في ٢٦ ديسمبر ٢٠١٦، فأن مداولات كثيرة بدأت في سبتمبر بين الولايات المتحدة وعدد من الدول المعنية بالصراع الفلسطيني - الاسرائيلي لإيجاد المناخ المناسب لاستئناف عملية السلام بين الطرفين ، ولأن الولايات المتحدة ومعها العديد من الدول الأوروبية كانت مقتنعة بصحة موقف رئيس السلطة الفلسطينية ابو مازن الذي رفض استئناف المفاوضات مع اسرائيل قبل إيقاف الاستيطان ، ولأن أيضا لا يوجد امام هذه الدول أية وسيلة للتأثير علي قرارات ناتانياهو الذي تؤيده الأحزاب اليمينية المتشددة وتمنعه في نفس الوقت من المس بالمستوطنات بأية صورة. لهذه الأسباب كان من الضروري ان تتولي الأمم المتحدة وذراعها الأهم، مجلس الأمن، مهمة تحقيق هذا الهدف، اَي ادانة الاستيطان وجعل القرار الذي صدر لاحقا بمثابة ضغط علي اسرائيل لكي تقوم بمبادرة تحتوي علي الأقل علي عرض بوقف النشاط الاستيطاني اثناء عملية التفاوض.
ان العودة لمواقف الرؤساء الأمريكيين الجمهوريين منذ عام ١٩٩٥ تثبت ان الولايات المتحدة مقتنعة بأنه لا استقرار في الشرق الأوسط بدون حل يمنح الفلسطينيين دولة قومية تحقق تطلعاتهم الوطنية ، كما ان واشنطن ظلت تعتبر الاستيطان الاسرائيلي عقبة في طريق التسوية. وفِي عام ١٩٩١ ضغطت إدارة الرئيس جورج بوش علي رئيس الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت يتسحاق شامير وحرمت اسرائيل من قروض بضمانات أمريكية اذا ما رفضت مشاركة الفلسطينيين في مؤتمر مدريد الذي انطلق في نهاية نفس العام لأجل احلال السلام النهائي في الشرق الأوسط . بالإضافة الي ذلك، حرص كافة الرؤساء الأمريكيين علي اختلاف انتماءاتهم علي الامتناع عن تنفيذ قرار نقل السفارة الامريكية من تل ابيب الي القدس ، حيث تعتبر الولايات المتحدة القدس الشرقية مدينة محتلة ولا توافق علي مشروعية ضمها بقرار إسرائيلي مناهض للقوانين الدولية.
ان حل الدولتين قناعه حقيقية لدي اغلب النخبة السياسية الامريكية سواء كانوا جمهوريين او ديمقراطيين ، وهو حل يحقق المصلحة الامريكية، خاصة مع وصول التهديدات الإرهابية لآفاق غير معهوده ، وتذرع الجماعات الاسلامية المتطرفة بالمواقف الامريكية من الصراع العربي - الاسرائيلي لتوجيه ضرباتهم للمصالح الامريكية والغربية. و بمعني آخر، لم يشذ الرئيس اوباما عن اسلافه ولَم يبتعد عن ثوابت الموقف الامريكي المبني علي رؤية استراتيجية عندما قرر الامتناع عن التصويت علي قرار ادانة الاستيطان.
ولكن رغم ذلك، من المتوقع ان يضع قرار مجلس الأمن إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب امام تحدي حقيقي، وهو التوفيق بين ما كان يتعهد به ترامب في اثناء حملته الانتخابية بعدم إجبار اسرائيل علي قبول سياسات تضر بمصالحها الأمنية ، وبين متطلبات حماية المصالح الأمريكية والأمن القومي الأمريكي. ومن المنتظر ان يستمر ترامب في الضغط علي الدول العربية لكي تمتنع عن تقديم مشروعات قرارات إضافية للأمم المتحدة تبني علي قرار ادانة الاستيطان ، ولكنه سيحاول في الوقت نفسه ان يقنع الإسرائيليين بضرورة تقديم مبادرة تمنح الفلسطينيين الأمل، وتقدم للسلطة الفلسطينية مبررا لاستئناف المفاوضات مع الإسرائيليين تحت ذريعة ان ذلك سيكون في مصلحة الجميع بما فيهم الولايات المتحدة وإسرائيل.