أعطى فوز دونالد ترامب فى الانتخابات الأمريكية دفعة قوية للأحزاب والحركات الشعبوية ذات التوجهات القومية المتطرفة فى أوروبا. كان البيت الأبيض هو الشاطئ الأول الذى بلغته الموجات الشعبوية المرتفعة فى أوروبا وأمريكا، بعد أن نجحت إحداها فى إخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى قبل نحو ستة أشهر على الانتخابات التى فاز فيها ترامب. وتتجه الأنظار الآن إلى هولندا وفرنسا اللتين قد تحمل الانتخابات فيهما، أو فى احداهما، حزباً شعبوياً إلى السلطة فى الربيع القادم ، بعد أن نجحت موجة مد شعبوى فى تبكير موعد الانتخابات الإيطالية نتيجة رفض الإصلاح الدستورى فى استفتاء أُجرى فى ديسمبر الماضى.ويثير هذا المد الشعبوى بموجاته المتزايدة سؤالين أساسيين، أحدهما عن تفسيره والعوامل الدافعة إليه، والثانى عن مآله وآثاره على الديمقراطية فى معاقلها الغربية.
أولا: دوافع المد الشعبوى:
تعبر الموجات الشعبوية المتلاطمة فى أوروبا والولايات المتحدة عن أزمة عميقة فى نظمها الديمقراطية التى أصابها جمود أخذ يزداد ويُنتج تداعياته السلبية على مدى أكثر من عقدين. وليست هذه هى المرة الأولى التى تُصاب فيها أنظمة ديمقراطية غربية بالجمود. ولكن آثار الجمود فى المرحلة الراهنة تظل أقل فداحة مما ترتب على مثله فى النصف الأول من القرن العشرين، وأدى إلى صعود الفاشية والنازية، وأنتج حرباً مدمرة عام 1939. غير أن استمرار الجمود الراهن، مصحوباً بتداعيات الإرهاب، يمكن أن يقود إلى كارثة عالمية أخرى.ويحدث الجمود فى النظام الديمقراطى عندما تقل ديناميكيته، فيفقد أهم ما يميزه على الأنظمة الاستبدادية، أى القدرة على تصحيح أخطائه.
ويقدم فرانسيس فوكوياما فى كتابه الصادر عام 2014 "النظام السياسى والأفول السياسى" تحليلاً مهماً للنظام الأمريكى ينطبق على الدول الغربية بوجه عام. فالأمراض التى شخَّصها شائعة الآن فى هذه الدول، مثل عجز الأحزاب والمؤسسات السياسية التقليدية عن تجديد خطاباتها التى انحسرت الفروق بينها، فصارت متقاربة ورتيبة وخالية من الرؤى الملهمة التى تخلق حيوية فى المجتمع، وعاجزة عن ضخ دماء جديدة وتطوير آليات التجنيد والتصعيد فى داخلها. ويؤدى ذلك إلى إعادة تدوير نخب محدودة فى مستوياتها القيادية.
ولذلك تتراجع معدلات ونسب المشاركة فى الانتخابات، وتؤدى إلى أزمة فى التمثيل عبرت عنها حركات اجتماعية غاضبة فى شعارات مثل "نستطيع الاقتراع، ولكننا لا نملك الصوت". كما تنخفض أعداد الملتحقين بالأحزاب، إذ وصلت فى العقد الماضى إلى أدنى معدلاتها خلال نصف القرن الأخير، كما يتضح فى دراسة أجراها الأيرلندى بيترميل على 13 دولة أوروبية فى كتابه الصادر 2013 بعنوان "حكم في الفراغ" أو Ruling the Void.
ويقترن هذا الجمود بشيوع خطاب غير ديمقراطى عن إمكان تحويل تلاشى الحدود بين اليمين واليسار إلى "إجماع ديمقراطى وسطى" فى مجتمع مستقر. ويدل هذا الخطاب على أن النموذج الغربى بلغ نهاية مرحلة دون أن يجد طريقاً إلى مرحلة جديدة فى تطوره، فأصبحت التعددية الثقافية والاجتماعية التى تُمَّيزه على غيره مهددة بفعل تداعيات الجمود، لأن تعدديته السياسية صارت راسخة، ويتعذر اقتلاعها بخلاف ما حدث فى بعض بلاده فى الثلاثينات.
وتسعى القوى الشعبوية الصاعدة إلى التمدد فى المساحات التى فرَّغها الجمود بعد أن تحولت السياسة من نشاط يشارك فيه معظم الناس إلى مشهد يتفرج عليه كثير منهم. كما تزداد فرصها بسبب إخفاق الحركات الاجتماعية ذات التوجهات اليسارية فى ملأ الفراغ، إذ ينحسر بعضها بعد فترة وجيزة، ويُحتوى بعضها الآخر فى أطر حزبية تتجه إلى التكيف مع المنظومة الجامدة.
وبينما يفسر البعض ذلك بأن حالة الجمود مازالت أقوى من ديناميكية الحركات الاجتماعية، ينبغى الانتباه إلى نقطة الضعف الرئيسة فى كثير منها، وهى أنها تعرف ما لا تريده أكثر مما تدرك ما تريد، فضلاً عن أن الميل اليسارى لمعظمها يتسم بتوجهات شمولية فى بعضها. وتظهر هذه التوجهات فى شعارات من نوع "نحن الـ 99 فى المئة".
ولذلك أصبح القوميون المتطرفون أكثر تأثيراً وقدرة على التقدم لملأ الفراغ الناتج عن الجمود، ولكن في ظروف مختلفة وبأشكال متباينة عما حدث فى عشرينات القرن الماضى وثلاثيناته.
وساعد على ذلك الانحسار الذى حدث تدريجياً فى بعض أهم القيم الليبرالية الأساسية بالتوازى مع أزمة النظم الديمقراطية. لم يكن هذا الانحسار ملموساً حتى وقت قريب لأن توسع نطاق العولمة حجبه وأعطى انطباعاً معاكساً، بل تصور كثيرون أن الليبرالية تنتصر وتحدث أحدهم عن نهاية التاريخ.
لم يكن واضحاً لكثيرين أن القوى "النيوليبرالية" والمحافظة الجديدة، التى أعطت العولمة زخمها الاقتصادى، هى فى حقيقتها معادية لأهم مقومات الثقافة الليبرالية من تنوع اثنى ودينى وتسامح مع الآخر أياً كان الخلاف معه.
وهكذا كانت اللحظة التى بدا فيها أن الثقافة الليبرالية تنتصر هى نفسها لحظة بداية انحسارها، لأن العولمة الاقتصادية المنفصلة عن قيمها الثقافية قسمت المجتمعات إلى رابحين منها وخاسرين بسببها. ولم تؤخذ بجدية الكتابات القليلة التى نبَّهت مبكراً على أن الليبرالية تنحسر، مثل كتاب فريد زكريا "مستقبل الحرية: الديمقراطية غير الليبرالية فى أمريكا وخارجها" الصادر عام 2003.
وهكذا ارتبط صعود قوى شعبوية على أكتاف الخاسرين من العولمة خلال العقد الأخير بانحسار الثقافة الليبرالية بالتوازى مع توسع النسخة الأكثر تطرفاً فى نموذجها الاقتصادى.
ثانيا: الشعبوية .. ومستقبل الديمقراطية:
يُعد هذا التحول صوب ديمقراطية غير ليبرالية ارتداداً تاريخياً يثير الأسى، ولكنه لا يبعث على الاستغراب الذى أصاب من تعودوا على أن تكون الديمقراطية ليبرالية. فقد نشأت الليبرالية أولاً ثم الديمقراطية فى عمليتين تاريخيتين منفصلتين، وإن كانت الأولى فيهما ساهمت فى ظهور الثانية. فالديمقراطية التى نعرفها اليوم تعود إلى القرن التاسع عشر، أى بعد نحو ثلاثة قرون على الإشراقة الأولى لشمس الثقافة الليبرالية فى عصر النهضة.
وصار اقترانهما بعد ذلك نقلة تقدمية كبرى فى تاريخ البشرية. ولذلك يُعد انفصالهما ارتداداً سياسياً - ثقافياً يجعل الديمقراطية بلا روح، حتى إذا ظلت مؤسساتها تعمل وفق قواعدها، وبقيت إجراءاتها تُحترم حسب أصولها. وفى ظل هذا الارتداد، صار "إرهاب الإرهاب"، أى لجوء دول كبرى وصغرى إلى وسائل إرهابية فى مواجهة إرهاب جماعات عنيفة، أمراً معتاداً ومقبولاً فى أوروبا وأمريكا بعد أن صارت الثقافة الليبرالية هامشية فى سياساتها حكوماتها.
وهكذا يواجه العالم خطراً لا يقتصر على صعود قوى شعبوية مرشحة لاعتلاء السلطة فى فرنسا وهولندا وإيطاليا بعد الولايات المتحدة، بل يشمل ازدياد الاتجاه لاستخدام آلية الاستفتاء العام لأخذ رأى الشعب فى قضايا مختلفة.
وقد أحدث استفتاءان فى 2016 تحولين خطيرين فى أوروبا، وهما استفتاء "البريكزيت" الذى أخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى فى يونيو، والاستفتاء على الإصلاح الدستورى فى إيطاليا فى نوفمبر. وها هى قوى شعبوية أوروبية عدة تُشهر سلاح الاستفتاء سعياً لتكرار ما حدث فى بريطانيا، الأمر الذى يُمثَّل تهديداً للديمقراطية الغربية ككل، وليس خطراً على التجربة الأوروبية فقط.
فالاستفتاء مكروه فى التقاليد الديمقراطية الليبرالية بوصفه سلاحاً تفويضياً يلائم التيارات الأكثر غوغائية، منذ أن استخدمه لويس بونابرت عام 1851 للحصول على فترة رئاسة ثانية لم تكن مخولة له، ثم لجأ إليه فى العام التالى لإلغاء الجمهورية الثانية التى كان هو رئيسها، وتحويلها إلى امبراطورية (الامبراطورية الفرنسية الثانية 1852-1870).
ولكن هذا الخطر لن يطول. فالأرجح أن تبقى الديمقراطية متعثرة فى الغرب لبضع سنوات، ولكن بدون اقتلاع قواعدها الإجرائية، أو مصادرة تعدديتها السياسية رغم تراجع قيمة تعدديتها الثقافية، ولن يلوح بالتالى شبح إعادة إنتاج فاشية الثلاثينات التى انتهى عصرها، وأُعيد إنتاجها فى صورة شعبوية جديدة.
ولكن حتى إذا صح توقع أن موجة الارتداد الراهن فى الغرب لن تطول، ستكون الأوضاع فى منطقة الشرق الأوسط أكثر مأسوية خلال السنوات التى ستبقى فيها، وستصبح الأجواء أكثر ملائمة للأنظمة الأشد استبداداً وتوحشاً، وستزداد الذرائع لتسويق خرافة "الرئيس الذى لا بديل عنه"، وتؤدى إلى مزيد من انتهاك لحقوق الأقليات (وأحياناً الغالبيات) الإثنية، إلى أن يستعيد العالم مساره التقدمى مجدداً.
والأرجح أن الوقت لن يطول قبل استعادة هذا المسار, وأن التاريخ لن يدور دورة كاملة بسبب قدرة النظام الديمقراطى على التصحيح، وقوة الثقافة الديمقراطية رغم الاهتزاز الذى أصابها. ولكن منطقة الشرق الأوسط ستحتاج لوقت أطول الى أن تستعيد روح الربيع الذى منعته عواصف القوى المضادة للتقدم من أن يزدهر.وهذا هو الفرق المهم بين شعبوية يجوز القول بمعنى ما إنها عابرة فى الغرب، ودكتاتورية مقيمة فى منطقتنا إلى حين، ومرتبطة ببدائية تُعشش فى أعماق مجتمعاتنا.
لقد التحق مواطنون غربيون نشأوا فى ظل ثقافة ديمقراطية بأحزاب وحركات شعبوية، واقترع كثير منهم لمصلحة مرشحين شعبويين، بحثا عن بديل سياسى، وليس عن مُنقذ أو مُخلَّص خارج المجال السياسى. ولا يعنى اقتراعهم لمرشح من خارج الطبقة السياسية التقليدية نكوصاً عن السياسة فى المطلق، بل بحثاً عن سياسة أخرى بديلة. ويختلف ذلك عما يتخيله من يغريهم الخطاب الشعبوى الفارغ من أى محتوى فى مصر وبلاد أخرى فى منطقتنا وغيرها حين يبحثون عن مخلَّص ويظنون أنه قادر على إنقاذهم.