جاءت الهجمات الإرهابية التي شهدتها تركيا منذ بداية العام الماضي في شكل موجات تباينت في الارتفاع والخفوت وتراوحت وتيرتها مع ميل دراماتيكي للصعود ، بما أثمر عن ضحايا تجاوزت الاربعمائة قتيل وعشرات المئات من الجرحى، وبينما استأثر تنظيم "جبهة حرية كردستان" باستهداف المؤسسات العسكرية والشرطية، فإن تفجيرات "الدوكومجلار" (النساجون)، والذي يمثل ذراع "داعش" الاستخباراتية الطولي بتركيا، استهدفت المناطق السياحية والأماكن المكتظة بالأهداف الحيوية، على غرار ما شهدته عواصم غربية من تفجيرات انتحارية أو هجمات إرهابية، عبر تكتيكات مركبة ابتغت بث الرعب، وايقاع أكبر قدر من الخسائر البشرية، للتأثير على الأوضاع السياسية، ومضاعفة الارتدادات الاقتصادية، بما من شأنه إعادة قدرا أكبر من "الهيبة" المتأكلة للتنظيم، في ظل ضغوط متراكمة واجهتها مناطق حضوره الرئيسية.
وقد مثٌل الهجوم على "ملهى ارينا" في إسطنبول، وهو ما أفضى إلى مقتل 39 شخص وإصابة ٧٠، أغلبهم من السائحين الأجانب، ختاما لعام افتتح فيه تنظيم داعش أيضا هجماته على الأراضي التركية، باستهداف وسط إسطنبول التاريخي في 12 يناير 2016، بما أدى إلى مقتل نحو 12 سائحا المانيا.
ويبدو أن الهجوم المسلح الأخير في قلب الحي الفاخر على الضفة الأوروبية للبوسفور يأتي في أعقاب التصعيد التركي على الساحة السورية، ووعيد أبي حسن المهاجر، المتحدث الجديد باسم تنظيم داعش، في 10 ديسمبر الحالي، لتركيا بسلسلة من الهجمات غير المسبوقة ردا على تحول أولويات سياساتها الخارجية، واقدام قواتها على شن عملية "درع الفرات".
وقد شهدت تركيا منذ دخولها الأراضي السورية 6 عمليات إرهابية، أربع منها في تركيا، واثنيتن في سوريا، تورطت التنظيمات الجهادية في ثلثيها، حيث سبق الهجوم الأخير، اغتيال السفير الروسي، ومن قبله استهداف 13 جندي تركي في مدينة الباب، ثم إعلان تنظيم داعش حرق جنديين أتراك أحياء، وذلك داخل الأراضي السورية.
إن أغلب التفجيرات الانتحارية والهجمات الإرهابية المتنوعة التي شهدتها تركيا خلال العام الماضي وبلغت نحو 19 تفجيرا، تبنت "جبهة كردستان" ثلثيها، فيما الثلث الآخر تبناه تنظيم داعش، وهى هجمات في مجموعها ارتبطت بخلايا نائمة شابة أو أسراب هائمة حديثة السن، استهدفت استغلال الثغرات الأمنية الضخمة التي تعاني منها تركيا، والانتقام من تحولات سياساتها المحلية، التي عززت الانقسام المجتمعي بفعل تنامي تيارات مجتمعية داعشية الفكر والهوي، وانتقاما من تبدلات سياساتها الخارجية الدراماتيكية على مسرح إقليم الشرق الأوسط.
الهجوم المسلح الأخير، من حيث نمطه وطبيعة أهدافه وتكتيكات استهدافه للمدنيين المحتفلين ببداية العام الجديد، قد لا يختلف عن طبيعة الهجمات التي تعرضت لها بلدان أوروبية مختلفة سابقا، بما يثبت صدقية بيان داعش بشأنه، ورواية السلطات التركية إزاءه، غير أنه في الوقت نفسه يعكس طبيعة التحديات المركبة التي ستواجهها تركيا خلال الفترة المقبلة.
ذلك بسبب السياسات التركية التي أفضت إلى تراجع ضخم في قدرات تركيا الأمنية والعسكرية، جراء سياسات تعزيز الانقسام داخل صفوف الجيش التركي، واعتقال أكثر من نصف جنرالاته، وإلغاء المدارس العسكرية، وتوسعة مجال دخول خريجي المدارس الدينية إلى الأجهزة والمؤسسات الأمنية، وانهيار التعاون الاستخباراتي مع العديد من الدول الأوروبية، وشمول الإقالات والاعتقالات للمئات ممن تلقوا تدريبات في دول غربية. بالإضافة إلى توزيع الجهد العسكري بين مدن جنوب شرق تركيا، و"مدن القلب"، ومناطق الحدود الرخوة، وفي الميدانين السوري والعراقي، بما أفضي إلى ثغرات أمنية كبرى، وخلل هيكلي في قدرات المؤسسات الأمنية التركية وسياساتها الاستباقية.
ربما ينبأ ذلك بأن تركيا قد تنتقل من حالة مواجهة "الأمواج الإرهابية" إلى مجابهة "الطوفان الإرهابي"، بسبب سياسات الحدود المفتوحة السابقة، وصعوبة العودة عنها عمليا وإجراءيا، والضغوط التي تتعرض لها التنظيمات الجهادية على الساحيتن السورية والعراقية، وبفعل انتشار الخلايا النائمة في المدن التركية، وكثافة البيئات الحاضنة على الحدود مع دول الجوار الجغرافي، فضلا عن سهولة استهداف الأراضي التركية، والمصالح الغربية فيها.