وهي الإجراءات التي طالت آلاف العسكريين وعناصر الشرطة وأساتذة الجامعات والقضاة والمعلمين ونوابا أكراد إضافة إلى إغلاق ما يقرب من 170 مطبوعة ووسيلة إعلامية.
ودخلت العلاقات التركية- الأوروبية مرحلة الشحن عشية صدور تقرير الاتحاد السنوي في نوفمبر الماضي، والذي اعتبر أن أنقرة "انحرفت عن معايير مفاوضات العضوية".
كما وصلت الحرب الكلامية إلى مستوي غير مسبوق، فبينما شبه بعض قادة أوروبا إجراءات تركيا بـ "الحقبة النازية"، وصف الرئيس التركي قرار البرلمان الأوروبي الأخير بأن "لا قيمة له"، بل ووجه انتقادات حادة لرئيس البرلمان مارتن شولتز على الهواء مباشرة، وصلت إلى درجة مخاطبته بـ "من أنت".
تركيا والاتحاد: ماراثون مفاوضات العضوية
بدأت مفاوضات اللحاق بالقطار الأوروبي رسمياً في عام 1963 حينما أصبحت تركياً عضواً مشاركاً في "الجماعة الاقتصادية الأوروبية"، ثم تقدمت رسمياً بطلب الانضمام إلى السوق الأوربية المشتركة في 14 أبريل 1987 ثم وقعت في 13/12/1995 مع الاتحاد اتفاقية الاتحاد الجمركي لدعم الروابط التجارية والاقتصادية.
ومثلت قمة الاتحاد الأوروبي والتي عقدت في العاصمة الفنلندية هلسنكي يومي 10 و11 ديسمبر 1999 علامة فارقة في مسيرة الأتراك الطويلة والمعقدة من أجل نيل العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، حيث تم قبولها كدولة مرشحة، قبل أن تبدأ المفاوضات عملياً عام 2005، أي بعد 3 سنوات من وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة السلطة في عام 2002.
وبالنظر إلى عمليات انضمام عدد من البلدان الأوروبية للسوق الأوروبية المشتركة كأسبانيا والبرتغال واليونان في مرحلة ما، وقبول عدد آخر كدول مرشحة للسوق الأوروبية المشتركة التي أصبحت اتحادا في مرحلة تالية، جعل من الحالة التركية وضعاً استثنائياً إن لم يكن فريداً، ليس بحكم مسار المفاوضات المعقدة والطويلة، وإنما أيضا بحكم هوية تركيا كدولة مسلمة تتناقض في جانب معتبر من توجهاتها واتجاهاتها مع النادي الأوروبي المسيحي.
الاتحاد وتركيا بين التوبيخ والتلويح ببدائل
أشعل تصويت غير ملزم للبرلمان الأوروبي في نوفمبر الماضي لتجميد مفاوضات انضمام تركيا مناقشات حادة داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم، وكشف عن التوتر المكتوم داخل حكومته، وخصوصاً الجناح الرافض لسياسات أردوغان تجاه الاتحاد، وتصريحاته المتناقضة بشأن العلاقة مع أوروبا.
كما وسع الخلاف مع أوروبا رقعة الاستقطاب بين الحزب الحاكم والمعارضة مجدداً.
وكانت الكتل الرئيسية في البرلمان الأوروبي قد وبخت تركيا على الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها عشية محاولة الانقلاب في يوليو الماضي، ومد حالة الطوارئ في سبتمبر الماضي لثلاثة أشهر إضافية.
سلوك الاتحاد في مواجهة أنقرة دفع الرئيس التركي إلى تهديد أوروبا بإغراقها باللاجئين، وفتح حدود بلاده أمامهم، في حال تباطؤ الاتحاد في تنفيذ تعهداته بموجب اتفاق مارس 2016، والذي يتضمن تسريع مفاوضات العضوية ودعم أنقرة ماليا فضلا عن السماح لمواطنيها بدخول دول الاتحاد دون تأشيرة شينغن.
والأرجح أن ورقة اللاجئين التي تلوح بها أنقرة في مواجهة انتقادات الاتحاد، لم تكن الوحيدة في يد أنقرة، وأن ظلت الأقوى للضغط من أجل مكتسبات، فقد هددت بالعودة إلى العمل بعقوبة الإعدام التي ألغتها عام 2004 في إطار الإصلاحات الهادفة للانضمام إلى عضوية الاتحاد وتحقيق معايير كوبنهاجن.
سلوك الاتحاد تجاه تركيا ورد فعل أردوغان الغاضب لم يكن الأول من نوعه، فقد سبق أن أبدى الاتحاد امتعاضه من سياسات العقاب الجماعي في تركيا ومصادرة عدد واسع من وسائل الإعلام وتقييد حرية الصحافة إضافة إلى العنف المفرط ضد الأكراد، بل وعد قادة الاتحاد بالتفكير في توفير بدائل جيدة في دول شمال أفريقيا عوضاً عن تركيا لاستيعاب أزمة اللاجئين التي أفرزت انقسامات حادة على دول الاتحاد وأربكت مؤسساته.
في مقابل التوبيخ الأوروبي والتباطؤ في فتح فصول جديدة للعضوية، تعهد أردوغان بالتفكير في عمل استفتاء على غرار بريطانيا لوقف مفاوضات بلاده مع الاتحاد ناهيك عن التهديد بالالتفات إلى "منظمة شنغهاي للتعاون"، وهي تكتل أمني إقليمي يضم الصين وروسيا وبعض دول آسيا الوسطي، وتأسست في العام 2001.
واعتبر الرئيس التركي أن العمل ضمن إطار منظمة شنغهاي سيكون أكثر ملائمة بالنسبة لبلاده، وحيث تتمتع بلادة في المنظمة بوضعية "شريك حوار".
وقد أشار أردوغان لمنظمة شنغهاي وهي يندد بمماطلة الاتحاد الأوروبي المستمرة على مدي 53 عاماً لحسم عضوية تركيا في العائلة الأوروبية.
واستقبلت الصين تلويح أردوغان بالترحيب، وأوضح بيان لوزارة الخارجية الصينية في نوفمبر الماضي أن الصين "تولى اهتماماً كبيراً لرغبة تركيا في الانضمام إلى منظمة شنغهاي وأن بكين مستعدة لتقديم الدعم اللازم لتحقيق هذه الخطوة".
والأرجح أن ثمة حرصاً تبديه منظمة شنغهاي على عضوية أنقرة، وكان من الأمور اللافتة موافقة روسيا والصين على ترأس تركيا لاجتماع نادي الطاقة في منظمة شنغهاي للتعاون في دورته العام المقبل 2017.
وهذه هي المرة الأولى التي تمنح فيها المنظمة رئاسة الاجتماع لدولة غير عضو.
استقطاب حزبي
على الرغم من أن أردوغان لم يعد مغرما بالنموذج الأوروبي كما كان الحال عند مجيئه ورفاقه إلى السلطة في العام 2002 بفعل مماطلة الاتحاد، وإرهاق تركيا بالاشتراطات، إلا أن قطاعات سياسية وشعبية ما زالت تري في الاتحاد أفضل الخيارات، وأن استيفاء المعايير واشتراطات كوبنهاجن مسألة وقت.
فداخل العدالة والتنمية الحاكم تعالت بعض الأصوات الرافضة لمسلك أردوغان وتوجهاته تجاه التعامل مع قرار البرلمان الأوروبي غير الملزم بتجميد عضوية أنقرة.
وجاءت تصريحات محمد شيمشيك نائب رئيس الوزراء كاشفة عن استقطاب لا تخطئه عين داخل الحزب تجاه عضوية الاتحاد، فقد انتقد شيمشيك تصريحات أردوغان التي استخفت بقرار البرلمان الأوروبي، كما أبدي امتعاضه من وصف رئيس الوزراء بن على يلدريم مشروع الاتحاد بـ "الفاشل".
وكتب شيمشيك في نوفمبر الماضي على موقع تويتر "الاتحاد الأوروبي ليس مشروعاً فاشلاً، بل قصة نجاح حقيقية يقيم فيها أكثر من 450 مليون مواطن في رفاهية وسعادة ويجب ألا ننسى أن اقتصادنا مرتبط بهم" مضيفا أن "الاقتصاد التركي في وضع حرج".
جدير بالذكر أن الليرة التركية تشهد تراجعاً واضحاً أمام الدولار فضلا عن أن ما يقرب من 50% من صادرات تركيا تتوجه إلى السوق الأوروبي بينما يصل حجم الاستثمارات الأوروبية في تركيا إلى نحو 60% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية.
وعلى غرار أصوات مثل شيمشيك وآخرين في السلطة، انتقد حزب الشعب الجمهوري على لسان رئيسه كمال كليجدار أوغلو تصريحات رجب طيب أردوغان، حول إمكانية اللحاق بمنظمة شنغهاي للتعاون.
وقال في 25 نوفمبر الماضي أمام اجتماع جمعية رجال الأعمال والصناعة في أنطاليا، "هل سيحاولون جرف تركيا في هذه الفترة التي تنتشر فيها الحكومات الدكتاتورية؟، لن نسمح بذلك ولو لم يبق منا سوى رجل واحد"، وأضاف "لا يمكن لأحد أن يسحب تركيا من طريق التحضر الذي سلكته".
الخلاف داخل العدالة والتنمية من جهة، وبين السلطة والمعارضة أمتد أيضا إلى الموقف من عودة عقوبة الإعدام، ففي مقابل قناعة أردوغان وجناح معتبر داخل الحزب الحاكم ومعه حزب الحركة القومية لإعادة العمل بعقوبة الإعدام، خاصة مع تعثر مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد، يرفض بعض أعضاء حزب العدالة والتنمية إضافة إلى حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطية عودة ههذه العقوبة.
في صفوف العدالة والتنمية، أعلن أرطغرل تركش نائب رئيس الوزراء، رفضه عودة عقوبة الإعدام التي تثير قلق أوروبا بعد أن توقف العمل بها منذ العام 1984، وألغيت قانونياً في العام 2004 وقال "الأمر لا جدوى منه وسيؤذي تركيا".
من جانبها أعلنت المعارضة المتمثلة بحزب "الشعب الجمهوري" الذي يمثل إرث أتاتورك، وحزب "الشعوب الديمقراطي" الموالي للأكراد، رفضها العمل بعقوبة الإعدام.
ويرفض الجناح الإصلاحي في العدالة والتنمية ومعه المعارضة العمل بعقوبة الإعدام لسببين رئيسيين هما: أنها أولا قد تنسف مفاوضات العضوية الأوروبية، وكان بارزاً، هنا، تصريح مسئولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فيدريكا موغيريني عشية محاولة الانقلاب في يوليو الماضي، حيث قالت "لأكون واضحة تماما...لا دولة تستطيع أن تكون عضواً في الاتحاد الأوروبي وتطبق حكم الإعدام".
بينما يرتبط السبب الثاني بمخاوف المعارضة من أن يكون العمل بعقوبة الإعدام مدخلاً لتصفية الخصوم السياسيين.
تصاعد الاستقطاب
الاستقطاب الحزبي على خلفية العضوية الأوروبية مرشح لمزيد من الاستقطاب للعديد من الاعتبارات ربما من أهمها تصاعد اللوم على حزب العدالة والتنمية بعد تصريحات إيجابية لقادة الاتحاد تدعو إلى مواصلة المفاوضات، ومن بينهم رئيس وزراء لوكسمبورج الذي عارض وقف المفاوضات قائلاً "إذا قطعت كل شئ، لن يبقى حبل يربط بيننا" وأضاف "الإرادة للعمل معاً موجودة رغم أي شئ".
أما على الجانب التركي فقد بدأت تتصاعد انتقادات وأن جاءت على استحياء لبعض أعضاء العدالة والتنمية بجانب المعارضة الأعلى صوتاً جراء سياسات الإقصاء والتطهير العشوائي ضد الخصوم السياسيين، والتضييق على الحريات، والتي انتهت بتراجع الصورة الذهنية لتركيا لدي العائلة الأوروبية.
خلاصة القول أن سلوك الرئيس التركي تجاه الاتحاد الأوروبي يكشف عن ارتباك لا تخطئه عين، فبينما توعد الاتحاد عشية قرار البرلمان الأوروبي عاد في 29 نوفمبر الماضي ليقول "لم نغلق كتاب الاتحاد الأوروبي"، ثم أضاف في شكل يكشف حجم التناقض والتذبذب في آن معاً "لدي تركيا بدائل عن الاتحاد".
والواقع أن هذا السلوك ساهم في تسخين جبهة الداخل، وكشف عن مساحات التناقض والاختلاف داخل الحزب الحاكم من جهة، واتساع البون مع المعارضة التي تتوق إلى اللحاق بالقطار الأوروبي من جهة أخرى، والتي سئمت كما بعض الإصلاحيين في العدالة والتنمية بدائل أردوغان وتصرفاته المنفلتة أحياناً.